الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
39/02/09
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- مبحث القطع والأمارات والأصول العملية.
بل يمكن الترقي في الاشكال فيقال:- إنه حتى لو كان مدرك الفقيه آية أو رواية يبقى الاشكال على حاله ، وذلك ببيان: أن شرط التمسّك بظهور الآية أو الرواية ثبوت الظهور وعدم وجود المعارض له وعدم وجود المقيد أو المخصص ، وهذه الأمور الثلاثة ليست ثابتة للمكلف المقلِّد العامي فلا يكون الحكم في حقه ثابتاً إلا بعد تمامية هذه الثلاثة ، وحيث لم تتم هذه الثلاثة فالحكم لا يكون ثابتاً في حقه ، فكيف يفتيه الفقيه ويقول إنَّ هذا حكم الله في حقك ؟
ربما يجاب ببعض الأجوبة:- وهذه الأجوبة بعضها قد يكون خاصاً بما إذا كان المستند هو الاستصحاب وبعضها يعم ما إذا كان المستند هو الاستصحاب أو غيره ، ونذكر ثلاثة أجوبة:-
الجواب الأوّل:- وهذا الجواب ناظر إلى حالة كون المستند هو الاستصحاب ، وحاصله:- إنه بناء على عدم اشتراط اليقين بالحالة السابقة في جريان الاستصحاب وأنَّ المدار على ثبوت الحالة السابقة وإن لم يكن بها يقين ، إنه بناءً على هذا يمكن جريان الاستصحاب ، إذ بالتالي لا يشترط اليقين حتى يقال إنَّ المكلّف فاقد لليقين - سواء كان هو المرأة أو الرجل – فالاستصحاب لا يجري في حقه وبالتالي لا يكون الحكم الناتج من الاستصحاب ثابتاً في حقه ، باعتبار أنه لا يشترط ثبوت اليقين بناءً على هذا المبنى ، وهذا جواب مبنائي.
وفيه:- إنه حتى لو بنينا على هذا المبنى يبقى الاشكال أيضاً ، فإنَّ الشك معتبر في جريان الاستصحاب وإنما ترفع اليد عن اليقين فقط أما الشك فهو معتبر في جريان الاستصحاب، ومعه تعود المشكلة من جديد ، حيث إنَّ المكلف ليس عنده شك فإن الشك فرع الالتفات وهو لا التفات له ، نعم له شك تقديري أي لو التفت لحصل له الشك ، فالمرأة لا يحصل لها شك في أنه بالنقاء وانقطاع الدم تطهر أو لا تطهر ، نعم لو نبّهت على المسألة فسوف يحصل لها الشك أما من دون تنبيه فلا يحصل لها الشك .
فإذن يبقى الاشكال حتى لو لم نعتبر اليقين ، فهو يبقى بلحاظ أننا نعتبر الشك والمكلّف لا شك له فلا يكون الحكم ثابتاً في حقه ، فكيف يفتيه الفقيه؟!!
الجواب الثاني:- إن يقال: إذا أجرى الفقيه الاستصحاب في حقه كما إذا كان الحكم مشتركا بين الرجل والمرأة أو بين الرجال مثل استصحاب بقاء وجوب الجمعة فحينئذٍ يقال إذا ثبت بقاء الوجوب مثلاً في حق المجتهد فبضمّ عدم احتمال اختصاص الحكم بخصوص هذا المجتهد يثبت عموم الحكم في حق الغير - يعني أن وجوب الجمعة ليس بثابت في حق النساء فيثبت في حق الرجال الباقين - ، وهذا جواب لطيف مختصر.
إن قلت:- إنَّ هذا أصل مثبت ، فإننا نحتاج في تعميم النتيجة إلى ضم قضية ليست شرعية ومتى ما كان الوصول إلى النتيجة يحتاج إلى ضم قضية غير شرعية فالاستصحاب يكون مثبتاً وهو ليس بحجة.
ومن الواضح أنَّ هذه قضية ليست شرعية واضح لأنه لا توجد آية أو رواية تدل عليها وإنما يوجد عندنا جزم وجداني من الخارج فهذه ليست قضية شرعية.
قلت:- هذه القضية ليست لازماً للمستصحب بل هي لازمة لنفس الاستصحاب ولابد من التفرقة بين لوازم المستصحب ولوازم نفس الاستصحاب - وهذه قضية ظريفة - فما كان من لوازم المستصحب ولم يكن شرعياً يكون مصداقاً للأصل المثبت كاستصحاب بقاء حياة الولد إلى الآن ولازم فالمستصحب هو الحياة ولازم الحياة إلى الآن هو نبات اللحية وهو ليس أثراً شرعياً وهذا أصل مثبت ، وأما إذا كان ذلك الشيء لازماً لنفس الاستصحاب لا للمستصحب فهذا ليس من الأصل المثبت ومقامنا من هذا القبيل فإنه إذا جرى الاستصحاب في حق هذا نعرف من الخارج أن لازم جريان الاستصحاب في حق هذا ثبوت نتيجة الاستصحاب في حق الغير وهذا لازم لنفس الاستصحاب وهو حجة ، لأنَّ نفس دليل ( لا تنقض اليقين بالشك ) الدال على حجية الاستصحاب تصير له دلالة عرفية وأنه يثبت الاستصحاب ويثبت اللوازم العرفية لنفس الاستصحاب والمفروض أنَّ هذا لازم عرفي لنفس الاستصحاب ، فالدليل الدال على حجية الاستصحاب يدل على حجية الاستصحاب وحجية لازمه العرفي وهذا لازم عرفي متشرعي فيثبت حينئذٍ ، لأنه سوف تصير الدلالة الالتزامية دليلاً ولكن دلالة التزامية عرفية في العرف المتشرعي وهي لا بأس بها.
فإذن النتيجة سوف تكون هي أنه إذا جرى الاستصحاب في حق الفقيه فسوف تثبت النتيجة في حقه بضمّ هذه القضية فيما إذا كان المورد من الموارد المشتركة بين المجتهد وغيره فتنعقد لدليل الاستصحاب دلالة التزامية عرفية فتكون كسائر الدلالات الالتزامية العرفية للدليل فتثبت حينئذٍ بسبب دليل الاستصحاب ، وهذا لابأس به.
فإذن هذا الجواب الثاني لا بأس به إذا كانت النتيجة مشتركة بين المجتهد وغيره بضم هذه الملازمة حينئذٍ يثبت الاشتراك ولكن هذا ينفعنا في غير باب الاستصحاب.
الجواب الثالث:- أن يقال: إنَّ المجتهد إذا أراد أن يستصحب فهو يتمكن أن يقول أنا عندي يقين بثبوت الحكم في حقّ المكلّف وعندي شك الآن في بقاء الحكم في حقّ المكلّف ، فحصل إذن يقين سابق وشك لاحق للمجتهد ولكن يقين بحكم المكلّف وشك ببقاء حكم المكلّف ، وهذا يقين فعلي وشك فعلي وحينئذٍ يجري المجتهد الاستصحاب بلحاظ هذا اليقين الذي هو عند نفس المجتهد لا بلحاظ اليقين الذي عند المكلف حتى يقال هو ليس عنده يقين لأنه غير ملتفت ولا يوجد شك ، كلا بل المجتهد يوجد يقين وشك في حقه.
وألفت الظر إلى أننا قلنا فيما سبق هل الفقيه يلاحظ اليقين لحكمه ؟ هو ليس عنده يقين ، أو يلاحظه بحكم العامي ؟ هو ليس عنده يقين ، ولآن أضفنا شقّاً ثالثاً فنقول إنَّ اليقين للمجتهد ولكن متعلّقه حكم الغير ، فأنا عندي يقين بثبوت حكم الغير وعندي شك في بقاء حكم الغير فيجري الاستصحاب بهذا الشك ، فيندفع الاشكال.
هذا هو الجواب الثالث عن أصل المشكلة.
وقد يناقش بمناقشتين:-
المناقشة الأولى:- إنَّ هذا لغو ولا أثر له فإن اليقين بحكم الغير لا يترتب عليه أثر وإنما الذي يترتب عليه أثر هو اليقين بحكمي أنا لا بحكم الغير فالاستصحاب لا يجري إذ لا أثر لهذا اليقين ولهذا الشك ؟
والجواب:- إنه يكفي لدفع اللغوية ترتب أثرٍ ما وهو جواز الافتاء فإنَّ اليقين بهذا الشكل لو لوحظ وهكذا الشك وجرى الاستصحاب سوف يثبت أثر وهو أنه يجوز للمجتهد أن يفتي للعمي ويقول له إنَّ حكمك هو هذا ، نعم لو لم يترتب هذا الأثر يلزم محذور اللغوية ولكن بعد ترتب هذا الأثر لا لغوية.
المناقشة الثانية:- كيف نثبت أنَّ اليقين بحكم الغير يكفي والحال إن ظاهر دليل استصحاب - وهو ( لا تنقض اليقين بالشك ) - أي يقين ؟ هو اليقين بحكمك أو هو مجمل من هذه الناحية ، والقدر من دليل ( لا تنقض اليقين بالشك ) هو لا تنقض اليقين بحكمك أما بحكم الغير فهذا لا يظهر من دليل الاستصحاب ، فكيف نثبت جريان الاستصحاب بهذا الشكل ؟
والجواب:- إنه لا إشكال في جواز تقليد العامي للمجتهد ولا إشكال في جواز افتاء المجتهد للعامي فإنَّ هذا من القضايا المسلّمة ، وهذه القضية المسلّمة تدل بالالتزام على أنه يكفيك أيها المجتهد ملاحظة اليقين بهذا الشك أي ملاحظة اليقين بحكم الغير.
إذن التعميم لليقين بحكم الغير ثبت بالدلالة الالتزامية لدليل جواز الافتاء والتقليد ، فإن نفس دليل جواز الافتاء والتقليد يدل على كفاية أن يلاحظ الفقيه اليقين بحكم غيره والشك في بقاء حكم غيره.
وعلى هذا الأساس يجري الاستصحاب ويرتفع الاشكال عن الاستصحاب ، بل ويرتفع الاشكال عن التمسّك بالظهور حيث قلنا إنَّ الاشكال يأتي حتى لو تمسّكنا بالظهور إذ نحتاج إلى اثبات أصل الظهور وعدم المعارض وعدم المقيد والمخصّص وهذه لم تثبت في حق العامي.
ونحن نجيب: بأنَّ نفس دليل جواز الافتاء وجواز التقليد يدل بالدلالة الالتزامية على أنَّ ثبوت الظهور عند المجتهد يكفي وعدم المعارض إذا ثبت عند المجتهد يكفي وعدم المقيد أو المخصص إذا ثبت عند المجتهد يكفي وهذه دلالة التزامية لنفس دليل جواز التقليد وجواز الافتاء ، ولعلّ هذا هو مقصود العلمين الشيخ الأعظم والشيخ الخراساني وإن لم يصرّحا بذلك ، فإنَّ الشيخ الخراساني(قده) قال ما نصّه:- ( اعلم أن البالغ الذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم فعلي ..... متعلق به أو بمقلديه )[1] ، إنَّ كلمة ( أو بمقلديه ) لا يبعد أنه يقصد بها هذا المعنى ، يعني أنَّ نفس دليل جواز التقليد يدل بالالتزام على أنَّ يقين المجتهد بحكم المقلِّد كافٍ لجواز الافتاء ولجواز جريان الاستصحاب ، وهكذا تعبير الشيخ الأعظم(قده) حيث قال:- ( فكان المجتهد نائب عن المقلِّد في تحصيل مقدّمات العمل[2] بالأدلة الاجتهادية وتشخيص مجال الأصول العملية )[3] هذه النيابة من أين جاء بها الشيخ الأنصاري ؟ إنه جاء بها من نفس أدلة جواز التقليد والافتاء.
والخلاصة في دفع الاشكال أن نقول:- إنَّ نفس أدلة جواز التقليد والافتاء هي تدل بالملازمة العرفية على أنك ايها المجتهد قائم مقام المكلف العامي في اليقين وفي الشك - يعني في جريان الاستصحاب - وفي اثبات الظهور والمعارض للظهور ولنفي المعارض ولنفي المقيد والمخصّص فهي تدل بالدلالة التزامية على ذلك ، ومعه يجري الفقيه الاستصحاب ويفتي بمقتضى الظهور بسبب هذه الدلالة الالتزامية لدليل جواز الافتاء ، نعم لو لم يكن هناك دليل على جواز الافتاء وجواز التقليد لم يمكن ذلك ، ولكن بعد وجود الدليل على جواز الافتاء وجواز التقليد فنفس هذا الدليل يدل على أنك أيها المجتهد فحصك هو بمثابة الفحص للمكلّف العامي ويقينك وشكك هو بمثابة اليقين والشكك للمكلّف العامي ، فترتفع المشكلة آنذاك.