الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

38/12/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- الفارق بين احترازية القيود ومقدمات الحكمة ، وجه تقدم المقيد على المطلق- الاطلاق ومقدمات الحكمة.

انتهينا من مقدمات الحكمة ومن المقدمة الاضافية ليت ذكرناها ولنعد بعد هذا إلى صلب الموضوع:- ونحن قد دخلنا في موضوع الاطلاق ومقدّمات الحكمة وقد قلنا نبحث مجموعة من القضايا أو الأبحاث ، القضية الأولى هل الاطلاق مدلول حكمي أو مدول وضعي ، والقضية الثانية ما هي مقدّمات الحكمة واستمر الكلام فيها إلى الآن وقد انتهينا منها.

القضية الثالثة:- الفارق بين قاعدة احترازية القيود وقاعدة مقدمات الحكمة:-

هناك قاعدة أخرى غير مقدّمات الحكمة يعبّر عنها بأنَّ الأصل في القيد أن يكون احترازياً ، وقد أشار الشيخ الخراساني(قده) إلى هذه القاعدة في الكفاية في مفهوم الوصف حيث قال:- ( ولا ينافي ذلك ما قيل من أن الأصل في القيد أن يكون احترازياً )[1] ولكنه لم يسمّها بقاعدة احترازية القيود بل قال إنَّ الأصل في القيد أن يكون احترازياً ، وما الفارق بين قاعدة احترازية القيود وبين قاعدة مقدّمات الحكمة ؟

الجواب:- إنَّ موضوع قاعدة احترازية القيود هو أن يذكر المتكلم قيداً في كلامه بأن يقول ( أعتق رقبة مؤمنة ) فيقال الأصل في هذا القيد الاحتراز عن غير المؤنة ، فهو ذكر شيئاً ونقول إنَّ هذا الشيء الذي ذكره يحترز به عن فاقد القيد ، وهذا بخلافه في مقدّمات الحكمة فإنه يفترض فيها أن المتكلم لا يذكر القيد وإنما يحذف القيد ، يعني يحذف قيد الايمان فهو حينما حذفه وقال ( اعتق رقبة ) يثبت أنَّ مراده هو مطلق الرقبة من دون قيد.

فإذن مورد القاعدة الأولى حالة ذكر القيد ونستفيد من ذكر القيد تضيّق دائرة موضوع الحكم ، بينما في القاعدة الثانية يفترض أنه لم يذكر القيد ونحاول أن نستفيد السعة ، فإذن هنا قاعدتان موضوعهما مختلف ونتيجتهما مختلفة ، فالفارق إذن صار واضحاً ولا يحصل الاشتباه ولكن هذه قضايا فنّية لا بأس بأن نذكرها.

ثم إنه لو اجتمع دليلان أحدها يذكر القيد والآخر لا يذكره بأن جاءت رواية وقالت:- ( أذا أفطرت فاعتق رقبة مؤمنة ) وجاءت وراية ثانية وقالت ( إذا افطرت فاعتق رقبة ) فإذن إحدى الروايتين تنطبق عليها قاعدة أنَّ الأصل في القيد أن يكون احترازياً - يعني هي مصداق للقاعدة الأولى - والرواية الثانية مصداق للقاعدة الثانية ، يعني مطلق ومقيد ، فأيهما يكون هو المقدّم حيث لا يمكن الأخذ بظهورهما معاً للتنافي ؟ هذه قضية سوف نبحثها ونشير إليها في البحث الآتي ، وربما يقال: أنَّ المقيد مقدّم بنكتة أنَّ ذكر القيد أشد ظهوراً في اعتبار القيد بينما عدم ذكره أضعف ظهوراً في نفي اعتباره ، فكلاهما له ظهور فالأوّل له ظهور في اعتبار القيد ودخالته في المراد والثاني فيه ظهور في عدم اعتبار القيد ولكن هل الظهور الأوّل أقوى بالقياس إلى الثاني أو الثاني أقوى بالقياس إلى الأوّل ؟ ربما يقال إنَّ ذكر القيد يعطي قوّةً لأنه فيه كلام واشارة أمّا ذاك فهو عدم ذكرٍ فيكون أضعف ظهوراً فيقدّم المقيد على المطلق ، إنه ربما يوجه بذلك ، وقد قلت إنَّ هذه قضية سوف نذكرها في البحث الآتي وما ذكرناه هنا هو تمهيد لها.

القضية الرابعة - أو البحث الرابع-:- وجه تقدّم المقيّد على المطلق:-

وقع الكلام في أنه إذا جاء مطلق ومقيد فلماذا يقدّم الأوّل على الثاني وهذا ما أشرنا إليه قبل قليل.

وقبل أن نذكر الوجه في ذلك نلفت النظر إلى بعض القضايا الجانبية النافعة:-

الأولى:- إنَّ الاعتماد على الاطلاق والتمسّك به كحجة لإثبات سعة المراد هذه قضية عقلائية قبل أن تكون شرعية يعني أنَّ العقلاء يتمسّكون بالإطلاق الشارع لم يردعهم فصار ذلك إمضاءً ، فنكتة حجية الاطلاق في اثبات سعة المراد هي أنَّ سيرة العقلاء جرت على التمسّك به والشرع لم يردع عنه ، بل أتمكن أن أقول إنَّ الشارع قد قرّر وأمضى ذلك لا بالسكوت بل أمر بالتمسّك بالإطلاق ، وننقل رواية في هذا المجال وهي صحيحة عليّ بن مهزيار:- ( قرأت في كتاب عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن عليه السلام:- جعلت فداك وري عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال:- وضع رسول الله صلى الله عليه وآله الزكاة على تسعة أشياء الحنطة والشعير والتمر والزبيب ، والذهب والفضّة ، والغنم والبقر والابل وعفى رسول الله صلى الله عليه وآله عمّا سوى ذلك ، فقال له القائل:- عندنا شيء كثير يكون أضعاف ذلك فقال وما هو ؟ فقال له:- الأرز ، فقال له أبو عبد الله عليه السلام:- أقول لك إن رسول الله صلى الله عليه وآله وضع الزكاة على تسعة أشياء وعفى عمّا سوى ذلك وتقول عندنا أرز وعندنا ذرة و..... ؟! )[2] ، فإن الامام عليه السلام ردّ على السؤال وأنَّ السؤال ليس بمناسب حيث قال للسائل إني قد قلت لك إنَّ النبي وضع الزكاة على تسعة أشياء وعفى عمّا سوى ذلك ؟!! ، وكأن الامام عليه السلام يريد أن يقول إنَّ تعبير ( وعفى عمّا سوى ذلك ) مطلقٌ يشمل الأرز والذرة والحليب وغير ذلك فكيف تأتي أنت وتقول يوجد عندنا أرز ؟!! ، يعني يريد أن يقول له: لماذا لا تتمسّك بالإطلاق ، فإن مقتضى اطلاق ( وعفى عمّا سوى ذلك ) أنه حتى الأزر والذرة فإنه لا يجب فيها شيء فلا يحتاج إلى أن تسألني.

فإذن هذه الرواية الشريفة تأمر بالتمسّك بالإطلاق ، فالشرع إذن ليس فقط لم يردع عن سيرة العقلاء وإنما أمر بالتمسّك بالإطلاق وأثبت الحجية له.

وقبل أن أتجاوز هذا المطلب الجانبي أقول:- إذا أردنا أن نستفيد من هذه الصحيحة أحكاماً ونكاتاً فكم نكتة وكم حكم نستفيده منها ؟

والجواب:- إنَّ صاحب الوسائل(قده) ذكرها في باب الزكاة فقط فيما يجب وما لا يجب فيه الزكاة ، ولكن هل توجد فيها أحكام أخرى فلو كانت فيها أحكام أخرى فسوف نذكرها في أبواب أخرى ؟ فهي يستفاد منها أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم له سلطة تشريعية ، يعني أوّلاً نستفيد الحكم الذي استفاده صاحب الوسائل وهو أنَّ الزكاة تجب في تسعة دون غيرها ، ولكن نذكر حكماً أو فائدة أخرى من هذه الصحيحة وهي أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم له سلطة تشريعية يعني أنَّ الاه تعالى أعطاه مساحة من التشريع فهو تعالى أوجب أصل الزكاة أما المواضع التي تجب فيها الزكاة فقد أعطى تحديدها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ويوجد في هذا المجال روايات متعدّدة مثل ما ورد في الكافي حيث تذكر ما فوّض الله تعالى إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو ما شرّعه الرسول ، والامام عليه السلام يذكر مجموعة من الأمور التي كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها تشريع ، منها أنَّ الله تعالى حرّم الخمر والنبي صلى الله عليه وآله وسلم حرّم كلّ مسكرٍ ، والصلاة كل ركعتان والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أضاف عليها.

فإذن هذه الرواية يستفاد منها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم له سلطة تشريعية ، وأيضاً يستفاد منها أحكاماً أخرى ستأتي.


[1] كفاية الأصول، الآخوند الخراساني، ص206.
[2] وسائل الشيعة، العاملي، ج9، ص55، ابواب ما يجب فيه الزكاة، ب8، ح6، ط مؤسسة آل البيت.