الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/01/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- تتمة البحث التاسع ، البحث العاشر ( الاطلاق في القضايا الشخصية ) ، البحث الحادي عشر ( التمسك بالإطلاق مع الحاجة إلى المؤونة الثبوتية )- الاطلاق ومقدمات الحكمة.

وفي مقام الجواب:- قيل مرّة بانَّ مقدمات الحكمة هي تنتج أيضاً شيئاً واحداً وهو نفي القيد والتقييد وأما ما سوى ذلك فيثبت بالقرائن الأخرى لا بنفس مقدمات الحكمة ، فهي وظيفتها نفي القيد والتقييد الأكثر والأمور الأخرى من شمولية أو بدلية أو نفسية أو نفسية أو عينية أو تعيينية هذه أمور أخرى تثبت بالقرائن.

وقد يجاب:- بأنها تقتضي البدلية دائماً ، لأنها تثبت أنَّ الحكم موجّه إلى الطبيعة والطبيعة تصدق بواحد من أفراده فهي تنتج البدلية دائماً وما زاد على ذلك يثبت بالقرائن لخاصة لا بنفس مقدمات الحكمة فإذن يه لم تنتج إلا شيئاً واحداً وهي أن الحكم معلق بالطبيعة فيكفي الفرد الواحد وغير ذلك يثبت بالقرائن.

وقيل:- إنها تنتج الشمولية ، فإن الطبيعة إذا لوحظت بما هي عين الخارج ومرآة للخارج تنطبق على جميع أفرادها وتشمل جميع أفرادها ، فهي تنتج الشمولية وغير ذلك من البدلية والعينية والتعيينية والنفسية يثبت بالقرائن.

إذن هناك أجوبة ثلاثة في هذا المجال ، وحيث إنَّ تحقيق هذا المطلب لا نرى فيه فائدة ، لأنَّ هذه مجرّد قضية عليمة بحتة ، فسواء كان هذا الاختلاف هو لأجل ما ذكر في الاجابة الأولى أو الثانية أو الثالثة فهذا ليس بمهم فإننا قد اتفقنا على أنَّ نتيجة مقدّمات الحكمة مختلفة أما ما هو سبب الاختلاف فهذا لا يؤثر على الموقف ، فإذن لا داعي إلى تحقيقه ، فلذلك نترك هذا البحث وننتقل إلى البحث التالي.

البحث العاشر:- الاطلاق في القضايا الشخصية.

يمكن أن يقال:- إنَّ الاطلاق يصح التمسّك به في القضية الكلّية دون الشخصية كما إذا فرض أنه سئل الامام عليه السلام ( شخص أكل في نهار شهر رمضان متعمداً ) فأجاب بأنَّ عليه القضاء والكفرة هنا نتمسّك بالإطلاق لا بأس به لأنَّ السؤال هنا عن شيء كلّي عن شخص أفطر متعمداً فعلى هذا الأساس نتمسّك بالإطلاق بلا مانع فلا فرق بين أن يكون هذا الشخص قد أفطر بالأكل أو بالشرب أو بقضية ثالثة وهكذا سائر الخصوصيات ننفيها بالإطلاق أو ننفيها بعدم الاستفصال ، وأخرى يفترض أنَّ القضية شخصية ، ومثال ذلك صحيحة رفاعة التي تقول:- ( قال أبو عبد الله عليه السلام:- إن الحطّابة والمجتلبة أتوا النبي صلى الله عليه وآله فسألوه فأَذِنَ لهم أن يدخلوا حلالاً )[1] وعلى هذا الأساس أفتى الفقهاء بذلك استناداً إلى هذه الرواية ، والمجتلبة هم الذين يجلبون الارزاق إلى البلد والحطّابة هم الذين يجلبون الحطب فهؤلاء ليس عليهم احرام.

وهناك كلام:- وهو أنه هل يلزم أن يتكرر منهم الدخول والخروج إلى البلد أو يكفي ذلك ولو كان أوّل مرة يعمل بهذا العمل ، فلو جلب الأرزاق لأوّل مرة فهل نقول له لابد لك من الاحرام باعتبار أنه لم يكثر الدخول والخروج إلى البد ، أو مثلاً يأتي في الشهر مرة أو مرتين لا دائماً فهل الحكم شامل لمن لا يكثر الدخول والخروج إلى البلد أو يختص بمن يتكرر منه ذلك ؟

أجاب السيد الحكيم(قده)[2] وهكذا السيد الخوئي(قده)[3] [4] :- بأن الرواية مطلقة ولا يوجد فيها قيد ( يكثر الدخول والخروج ) فتعم ّكل مجتلب وكل حطّابة وإن لم يكثر منهم ذلك.

هذا ويمكن أن يقال:- إنَّ هذه قضية شخصيّة وليست كلّية ، إنما تكون كلّية فيما لو فرض أنَّ الامام عليه السلام قال: ( حكم المجتلب والمحتطب أنه يدخل حلالاً ) فهذه قضية كلّية فحينئذٍ يمكن التمسّك بالإطلاق أو عدم الاستفصال ، ولكن الرواية تنقل واقعة في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي قضية شخصية ولعل المتداول في تلك الفترة في المجتلب والمحتطب هي الكثرة الكاثرة أما الدخول مرّة واحدة فهذا ليس من حالتهم لأنهم جماعة قد جاءوا إليه وسألوه ولعلّ عملهم هو هذا ويكثر منهم الدخول والخروج فأجابهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يدخلوا حلالاً ، فكيف تستفيد حينئذٍ أنَّ هذا لحكم يثبت أيضاً في حقّ غيرهم فإن الرواية ناظرة إلى حطّابة خاصّين وهم حطابة ومجتلبة لك الزمن والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعرف أحوال الحطّابة بأنهم يكثر منهم الدخول والخروج ، فكيف تتمسّك بالإطلاق أو عدم الاستفصال فإنَّ هذه قضية شخصية ؟!! ، وهذه قضية ظريفة ينبغي الالتفات إليها.

فإذن هذه الرواية يشكل التمسّك بها بالتقريب المذكور.

نعم يمكن أن يقال:- إن العرف يفهم أنَّ الخصوصية كل الخصوصية هي لأنه محتطب أو مجتلب فإنَّ هذا هو المهم ، لأنَّ مثل هذا الشخص يحتاجه أهل البلد وإذا أراد أن يحرم فسوف لا يستطيع أن يوصل الحاجة إلى البلد والسوق بل لابد أن يؤدّي المناسك ، فيفهم الخصوصية لكونه مجتلب ويحتاج الناس إلى ما يجلبه من دون خصوصية لمرات دخوله ، وهذا ليس تمسكاً بالإطلاق وإنما هو تمسّك بإلغاء الخصوصية بالنظر العرفي ، وهذا طريق وجيه ومن أراد التمسّك به لا نشكل عليه مادام قد اطمأن به.

إذن عرفنا أنَّ الاطلاق يصح التمّسك به في مورد القضايا العامة دون القضايا الشخصية التي نعبّر عنها أحياناً بـ ( قضية في واقعة ) ، فهنا لا يصح التمسّك بالإطلاق ، ولكن قد يغفل بأنَّ هذه قضية في واقعة.

وأنا ذكرت هذا المثال ولو خالفتني فيه فتستطيع أن تأتي بمثالٍ آخر ، وهذه مناقشة في المثال أي في الصغرى ولكن الكبرى متفقون عليها وهي أنَّ القضية في واقعة لا يصحّ التمسّك بالإطلاق فيها ، أما أنَّ هذا المثال الذي ذكرناه هل هو قضية في واقعة أو لا فهذا ليس بمهم.

البحث الحادي عشر:- التمسك بالإطلاق في مورد الحاجة إلى المؤونة الثبوتية.

تارة التمسّك بالإطلاق لا يستلزم مؤونة ثبوتية ، وأخرى يستلزم ذلك ، فإذا قيل ( أكرم الفقير ) فهنا التمسّك بالإطلاق لا يستلزم مؤونة ثبوتية فيجوز ، وأما مثال ما يستلزم المؤونة الثبوتية فمثل المرأة إذا مرضت واحتاجت إلى الكشف عن بدنها أمام الطبيب والمرأة الطبيبة إما غير موجودة أو هي موجودة لكنها ليست حاذقة كالرجل ، فحينئذٍ لو سالت المرأة المريضة عن حكم ذهابها وكشف بدنها أمام الطبيب فماذا نجيبها ؟ نجيبها ونقول:- لها يجوز لك ذلك لقانون ( رفع عن امتي ما اضطروا إليه ) فأنت مضطرة فيجوز لك ذلك ، هذا لا إشكال فيه.

ولكن لو قال الطبيب صحيح هي يجوز لها أن تكشف من باب أنها مضطرة إلى ذلك ولكن أنا لست بمضطرٍ فيكف يجوز لي أنظر إلى بدنها ؟

قد تجيب بدليل آخر غير دليل رفع الاضطرار فتقول:- إنه من البعيد أنَّ يقول الاسلام للمرأة اجلسي على هذا الحال إلى أن تموتين ولا يجوز لك الكشف أمام الطبيب ولا يجوز للطبيب أن ينظر ، ولكن هذا طريق ثانٍ غير التمسك بحديث نفي الاضطرار ، ونحن الان نتكلّم مع حديث نفي الاضطرار ، ففي مثل هذه الحالة ماذا نصنع من جانب الطبيب ؟

قد يقول قائل:- يوجد طريق ، وهو أن نطبّق حديث نفي الاضطرار على المرأة فإنه يشملها حيث إنها مضطرة ، وإذا جاز لها أن تذهب إلى الطبيب وتكشف عن بدنها فبالدلالة الالتزامية يلزم أنه يجوز للطبيب النظر ، إذ لو لم يجز له النظر لم نفعل شيئاً ولم نحلّ المشكلة ، فإذا شملها الاطلاق وجوّز لها الكشف فبالدلالة الالتزامية سوف نفهم أنَّ الطبيب يجوز له النظر أيضاً ، وهذا حل لهذه المشكلة ، فنحن نتمسّك بإطلاق الحديث كي يكون شاملاً للمرأة ومن شموله لها نستفيد أنَّ الطبيب يجوز له النظر بالدلالة الالتزامية ، فإذن في المرحلة الأولى تمسّكنا بالإطلاق لإثبات جواز كشف المرأة لبدنها ، وإذا أثبتنا هذا بالإطلاق من باب أنها مضطرة نقول آنذاك إنه بالدلالة الالتزامية يجوز للطبيب أن ينظر وإلا يلزم اللغوية.

وهل هذه الطريقة مقبولة ؟

الجواب:- إذا فرض أنه يوجد عندنا دليل خاص في خصوص هذه يقول ( المرأة المريضة يجوز لها أن تكشف عن بدنها للطبيب إذا كان اشد حذاقة ) فهنا نطبّق الدلالة الالتزامية ، لأنَّ الحديث يشملها ويقول يجوز لها أن تكشف عن بدنها فبالدلالة الالتزامية يجوز للطبيب أن ينظر ، أما إذا لم تكن عندنا رواية خاصة بالمرأة المريضة وإنما نريد أن نتمسّك بإطلاق ( رفع عن أمتي ما اضطروا إليه ) فمن قال إنَّ حديث الرفع يشمل هذه المرأة ؟!! ، فعليك أوّلاً أن تثبت أنه شامل لها ، فإذا كان شاملاً لها فحينئذٍ نطبّق الدلالة الالتزامية ، ولكن من قال بأنه شامل لها ، فلنقل هو من البداية ليس شاملاً لها لأنَّ شمول حديث ( رفع عن أمتي ما اضطروا إليه ) بإطلاقه لهذه المرأة يلزم منه تخصيص دليل حرمة نظر الأجنبي إلى الأجنبية وهذه مؤونة ثبوتية ، فلو لم يكن يستلزم التقييد لقلنا بشمول الاطلاق لها جزماً ، أما إذا كان يستلزم ذلك فمن قال إنَّ الحديث بإطلاقه يشمل هذا المورد ، فلا يمكن التمسّك بإطلاق هذا الحديث في هذا المورد مادام يستلزم مؤونة ثبوتية.

فالمدّعى هو أنه إذا كان التمسّك بالإطلاق في مورد يستلزم مؤونة ثبوتية من جهة أخرى كما في هذا المثال فهنا هل يصح التمسّك بالإطلاق رغم أنه يلزم من تطبيق الاطلاق ما ذكرنا ؟

والخلاصة:- إنَّ الاطلاق يجوز التمسّك به إذا لم يلزم منه مؤونة ، أما إذا استلزم ذلك فهل يجوز التمسّك به ؟

إنَّ هذه قضية نريد أن نبحثها.

 


[1] وسائل الشيعة، العاملي، ج12، ص407، ابواب الاحرام، ب51، ح2، ط آل البيت.
[2] المستمسك في شرح العروة الوثقى، لسيد الحيكم، ج11، ص142.
[3] تراث السيد الخوئي، الخوئي، تسلسل28، ص165.
[4] المعتمد في شرح العروة الوثقى، الخوئي، ج3، ص218، ط قديمة.