الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

38/12/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مقدمات الحكمة - الاطلاق ومقدمات الحكمة.

اضافة مقدمة جديدة:- نرى من المناسب اضافة مقدمة جديدة وهي أن يكون الاطلاق مستهجناً عرفاً على تقدير كون مراد المتكلم واقعاً هو المقيّد ، فإذا كان الاطلاق مستهجناً فآنذاك ينعقد اطلاق ويصح التمسّك به ، من قبيل ( اعتق رقبة ) فهنا يستهجن الاطلاق عرفاً إذا كان مراد المتكلم واقعاً هو خصوص المؤمنة فهنا يصح التمسّك بالإطلاق ، وأما إذ لم يكن مستهجناً فلا ينعقد الاطلاق ، كما لو فرض أنه قال ( جئني بماء ) ولم يقيد بأنَّ يكون الماء بارداً والمفروض أنَّ الجو حار وفي وقت الظهر فهنا هل تستطيع أن تتمسك بالإطلاق وتأتيني بماءٍ دافئ وليس بارداً بدعوى أنني قلت ( جني بماء ) وهذا مطلق ؟! هنا يمكن أن يقال لا يجوز التمسّك بالإطلاق لأنَّ هذا الاطلاق لا يستهجن إذا كان مراد المتكلّم واقعاً هو خصوص الماء البارد لأنَّ نفس الجو وباقي الأمور الأخرى تساعد على أرادة المقيد فلا يستهن الاطلاق وإذا كان لا يستهجن الاطلاق فلا يجوز التمسّك به.

هذه مقدمة جديدة يلزم اضافتها إلى مقدّمات الحكمة ، وبادئ ذي بدء يبدو أن هذه المقدّمة يلزم أن تكون واضحة ولا يقع فيها كلام .

ولكن على أيّ حال الكلام يقع في مدركها مرّة ، وأخرى في النتائج المترتبة عليها وأنه من خلالها سوف تسقط بعض الاطلاقات بل الكثير منها ، ومرّة فيما يورد عليها:-

أما مدركها :- فيمكن أن يقال: إنَّ هذه المقدمة هي من قبيل قضايا قياساتها معها ، إذ المفروض أنها تقول إذا لم يستهجن الاطلاق على تقدير ارادة المقيد فحينئذٍ لا يجوز التمسّك بالإطلاق ، والوجه: هو أنه يحتمل أنَّ المتكلم لا يريد الاطلاق بل يريد المقيد ولا نافي لإرادته المقيد فإنَّ النافي هو استهجان الاطلاق عرفاً على تقدير ارادة المقيّد ، وحيث إنه لا يستهجن الاطلاق فإذن لا يوجد ما ينفي الاطلاق ، فكلا الاحتمالين يصير وارداً ووجيهاً - يعني احتمال رادة المتكلّم المقيّد واقعاً واحتمال أنه يريد المطلق - فلا نافي لإرادة المقيد واقعاً ، وبالتالي لا يصح التمسّك بالإطلاق ، إذ لا يوجد ما ينفي ارادة المقيد فالاثنين ليس بمستهجن فإرادة المقيد ليست بمستهجنة وإرادة الاطلاق أيضاً ليست مستهجنة فكلاهما محتمل فيصير الكلام مردّداً ومجملاً فيتمسّك بالقدر المتيقن منه وهو المقيد دون ما زاد على ذلك إذ لا مثبت لإرادة الأوسع من المقيّد ، فإذن هذه القضية واضحة ولا يمكن لأحدٍ أن ينكرها ، هذا بالنسبة إلى مدركها وهو البداهة.

وأما بالنسبة إلى ما يترتب عليها:- فيترتب عليها جملة من الأمور :-

أحدها:- إنَّ القدر المتيقن في مقام التخاطب يمنع من التمسّك بالإطلاق ، يعني نصل إلى نفس ما أراده صاحب الكفاية(قده) لا من الطريق الذي رسمه هو فإنه قال ( فإنَّ الواجب على الحكيم أن يبيّن واقع مراده لا أن يبين أنَّ هذا هو تمام مراده ) فهو قد تمسّك بهذا ، والاشكال عليه اضح حيث يقال له:- من أين لك هذا بل يكفي أن يبيّن واقع المراد ، يعني إذا كان واقع المراد هو القدر المتيقن في مقام التخاطب مثل قاعدة التجاوز في باب الصلاة يكفي فيقال كلا هذا لا يكفي بل يقال يلزم أن يبيّنه في مقام الجعل ، فأنت يوجد عندك دليل فلابد أن تبيّن في الدليل كل القيود الدخيلة في المراد فإذا لم تبيّن هذا القيد يظهر أنه ليس بدخيل ولو كان يكفي القدر المتيقن في مقام التخاطب للزم أن يكفي القدر المتيقن من الخارج ، فصاحب الكفاية(قده) لم يستند إلى مستند علمي تركن إليه النفس ، أما ما نذكره فهو جيّد حيث يقال إنَّ القدر المتقين في مقام التخاطب يمنع من انعقاد الاطلاق لأنه لو ظهر الامام الصادق عليه السلام وقال إنَّ مرادي من قاعدة ( يا زرارة كل شيء شككت فيه وقد خرجت منه ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء ) هو خصوص باب الصلاة وليس مقصودي الاطلاق لا يستهجن منه ذلك ولا يقال له لماذا لم تبيّن ، فإنَّ الامام عليه السلام سوف يدافع ويقول إنَّ كلامنا كلّه كان في باب الصلاة فلماذا أقيد ؟!! ، فعلى هذا الأساس لا يستهجن منه الاطلاق لاتصال الكلام بما يصلح للقرينية وهو نفس الحوار عن هذا الشيء ، هذا هو القدر المتيقن في مقام التخاطب وهذا سند علمي ، فإذن يترتّب على ما ذكرنا أنَّ القدر المتيقن في مقام التخاطب يمنع من التمسّك بالإطلاق.

ثانيها:- إنَّ الانصراف لغلبة الوجود أيضاً وجيه ، يعني يمنع من التمسّك بالإطلاق ، فإنَّ صاحب الكفاية(قده) وهكذا بقية الأصوليين قالوا إنَّ الانصراف الناشئ من غلبة الوجود لا يمنع من التمسّك بالإطلاق ، أما بناء على المقدّمة التي أشرنا إليها سوف تكون غلبة الوجود مانعة ، إذ قد يكون المتكلّم قد اطلق وقال ( جئني بماء ) ولم يقيد بماء الفرات أو دجلة فهل يجوز التمسّك بالإطلاق للاكتفاء بماء النيل ؟ يمكن أن نقول إنَّ غلبة الوجود مانعة من التمسّك بالإطلاق ، لأنَّ المتكلم إذا قيل له إذن لماذا أطلقت ؟ فيصحّ أن يعتذر ويقول أنا اطلقت لأجل أننا نعيش في العراق فلماذا أقيد ؟!! ، نعم إذا كان ماء النيل موجوداً في الأسواق بكثرة فيلزم التقييد ، أما إذا كان الموجود فقط وفقط وعادةً هو ماء دجلة والفرات أما أنك جلبت معك من مصر ماء النيل في قارورة فهنا لا يصحّ التمسّك بالإطلاق لعدم استهجانه على تقدير ارادة المقيّد واقعاً ، فإذن غلبة الوجود تمنع من التمسّك بالإطلاق.

ثالثها:- ويترتب على ذلك أيضاً سقوط الكثير من الاطلاقات ، واستيعاب ذلك مشكل ولكن نذكر بعض الأمثلة:-

من قبيل:- ( صم للرؤية وأفطر للرؤية ) فإن البعض ذهب إلى أنه تكفي العين المسلحة تمسكاً بإطلاق ( صم للرؤية ) حيث قال العين المسلحة هي رؤية والامام عليه السلام قال ( صم للرؤية ) فيكفي ذلك.

وفي مقام الجواب نقول:- إنَّ الاطلاق لا يصح التمسّك به فإنه لو ظهر المتكلّم وأُشكل عليه وقيل لماذا أطلقت ولم تقيّد بالعين المجرّدة فيمكن أن يجيب ويقول إنه في زماننا لا توجد عين مسلّحة أو أنها نادرة الوجود ، فالاطلاق ليس بمستهجن ، فعلى هذا الأساس الاطلاق لا يصح التمسّك به بناءً على ما أشرنا إليه ، فإذن العين المسلحة لا تكفي.

ومن قبيل:- ما ذكره السيد الخوئي(قده) في مسألة بلّة اليد التي يجب المسح بها كما ورد في صحيحة زرارة ( وامسح ببلَّة يممناك ناصيتك )[1] ، ولكن إذا جفّت لبلّة فلا توجد عندي بلّة لأمسح بها فيتعّذر حينئذٍ المسح ببلّة اليمنى فبماذا نحكم على الوضوء ؟ قال السيد الخوئي(قده) نحكم عليه بالبطلان ، ومن الواضح أنَّ هذا مقتضى الأصل الدليل الأوّلي وإلا فالأدلة قد دلت على أنك تأخذ من حاجبك أو من غير ذلك ولكن تلك أدلة ثانوية ولولاها لقلنا بأنَّ الوضوء باطل لأنَّ ( وامسح ببلّة يمناك ) تدل على الشرطية ، يعني شرطية صحّة المسح بان يكون ببلّة اليد اليمنى ومقتضى اطلاق الشرطية أنها ثابتة مطلقاً يعني حتى لو حصل الجفاف فإنَّ اللازم أن تمسح ببلّة يمناك والآن قد تعذّر فعليك اعادة الوضوء من جديد حتى تمسح ببلّة يمناك.

وأذكر قضية جانبية:- وهي أنَّ مدرسة الشيخ الأنصاري السيد الخوئي أنهم يتمسّكون بالإطلاق بعرضة العريض ، فهنا تمسّك بالإطلاق حيث قال إنّ مقتضاه هو أنَّ الشرطية باقية فيبطل هذا الوضوء حينئذٍ ويلزم أن تعيده حتى تمسح ببلّة يمناك[2] .

والذي يورد عليه:- إنه يمكن للإمام عليه السلام أن يجيب يقول إنَّ مقصودي هو ( إن كانت البلّة موجودة فامسح بها ولا يجوز المسح بغيرها ) فالمنظور هو حالة وجودها أما حالة عدمها فليس منظوراً ، ولعلّ السيد الخوئي(قده) يرد ويقول:- أنت أطلق ولم تقل ( إن كان موجوداً ) بل قلت ( وتمسح بلّة يمناك ناصيتك ) ولم تقيّد بما إذا كانت البلّة موجودة ومقتضى الاطلاق أنَّ الشرطية ثابتة مطلقاً ؟!! ، وهنا يمكن أن ندافع عن الامام عليه السلام ونقول:- إنَّ الامام عليه السلام يمكنه أن يجيب ويقول: إني لم أقيد لأنه من الواضح أن المسح بالبلّة يكون مع وجودها ، فيمكن للإمام أن يقول أنا اعتمدت على هذا - يعني إن كانت موجودة فامسح بها - لوضوح أن المسح بها على تقدير وجودها ، وهذا الاحتمال موجود ، فإذا دافع الامام هكذا فالاطلاق حينئذٍ لا بأس به ولا يكون مستهجناً ، وإذا لم يكن مستهجناً فلا يصح التمسّك بالإطلاق لإثبات أنَّ الشرطية مطلقة ومن ثم اعادة الوضوء.


[1] وسائل الشيعة، العاملي، ج8، ص237، ابواب الوضوء، ب31، ح2، ط آل البيت.
[2] التنقيح في شرح العروة الوثقى، الخوئي، ص228، ط قديمة.