الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/01/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- تتمة البحث الثامن ( الاطلاق المقامي والاطلاق اللفظي ) ، البحث التاسع ( اختلاف نتيجة مقدمات الحكمة )- الاطلاق ومقدمات الحكمة.

الفارق الرابع:- إن نتيجة الاطلاق اللفظي واحدة وهي نفي القيد كما ذكرنا وأما نتيجة الاطلاق المقامي فهي مختلفة من مورد إلى آخر ، فمثلاً في مسألة الجهر والاخفات النصوص دلت على أنه لابد من الاخفات في صلاة الظهر والعصر وفي الصلوات الأخرة الجهر فما هو مناط الجهر والاخفات ؟ إنَّ النصوص لم تحدد وعد التحديد معناه أن الامر قد اوكل إلى العرف وعادةً عرفاً نه إذا برز جوهر الصوت فهذا جهر وإذا لم يبرز جوهر الصوت فذها اخفات والفقهاء حينما ذكروا هذا فهم ذكروه من باب أنهم عرف ويحددون المفهوم بما هم عرفيون لا لأجل استفادة ذلك من النصوص وهذا تمسك بالإطلاق المقامي وهو ليس نفي قيد أو من هذا القبيل إنما هو شيء آخر أجبي ، وهناك مثال آخر لذلك وهو سراية النجاسة فإذا فرض أن هذا المكان في هذه الزاوية حديث نجاسة كأن أريق دم فيها فهل تتنجس الزاوية الأخرى من هذا المكان أو لا ؟ أنت تجيب وتقول: إنها لا تتنجس ، ونسأل سؤالاً ثانياً ونقول: إذا كانت هناك رطوبة سارية فهل يتنجّس ذلك المكان أو لا ؟ تقول: نعم يتنجس ، ولماذا ؟ فهل توجد رواية تدل على أن المكان الثاني إذا كانت فيه رطوبة سارية سوف يتنجس وإذا لم تكن فيه رطوبة سارية فلا يتنجس ؟ إنه لا توجد رواية في ذلك ، فالمدرك إذن هو أن سكوت الشارع عن كيفية حصول التنجس معناه الايكال إلى العرف والعرف هكذا يرى ، فهو يرى أنه إذا كانت هناك رطوبة سارية فسوف يتنجس هذا قد حصلنا عليه ليس من رواية وإنما من الاطلاق المقامي حيث إنَّ الشرع سكت عن تحديد كيفية حصول التنجس فهذا معناه أنه أوكل الأمر إلى العرف وهو هكذا يرى .

ومن هذا يتضح أنَّ المرأة التي تحمل طفلاً فشعرت برطوبة فهل تتنجس ملابسها ؟ نقول:- إنَّ الرطوبة رطوبتان ، فهناك شعور بالرطوبة من برودة أو حرارة ولكن لا يوجد بلل فهنا لا يحصل التنجس ، أما إذا فرض وجود رطوبة فهنا يحصل التنجس ، والنكتة هي ليست رواية موجودة تقول هكذا وإنما النكتة هي كما قلنا أن حصول التنجس مسألة موكولة إلى العرف والعرف هكذا يرى فنحن حينما نقول إذا كانت توجد نداوة فسوف يتنجّس وإلا فلا فهذا منشأه العرف حيث شخصنا ذلك بما أنا عرفيون.

إذن اتضح من خلال ما ذكرنا أنَّ الاطلاق اللفظي نتيجته إلغاء القيد وأما الاطلاق المقامي فنتيجته مختلفة فقد تكون نفي وجوب السورة كما في مثال السورة وقد تكون نتيجته تحديد كيفية سراية النجاسة وقد تكون نتيجته تحديد ميزان الاخفات والجهر وهلم جرا ، فنتيجة الاطلاق المقامي مختلفة لعلّ ضبطها صعب بخلاف الاطلاق اللفظي.

الفارق الخامس:- هو أنه في كلا الموردين في الاطلاق المقامي والاطلاق اللفظي يلزم أن نحرز أن المتكلم في مقام البيان ، بيد أن الاحراز يختلف في الاطلاق اللفظي عنه في الاطلاق المقامي ، ففي الاطلاق اللفظي يمكن أن نقول يقال إنّ احراز كون المتكلم في مقام البيان يتحقق بالأصل العقلائي هو أنَّ الأصل في كل متكلم أن يكون في مقام البيان ، باعتبار أنَّ ظاهر حاله يريد أن يبيّن مقصوده بالكامل فلو كان قيد الايمان معتبراً في الرقبة يلزم أن يبينه ، فنثبت أنه في مقام البيان من خلال هذا الظهور الحالي ، وبالتالي نقول هو في مقام البيان للأصل العقلائي الذي منشأه هذا الظهور الحالي ، إنه ربما يقال هكذا وإن قلنا فيما سبق إنَّ هذا المقدار لا يكفي ، ولكن من يقول بأنه يكفي فسوف يستند إلى ذلك.

وهذا بخلافه في الاطلاق المقامي ، فإنه لا نريد أن ننفي قيداً حتى نقول إنَّ ظاهر حال المتكلّم بيان المطلوب بكامل قيوده ، بل لعلّه يريد أن يبيّن قضية ثانية مثل الاخفات والجهر ومثل النجاسة فهنا لا يوجد تقييد وقيد حتى نقول إنَّ ظاهر حال المتكلّم بيان جميع القيود ، وإنما نريد أن نثبت شيئاً آخر ليس من قبيل نفي القيد ، فإننا اثبات أنَّ السورة ليست واجبة في الصلاة والمضمضة ليست واجبة في الوضوء والتنجّس يحصل بما يراه العرف ... وهكذا ، فهنا ليس المقصود نفي قيدٍ ، فإذا لم يكن المقصود نفي قيدٍ فلابد أن نحرز من غير طريق الظهور الحالي أنه في مقام البيان ولا يكفي الظهور الحالي ، من قبيل ( الا أعلمكم وضوء رسول الله ) فهذا بنفسه دليل على أنه في مقام بينان كامل الأجزاء والشرائط فإذا سكت عن واحدٍ وهو المضمضة يدل ذلك على كونها ليست واجبة ، ولكن استفدنا أنه في مقام البيان من خلال القرينة الخاصة ، وهكذا في مسألة حصول التنجّس وغير ذلك فإنَّه لابد وأن نثبت أنَّ المتكلّم في مقام البيان لا من طريق الأصل العقلائي بل من طريقٍ آخر ، والطريق الآخر مثلاً في مسألة الجهر والاخفات كيف نثبته فهو لم يقل ( ألا أعلمكم ) ؟ فنجيب ونقول:- إنَّ الشرع حينما يبيّن أنه يجب عليكم الجهر والاخفات فنفس سكوته قرينة واضحة على إيكال الأمر إلى العرف وإلا يبقى إذا كان هناك شيء آخر فيلزمه أن يبيّنه والمفرض أنه منصوبٌ لبيان الأحكام وللحفاظ على الشرع وللحفاظ على أحكام الشريعة ولا يوجد في أيّ رواية تحديد للجهر والاخفات ، فمن هذه القرينة أو من غيرها نثبت انه في مقام البيان ، وأنا لا أقول إنَّ القرينة هي هذه حتماً ولكن بالتالي لابد أن تحرز أنه في مقام البيان لا من طريق الظهور الحالي بل من هذا الطريق أومن غيره.

وهكذا في مسألة سراية النجاسة ، فلا يمكن أن يكون الشرع ليس عنده رأي فيها أو أن يخفي رأيه فإنَّ هذا نقضٌ للغرض ، فسكوته عن بيان ذلك في جميع الروايات أقوى شاهد على أنه أوكل القضية إلى العرف .

فمثلاً قوله تعالى:- ﴿ وإن كنَّ أولات حملٍ فانقوا عليهن حتى يضعن ... ﴾ فإذا طلق زوجته وهي حامل فلابد أن ينفق عليها بعد الطلاق إلى تضع الحمل ، وكم هو مقدار ما ينفق عليها ؟ سكتت الآية عن ذلك كما لم يذكر ذلك لا في آية أخرى ولا رواية ، فإذن لابد أن تكون القضية قد أوكلها إلى العرف فإنَّ الرزق يختلف من زمانٍ إلى زمان ، فهذا إيكال إلى العرف جزماً.

وقبل أن ننهي هذا البحث نشير إلى هذه القضية:- وهي أنَّ مدرك حجية الاطلاق اللفظي ما هي ومدرك حجية الاطلاق المقامي ما هي ؟

والجواب:- إنَّ مدرك الحجية هو الظهور ، أما في الاطلاق اللفظي فإنه إذا كان في مقام البيان وسكت عن قيد الايمان مادام عاقلاً ويسير على موازين العرف فظاهره أنه لا يعتبر قيد الايمان وإلا كان مخلاً بالبيان هذا كله تمسك بالظهور ولا يعدو الظهور ، وهكذا بالنسبة إلى الاطلاق المقامي نقول إنه حينما قالت الآية ﴿ وإن كنَّ أولات حمل ....﴾ وسكتت عن مقدار وكيفية الرزق فظاهره الاكتفاء بالنظر العرفي ، فهذا استظهار ولكنه ظهور من المقام لا ظهور من اللفظ والظهور حجة سواء كان للفظ أو للمقام ، فإذن مدرك الحجية لهذين الاطلاقين هي شيء واحد وهو الظهور ، ونكتفي بهذا المقدار.

البحث التاسع:- اختلاف نتيجة مقدّمات الحكمة.

من الواضح أن نتيجة مقدّمات الحكمة والاطلاق اللفظي مختلفة وإن كان هو وظيفته عدم اعتبار القيد ولكن النتيجة مختلفة فتارة تكون النتيجة هي التعيين ، وأخرى تكون النتيجة هي البدلية ، وأخرى تكون النتيجة هي الشمولية ، وخذ مثالاً لذلك:- أما التعيين فكما قرأنا أن مقتضى اطلاق الصيغة كون الوجوب نفسياً عينياً تعيينياً ، فإذن النتيجة واحدة وهي كون الوجوب نفسياً[1] ، عينياً لا كفائياً[2] ، وتعيينياً لا تخييرياً[3] ، حيث نقول هكذا:- لو إنه حينما قال ( اكنس البيت ) لو كان الوجوب غيرياً لأجل الضيوف لكان يقول ( إن جاء أو علمت بمجيء الضيوف فاكنس ) وحيث لم يقل فيدلّ على أنَّ الوجوب نفسي ، وهكذا في العيني فإنه لو كان كفائياً لكان يقول ( اكنس إن لم يقم به غيرك ) فحيث إنه لم يقل ( إن لم يقم به غيرك ) يدل على أن الوجوب عيني علي ، وهكذا هو تعييني لو كان تخيير بينه وبين رشّ العطور لكان يقول ( أكنس أو رش العطر ) فحيث إنه لم يقل ( أو رشّ العطور ) فيدل على أنه تعييني ، فإذن مقدّمات الحكمة انتجت التعيين بهذا المعنى بأنَّ الوجوب تعييني عيني ونفسي.

وأما مثال كون الوجوب ينتج نتيجة الشمولية أو البدلية فذلك مثل ( أكرم العالم ) فهنا بلحاظ العالم الذي هو موضوع الحكم النتيجة تكون شمولية ، وأما بلحاظ ( أكرم ) الذي هو متعلق الوجوب تكون النتيجة هي البدلية ، يعني يكفيك اكرام واحد كأن تدعوه لمائدة طعام ، أما في العالم الذي هو الموضوع فيلزم أن تكرم جميع العلماء لا أنك تكرم واحداً منهم دون غيره.

فإذن نتيجة مقدّمات الحكمة مختلفة فمرّة تنتج التعيين ، ومرة تنتج الشمولية ، ومرة تنتج البدلية.

والسؤال:- إنَّ الواحد كيف يصدر منه متعدد ؟ وهذه قضية عرفية قبل أن تكون قضية فلسفية ، فصحيحٌ أنَّ مقدّمات الحكمة واحدة ولكن كيف تنتج هذه النتائج المختلفة ، فلابد وأن تكون النتيجة واحدة ، فكيف حصلنا على نتائج متعددة ؟


[1] فهذا معيّن، يعني وهو النفسية.
[2] فإذن النتيجة معينة أيضاً.
[3] فأيضاً النتيجة معينة.