الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/01/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- تتمة البحث السابع تخصيص وتقييد الأكثر ، البحث الثامن الاطلاق المقامي والاطلاق اللفظي- الاطلاق ومقدمات الحكمة.

وهناك مثال ثانٍ:- وهو أنه عندنا تقبيل الرجل زوجته حال الاحرام لا يجوز وإذا كان بشهوة فعليه جزور - أي بعيراً - ، ففي روايتين الوارد أنه إذا قبّل بشهوة عليه جزور ، وفي راية أخرى إذا قبل بشهوة فأمنى فعلية جزور - بدنة - ففي مثل هذه الحالة ماذا نفعل فإنَّ تقبيل المحرِم زوجته بشهوة حالة الاحرام إذا أمنى فيثبت عليه جزور جزماً وهذا لا كلام فيه ولكن الكلام فيما إذا كان التقبيل من دون شهوة ؟ قال بعض الفقهاء: نقيد الرواية المطلقة بالرواية الأخرى ، فتلك الرواية المطلقة وهي التي قالت ( من قبّل زوجته بشهوة فعليه جزور ) ولم تذكر ( فأمنى ) نقيدها ونقول ( إذا أمنى فعلية جزور ) بقرينة الرواية الثانية التي قيدت بالإمناء ، والروايتين هما:-

الأولى:- صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( سألته عن المحرم يضع يده من غير شهوة على امرأته ... قلت المحرم يضع يده بشهوة ، قال:- يهريق دم شاة ، قلت:- فإن قبّل:- قال:- هذا أشدّ ينحر بدنه )[1] ، ومن الواضح أنه قبّل بشهوة لأنَّ سؤاله عن المحرِم يضع يده بشهوة فقال يهريق دماً ، ثم قال ( فإذا قبّل بشهوة ، قال: ينحر بدنة ) ولكنه لم يذكر أنه قيد ( أمنى ).

الرواية الثانية:- صحيحة أبي سيّار:- ( قال لي أبو عبد الله عليه السلام:- يا أبا سيّار إنَّ حال المحرم ضيقة فمن قبّل امرأته على غير شهوة وهو محرم فعليه دم شاة ومن قبّل امرأته على شهوة فأمنى فعليه جزور ويستغفر ربه )[2] .

فإذن الرواية والأولى لم تشترط في الجزور الامناء بينما الثانية اشترطت ذلك فماذا نصنع ؟ قلنا قال جماعة بأننا نقيّد الأولى بالثانية وسوف تصير النتيجة هي أنَّ من قبّل بشهوة فأمنى فعليه جزور.

وهنا أشكل السيد الخوئي(قده)[3] [4] وقال:- إنَّ هذا تقييد بالحالة النادرة ، يعني بمجرد أنه قبّل زوجته أنزل وهذه حالة نادرة فإنَّ العاد أنه بمجرد انه يقبّل بشهوة لا يحصل الامناء ، فإذن بالتالي قال هذه حالة نادرة والتقييد بالحالة النادرة مستهجن.

والاشكال الذي أوردناه سابقاً يأتي هنا أيضاً:- فإنَّ الذي ثبت قبحه واستهجانه هو التقييد بالفرد النادر وأما التقييد بالحالة النادرة فذها ليس بمستهجن ومثلّنا لذلك بكفارات الاحرام.

وبهذا أنهينا هذا البحث السابع.

البحث الثامن:- الاطلاق المقامي.

الاطلاق كما نعرف على نحوين اطلاق لفظي واطلاق مقامي ، والفرق بينهما هو أنه في الاطلاق اللفظي يوجد مفهوم من خلال لفظ ، مثل رقبة فإنَّ رقبة مفهوم من خلال لفظ وهو لفظ رقبة ، هذا المفهوم يقيد بالمؤمنة فإذا لم يكن تقييد فنقول يوجد اطلاق لفظي أو اطلاق للمفهوم هذا هو المتداول والمتعارف ، وأخرى يفترض أنَّ الذي يكون مطلقاً ليس هو اللفظ وإنما المقام فلا يوجد لفظ نريد تقييده ، كما في مثل الرواية الواردة في باب الوضوء فإنَّ الامام الصادق أو الباقر عليهما السلام ينقل لعلّه خمس روايات ويقول:- ( ألا أحكي لكم وضوء رسول الله ) فدعى بقَعبٍ وماء وتوضأ هذا الوضوء العادي ولم يدقق فيه كأن يدير يده في الغسل بصورة دائرية من أعلى إلى أسفل أو غير ذلك فلو كان قد فعل ذلك لكانت هذه القضية ملفتة لنظر السائل ولكان ينبّه عليها ويقول ( ورأيت الامام يدير يده وأصابعه بهذا الشكل ) فإنه لم يذكر ذلك بل كان شيئاً عادياً جداً ليس ملفتاً للنظر ، ولكن المضمضة لم يذكرها ، فهو لم يقل ( اخذ ماء بيده وتمضمض ثم أراقه ) فهنا نقول إنه بمقتضى الاطلاق نفهم عدم وجوب المضمضة ، ولكن هذا ليس اطلاقاً للمفهوم أو اللفظ فإنه لا يوجد لفظ يفهم منه هذا المعنى وإنما الامام عليه السلام كان في مقام نقل وضوء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو لم يذكر المضمضة فهذا يدل على أنَّ المضمضة ليست واجبة.

ولعلك تقول:- إنه يوجد إشكال وهو أنَّ المضمضة مستحبّة فكيف يترك الامام المستحب ؟

قلت:- لعلّ الامام تقصّد هذا الشيء حتى يبيّن أنها ليست واجبة ، وهذه فائدة.

فإذن هذا اطلاق للمقام ، فإنَّ الفارق بين الاطلاق اللفظي والاطلاق المقامي واضح ، ففي الاطلاق اللفظي هنا لفظ له مفهوم فإذا لم يقيد المفهوم يقال هذا اطلاق لفظي ، أما في المقام لا يوجد لفظ ومفهوم وإنما هو كان في مقام البيان ولم يذكر المضمضة فيدل ذلك على نفي وجوبها.

وهناك فوارق أخرى من قبيل: إنه في الاطلاق اللفظي يكون الهدف دائماً هو نفي القيد والتقييد ، بينما في الاطلاق المقامي قد لا يكون الهدف هو نفي القيد وإنما نفي شيء آخر قد لا يكون قيداً ، من قبيل وجوب المضمضة فإنَّ وجوبها ليس قيداً وإنما هي واجب من واجبات الوضوء فإذا كانت واجبة فهي واجبة على حدّ سائر الواجبات ، فإذا نفينا وجوب شيء لا أننا نفينا تقيّد الواجب بشيء فالمنفي ليس هو التقييد وإنما المنفي هو وجود شيء مستقل فإنَّ المضمضة مثلاً هي شيء مستقل بنفسها إما هي مستحب مستقل أو هي واجب مستقل قبل الوضوء ، فنيفنا وجوب شيءٍ مستقل فهي ليست قيداً.

ومن جملة الفوارق بين الموردين هو أنه في الاطلاق اللفظي يفترض وجود شيء معيّن وهو مفهوم ولفظ معيّن واحد يراد نفي تقييده ، وأما في الاطلاق المقامي فلا يلزم افتراض وجود شيءٍ واحد بل من مجموع أشياء نستفيد الاطلاق المقامي ، من قبيل نيّة التمييز أو نيّة الوجه فإنها لو كانت واجبة لذكرت في أحد الأدلة والروايات والمفروض أنَّ الامام عليه السلام هو قد بيّن أجزاء الصلاة بأدلة مختلفة ولكنه لم يذكر من خلال دليلٍ أنَّ نية الوجه أو نية التمييز لازمة فنستفيد من عدم البيان في مجموع هذه الأدلة الاطلاق وأنه لا تلزم نية الوجه أو نية التمييز .

فإذن الذي تمسّكنا به هو أنه لم يذكر في شيء من الأدلة ذلك فمقتضى مجموع هذه الأدلة أنه لا يجب ذلك وإلا لذكر في دليل كما أشير إلى سائر الواجبات في جملة الأدلة ، وهذه في الحقيقة طريقة ثانية لاستكشاف الاطلاق وهي أنه لا يلحظ دليل بعينه وخصوصه وإنما تلحظ مجموع الأدلة ولم يذكر في شيء منها هذا القيد فيدلّ ذلك على أنَّ هذا القيد ليس معتبراً في شيءٍ من أجزاء الصلاة.


[1] وسائل الشيعة، العاملي، ج13، ص138، أبواب كفارات الاستمتاع، ب18، ح6، ط آل البيت.
[2] وسائل الشيعة، العاملي، ج13، ص136، أبواب كفارات الاستمتاع، ب18، ح3، ط آل البيت.
[3] تراث السيد الخوئي، الخوئي، تسلسل28، ص383.
[4] التنقيح في شرح عروة الوثقى، الخوئي، ج4، ص97، ط قديمة.