الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
38/12/26
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- وجه تقدم المقيد على المطلق- الاطلاق ومقدمات الحكمة.
ولماذا يقدّم المقيد على المطلق حين اجتماعهما ؟
ومن الواضح أنَّ هذا السؤال نستثني منه حالة ما إذا فرض أن القيد كان متصلاً دون ما إذا كان منفصلاً فإنه في المتصل لا يأتي هذا الكلام ، باعتبار أنه لا يوجد دليلان مطلق ومقيّد حتى يقال لماذا تقدم المطلق على المقيد بل يوجد دليل واحد فهذه لتساؤل لا يأتي وهذا واضح.
ونستثني منه أيضاً حالة ما إذا بني على رأي الشيخ النائيني(قده) في باب الاطلاق ، فإنه تقدم أن بعض عباراته في التقرير توحي بأنَّ الظهور في الاطلاق لا ينعقد حتى في المقيد المنفصل بحيث أنَّ المقيّد المنفصل لا أنه يرفع حجية الظهور بل يرفع أصل الظهور فقال إذا جاء المقيد المنفصل يزول أصل الظهور في الاطلاق فعدم المقيد المنفصل شرط في انعقاد الظهور في الاطلاق ، وبناءً على هذا لا حاجة إلى طرح هذا التساؤل إذ بناءً عليه لا يوجد مطلق ومقيد بل يوجد مقيد فقط أما المطلق فليس موجوداً لأن ظهوره في الاطلاق قد زال - إما نه زال من الأساس أو أنه زال من الآن - ومادام لا ظهور في الاطلاق فيبقى المقيد من دون معارض فيؤخذ به من باب أنه لا يوجد إلا دليل واحد وهو المقيد ولا يوجد مطلق .
فإذن نستثني هذان.
والآن نأتي ونذكر الجواب:- وفي هذا المجال ونقول إنه ينبغي حصر محل الكلام فيما لو علمنا بوحدة الجعل كما لو قال المولى ( إذا أفطرت في شهر رمضان فأعتق رقبة ) وقال في دليل ثانٍ ( فأعتق رقبة مؤمنة ) ، هنا نعلم من الخارج أو من غيره أنَّ الجعل واحد ولا يوجد احتمال أنَّ هناك حكمان حكم أوّل مطلق وهو أنه يجب عليك عتق رقبة ويوجد حكم ثانٍ مقيّد وهو الرقبة المؤمنة فإنَّ هذا لا يحتمل ، لأنه سوف يجب عليه رقبتين وهذا غير محتمل فإنَّ الجعل والحكم واحد ولكن التعبير متعدّد لكن روحه - التي هي عبارة عن الجعل والحكم - واحدة ، أما إذا فرض أنَّ الجعل كان متعدداً فكلٌّ يبقى على حاله إذ يوجد وجوبان حينئذٍ فيلزم أن تعتق رقبتان رقبة مؤمنة ورقبة مطلقة.
فإذن كلامنا يلزم أن نفترضه فيما إذا فرض أننا نعلم بوحدة الجعل وأما إذا كان متعدداً فالتساؤل أصلاً ليس في محلّه هذا ينبغي ان يكون واضحاً.
إذن محل الكلام ما إذا كان الجعل واحداً ، ومادام الجعل واحداً فموضوع هذا الجعل يلزم أن يكون واحداً ولا يمكن للجعل الواحد أن يكون له موضوعان إذ وجود موضوعين يعني وجود حكمين وهذا خلف الفرض .
إذن مادام الجعل واحداً اي مادام الحكم واحداً فالموضوع واحد جزماً ، فإذا كان لموضوع واحداً فيتعين أن يكون ذلك الموضوع الواحد هو المقيد دون المطلق ، والوجه في ذلك هو أنه لو كان الموضوع هو المقيّد فذلك يلتئم مع كلا الدليلين ويحصل جمع بينهما فإنه بالتالي المطلق صادق على المقيد والمقيد فرد من أفراد المطلق ، أما إذا فرض أنه حملنا الموضوع على المطلق وقلنا هو المطلق فهذا معنه أنا طرحنا المقيد جانباً فيلزم هجر المقيّد فالجمع بينهما والتأليف بينهما يكون بالتقييد بأن يكون الموضوع هو المقيد إذ ذلك يلزم منه جمعاً بين الدليلين ، بخلاف ما إذا فرض أنَّ الموضوع هو المطلق فإن في ذلك طرحاً للمقيد ، والنتيجة هي أنه سوف يصير هذا التوجيه وهو أنه بعد وحدة الجعل يلزم أن يكون الموضوع واحداً ومادام الموضع واحداً فالجمع بين الموضعين يتحقق بالحمل على التقييد فإنه جمع بين الحقّين وقد عملنا بهما معاً وأخذنا بهما معاً لأن َّالمطلق لا يقول أنا لا أرضى بالمقيّد بل يقول هو أحد أفرادي فيحصل جمع عرفي فالجمع العرفي يتحقق بالحمل على لتقييد وهذا بخلاف ما إذا حمل على المطلق فإنه يلزم طرح المقيد ، هكذا يمكن أنَّ يوجه الجمع بالتقييد فنحن نجمع بالتقييد ونقدم المقيّد لهذه النكتة لأنَّ في ذلك علاً بكلا الدليلين بعدما كان الحكمان يرجعان إلى حكم واحد والموضوع واحد فالعمل بهما يكون بالتقييد بخلاف ابقاء المطلق على اطلاقه فإن فيه طرحاً للمقيّد ، فإذن هذا جمعٌ عرفي بعدما كان الحكم واحداً والموضوع واحداً.
نعم يبقى اشكال أمام هذا:- وهو أنه كما يمكن أن نجمع بين الدليلين بهذا الجمع يمكن أنَّ نقول هناك جمع عرفي آخر وهو الحمل على الاستحباب ، فالواجب هو عتق رقبة والمستحب أن تكون مؤمنة فنحمل المقيّد على الاستحباب.
فإذن لا ينحصر الجمع بإبقائهما على الوجوب ثو نقول حيث إن الموضوع واحداً فيلزم أن يكون ذلك الموضوع الواحد هو المقيّد إذ به يتحقق الجمع بين المطلق وبين المقيّد عرفاً ، كلا بل يمكن الجمع بالحمل على الاستحباب ، وهذا شيء وجيه.
ولكن يمكن ردّه:- بأنَّ هناك بناءً عرفياً وعقلائياً على أنه متى ما كان أحد الدليلين لو ضمّ إلى الدليل الثاني وصار متصلاً به جمع بينهما وصار الثاني قرينة على التصرف في الأوّل فالبناء العرفي والعقلائي على ذلك - يعني على التصرّف في الأوّل - ، وفي مقامنا نطبق ذلك ونقول صحيح أنَّ الدليل الثاني وهو ( أعتق رقبة مؤمنة ) منفصل عن الأوّل لكن لو فرض أنَّ الثاني كان متصلاً بالأوّل لا أنه منفصل كان الثاني قرينة على أن المقصود من الأوّل هو المقيد ، ففي مثل هذه الحالة البناء العرفي والعقلائي يأخذ بذلك يعني يحكم بالتقييد لأنه لو كان متصلاً لبنى العرف على التقييد فلو كان منفصلا أيضاً يبقى الحكم هو التقييد دون الحمل على الاستحباب ونحن نسير وراء البناءات العقلائية والعرفية والبناء العرفي والعقلائي هو ان كل دليل منفصل على تقدير اتصاله بالدليل الأول إذا كان الثاني قرينة على التصرف في الأوّل ففي حالة الانفصال أيضاً يبنى على ذلك التصرّف ، وهنا حيث لو كان المقيّد متصلاً بالمطلق فالعرف يبني على التقييد ، ففي حالة الانفصال أيضاً يبني العرف على التقييد دون الاستحباب.
إذن الحمل على الاستحباب مجرد اقتراح والاقتراح وحده لا ينفع إلا إذا كان مدعوماً ببناءات عرفية وعقلائية وقد قلنا إنَّ البناء العريف والعقلائي لا يبعد أن يكون كذلك - يعني حيث إن الثاني على تقدير اتصاله بالأوّل يكون مقيداً فيف حالة الانفصال أيضاً يكون مقيداً - والفقهاء حينما اتبعوا هذه الطريقة - وهي الحمل على التقييد - لا يبعد أن يكون ذلك ناشئاً من هذا البناء الذي هو ثابت في قلوبهم وفي طبيعتهم العرفية ، يعني أنهم حملوا على التقييد دون الحمل على الاستحباب لا بما هم فقهاء بل بما هم عرفيون.
ويجدر الالتفات إلى قضية:- وهي أنَّ الحمل على التقييد في مقابل الحمل على الاستحباب إنما يصار إليه فيما لو فرض انه لم يكن هناك مانع من الحمل على التقييد ، وأما إذا كان هاك منع من الحمل على لتقييد كان يفترض أنه إذا قيدنا يلزم من ذلك لتخصيص المستهجن ، أي يلزم الحمل على الأفراد النادرة كما لو قيل ( إن افطرت فأعتق رقبة ) ثم قيل ( إن افطرت فاعتق رقبة مؤمنة عادلة ) ، فهنا الحمل على التقييد صعب ، لأنه بالتالي لو أريد من الرقبة هي المؤمنة العادلة لصار المطلق محمولاً على الأفراد النادرة وهذا مستهجن ، فهنا يمتنع الحمل على التقييد فيتعيّن المصير على حمل المقيّد على الاستحباب وهذا لقرينة خاصة ، وعلى منوال ذلك يمكن افتراض قرائن أخرى.
إذن يصار إلى التقييد إذا لم تكن هناك قرينة مانعة من ذلك.
ثم إن هناك شيئاً آخر:- وهو أنه يقدّم المقيّد على المطلق لأجل كونه أظهر أو لأجل كونه أخص بما هو أخصّ ، فالمقيد بما هو مقيد وأخصّ يقدمه العرف أو لأنه اظهر باعتبار أنَّ دائرته أضيق ؟
وتظهر الثمرة فيما إذا فرض أن المقيّد لم يكن أظهراً ، كما لو فرض أنَّ التقييد استفدناه من المفهوم والاطلاق استفدناه من المنطوق فإن ظهور المنطوق إن لم يكن أعلى فلا أقل هو مساوٍ فلا يكون الظهور في المقيد هو الأقوى وهو الأظهر باعتبار أنه بالمفهوم فالثمرة تظهر في مثل هذا المورد وما شاكله ، فإذا بنينا على أنَّ المدار على الظهرية فهنا نتوقف لأنه لا توجد أظهرية وإذا قلنا إنَّ المدار على الأخصية بما هي أخصية فهنا نقدّم المقيّد وإن كان ليس أظهراً ، ولا يبعد أنَّ الأخصّية بما هي أخصّية أن تكون نكتة عقلائية لتقديم المقيّد لا بما أنه أظهر.
وبهذا ننتهي من البحث الرابع من ابحاث الاطلاق ومقدمات الحكمة.