الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/01/30

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- البحث الثاني عشر ( هل ترد الرواية إذا لم يمكن العمل بإطلاقها )- الاطلاق ومقدمات الحكمة.

ومثال الثاني - يعني الذي يكون احتمال التقييد فيه أكثر من واحد-:- ما تقدم سابقاً من أنه لو تجاوز الشخص الميقات الأوّل ووصل إلى الميقات الثاني أو تجاوز أكثر من ذلك فما هي وظيفته ؟ قالت الروية:- يذهب إلى ميقات أرضه فإن لم يتمكن من أدنى الحل ، والرواية هي صحيحة الحلبي:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل نسي حتى دخل الحرم ، قال:- قال أبي عليه السلام يخرج إلى ميقات أهل أرضه فإن خشي أن يفوته الحج أحرم من مكانه فإن استطاع أن يخرج من الحرم فليخرج ثم ليحرم )[1] ، الكلام وقع في أنه هل يلزم أن يخرج إلى ميقات أهل أرضه حتى ولو لم يمر عليه أو أنّ ذلك بشرط المرور عليه - أي أنه مر عليه ولم يحرم منه - ؟ ومن البعيد أن يكون المقصود هو العود إليه حتى لو لم يمرّ به ، فلذلك لابد من تقييده بأنه يخرج إلى ميقات أهل أرضه إن مرّ عليه ، وقد أعمل هذا التقييد بعض الفقهاء وبالتالي صار إلى ما أفدناه وهو أنه يخرج إلى ميقات أهل أرضه بشرط المرور عليه كما لعله ذهب إلى ذلك غير واحدٍ من الفقهاء ، ولكن في المقابل هناك احتمال آخر وهو أنَّ الامام عليه السلام ذكر ميقات أهل أرضه من باب أنه أسهل له ، فهو يلزم عليه أن يحرم من الميقات ولكن أي ميقات ؟ إنه ميقات أهل أرضة ، ولماذا خصّص ميقات أهل أرضه ؟ باعتبار أنه أسهل لأنه يعرف المنطقة لأنها منطقته بخلاف الميقات الآخر فإنه عادة لا يعرفها ، فباعتبار الأسهلية ذكر الامام عليه السلام ميقات أهل أرضه ، فإذن التقييد بميقات أهل أرضه يمكن أن يكون قد ذكره الامام إما بشرط المرور عليه أو من باب أنه سهل له عادةً - ولنفترض هذا ولا تناقشني فيه لأني سوف أتي بمثال فافترض أنَّ هذا المثال وجيه - ، فإذن الرواية يدور أمرها بين احتماليين للتقييد.

وبعد اتضاح هذا نقول:- إذا كان التقييد المحتمل واحد لا أكثر فالحكم كما قلنا هو رفع اليد عن الاطلاق والعمل بمقتضى التقييد ، أما إذا كان التقييد المحتمل أكثر من واحد فنطرح الاطلاق وبالتالي لا نعمل بها بهذا المقدار ، ولماذا ؟

أما بالنسبة إلى الأوّل - يعني إذا فرض أن احتمال التقييد كان واحداً -:- فالمستند في لزوم الحمل على التقييد هو العرف والعقلاء فإنهم في أمثال ذلك لا يطرحون الدليل رأساً بل يقيدونه ، فلو ورد أنه ( لعن الله بني أمية قاطبة ) وعلمنا أنَّ شخصاً منهم أصبح مؤمناً جزماً فماذا نصنع هنا فهل نطرح الدليل رأساً أو نقيده ؟ نحن نقيده ونقول ( إلا هذا الشخص ) فإن المقصود هو ( إن لم يكن مؤمنا ) لا أن نطرحه رأساً ، نعم في المشكوك مثل عمر بن عبد العزيز نقول إنَّ نفس اطلاق المطلق أو عموم العام هو بنفسه قرينة على أنه ينفي التخصيص فهذا الشخص أيضاً داخل في العموم فإنَّ عموم العام يدل على أنَّ هذا مشمول ل.

وتوجد أمثلة عرفية من هذا القبيل ، فلو قلت لابني مثلاً ( أكرم أهل هذا الشارع ) ولكن كان فيهم شخص ناصبي ففي مثل هذه الحالة هو لا يترك العموم رأساً وإنما يعمل به في غير هذا المورد.

وأما بالنسبة إلى الحالة الثانية - يعني إذا كان التقييد أكثر من احتمال -:- فهنا قلنا نطرح الاطلاق ، والوجه في ذلك هو أنه يحصل اجمال ، فهو بالتالي مقيد ولكن لا نعرف أنه مقيد بهذا النحو أو بذاك النحو كالمثال الذي ذكرناه حيث قالت الرواية ( يخرج إلى ميقات أهله ) المقصود منه أنه إذا مرّ به أو من باب أنه أسهل له ؟ ومادام كلا الاحتمالين موجود فلا يمكن حينئذٍ اثبات هذا الاطلاق لإثبات وجوب الخروج إلى ميقات أهل أرضه إذ يحتمل أنه من باب الأسهلية فالخروج لا يكون واجباً ، فكما أنَّ ذاك التقييد ممكن هذا التقييد ممكن أيضاً فيحصل الاجمال فحينئذٍ لا نعمل الإطلاق في مثل هذا المورد ، هكذا ينبغي أن يفصّل.

بيد أنه جاء في بعض كلمات السيد الخوئي(قده) ما يوحي بأن الاطلاق إذا لم يمكن العمل به يطرح رأساً:-

من قبيل:- إنه توجد عندنا رواية تقول إنَّ رجلاً في الحج أتى بطواف الحج وطواف النساء قبل أن يأتي بالسعي والامام عليه السلام قال لا يضره ذلك فليذهب إلى المسعى يسعى بين الصفا والمروة ، وهي موثقة سماعة :- ( عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال:- سالته عن رجل طاف طواف الحج وطواف النساء قبل أن يسعى بين الصفا والمروة ، قال:- لا يضره يطوف بين الصفا والمروة وق فرغ من حجه )[2] ، وهنا ادّعى السيد الخوئي(قده) أنَّ ظاهر هذه الرواية إنه لا يضرّه حتى لو كان عامداً وهذا لا يمكن الالتزام به وحملها على خصوص الناسي خلاف الظاهر فإذن الرواية لا يمكن العمل بها ، هكذا ذكر في تقرير بحث الحج المطبوع باسم ( الواضح في شرح المناسك )[3] ، ولكن السيد الخلخالي قال في تقريره:- ( ظاهر الرواية جواز التقديم حتى عمداً وهذا مقطوع البطلان فلابد من طرح الرواية ورد علمها إلى أهلها أو حلمها على صورة النسيان كما صنع الشيخ )[4] ، ففي هذا التقرير لم يقل إنَّ حملها على النسيان خلاف الظاهر حتى يلزم طرح الرواية ، فإذن يوجد خلافٌ بين التقريرين في هذا المورد.

ومن قبيل:- ما لو فرض أنَّ الانسان بات في منى ليلة الثالث عشر فمن الواضح أنه يجب عليه أن يرمي في اليوم الثالث عشر ، ولكن إذ لم ينم في منى وإنما ذهب إليها صباحاً فهل يجب عليه الرمي ؟ كلا لا يجب عليه الرمي ، ولكن توجد رواية ظاهرها أنَّ رمي اليوم الثالث عشر واجب مطلقاً من دون تقييدٍ بالمبيت ، وهنا السيد الخوئي(قده) ردها وقال إنها مطلقة ولم تقيد بالمبيت.

والحال أنَّ المناسب على ما ذكرناه أنه لا يردّ الرواية رأساً وإنما يعمل بها بعد تقييدها فيقول ( بشرط أنه قد بات في منى ) لا أنه يطرحها رأساً حيث قال(قده):- ( لا توجد رواية تدل عليه إلا ما في الفقه الرضوي ودعائم الاسلام ولكنهما تدلان على وجوب الرمي في اليوم الثالث عشر بنحو الاطلاق أي حتى إذا لم يَبِت ليلاً وهو لم يقل به أحد )[5] ، فهنا ترك الرواية لأنه لا يمكن العمل بظاهرها ، ولكن بعد صفحات خالف وقال ما نصّه:- ( إنَّ مخالفة الاجماع توجب رفع اليد عن الاطلاق لا طرح أصل الرواية بالمرّة )[6] ، فيوجد نحوٌ من التضارب في كلماته ، فبعض كلماته توحي بأنَّ الرواية إذا لم يمكن العمل بإطلاقها فحينئذٍ تطرح لا أن نقيدها ونعمل بها مقيدة ، وإن كانت بعض كلماته الأخرى توحي بشيءٍ آخر.


[1] وسائل لشيعة، العاملي، ج11، ص328، أبواب المواقيت، ب14، ح1، ط آل البيت.
[2] وسائل الشيعة، العاملي، ج13، ص418، أبواب الطواف، ب65، ح2، ط آل البيت.
[3] الواضح في شرح المناسك، الشيخ محمد الجواهري، ج9، ص372، كتاب الحج.
[4] المعتمد في شرح العروة الوثقى، السيد رضا الخلخالي، ج4، ص372، ط جديدة.
[5] تراث السيد الخوئي ( المعتمد في شرح العروة الوثقى )، الخلخالي، ج29، ص394، 395.
[6] تراث السيد الخوئي ( المعتمد في شرح العروة الوثقى )، الخلخالي، ج29، ص439.