الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

38/12/14

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مقدمات الحكمة - الاطلاق ومقدمات الحكمة.

القدر المتيقن في مقام التخاطب:-

ذكر الشيخ الخراساني(قده)[1] أنه يشترط في تحقق الاطلاق انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب وكأنه يريد أن يقول إنَّ القدر المتيقن تارةً يتولد من سياق الكلام يعني أخذ في الكلام والحوار خصوصيات هي التي تكون منشأً لتحقق الانصراف وهذا ما يصطلح عليه بالقدر المتيقن في مقام التخاطب ، يعني من الخطاب قد تحقق القدر المتيقن ، وأخرى لا من الخطاب ، أما مثال ما يتحقق لا من الخطاب فهو كثير وما من مطلقٍ إلا وله قدر متيقن من الخارج ، فإذا قلت لك ( جئني بماء ) فهناك قدر متيقن من الخارج هو الماء في القدح اللطيف والماء اللطيف الصافي والماء ذي الرائحة الطيبة فهذا قدر متيقن ، ولو قلت لك ( أكرم الفقير ) فالقدر المتيقن من الفقير هو المتديّن الورع وهذا كلّه من الخارج لا من الخطاب بنفسه وهذا لا يمنع من انعقاد الاطلاق بالوجدان وإلا لا يبقى لنا اطلاق أصلاً .

وأما القدر المتيقن في مقام التخاطب فأمثلته كثيرة ، من قبيل صحيحة زرارة الواردة في قاعدة التجاوز ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام:- رجل شك في الأذان وقد دخل في الاقامة ، قال:- يمضي ، قلت:- رجل شك في الاذان والاقامة وقد كبّر ، قال:- يمضي ، قلت:- رجل شك في التكبير وقد قرأ ، قال:- يمضي ............ يا زرارة إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشيء )[2] ، وقد وقع الكلام في أن قاعدة التجاوز التي ذكرها الامام عليه السلام هل هي خاصة بباب الصلاة أو وسيعة لكن باب الصلاة مصداق لها فهي تشمل حتى باب الحج ، فالذي دخل في صلاة الطواف ثم شك أنه طاف أو لا وهل أكمل الطواف أو لم يكمله فهل يقال له امضِ في حجّك لأنك دخلت في غيره هذا إذا قلنا بالتعميم أما إذا لم نقل بالتعميم فالأمر يصير مشكلاً ، وهذا مثال للقدر المتيقن في مقام التخاطب لأنَّ الحوار عن الصلاة فالقاعدة العامة ذكرت في مثل هذه الأجواء - يعني أجواء الحوار عن الصلاة - فهل يوجب هذا اختصاص القاعدة بما يدور حوله الخطاب - أي الصلاة فقط - أو أنَّ هذا لا يؤثر بل تبقى القاعدة على عمومها؟

وقال صاحب الكفاية(قده):- إنَّ القدر المتيقن في مقام التخاطب يمنع من انعقاد الاطلاق ، وعليه سوف تصير قاعدة التجاوز عنده خاصة بباب الصلاة ، بينما الآخرون الذين أنكروا على صاحب الكفاية ذلك الشيخ النائيني والسيد الخوئي وغيرهما فهؤلاء تبقى القاعدة عندهم عامة.

وما هو دليل صاحب الكفاية فإن هذه دعوى تحتاج إلى دليل ؟

قال(قده):- إنَّ الواجب على المتكلّم الحكيم أن يبيّن تمام مرامه من خلال كلامه ولكن هل يلزم أن يوضّح للطرف المخاطب أنَّ تمام مرامه هو هذا أو يكفي أن يبيّن تمام مرامه وإن لم يبيّن للمخاطب أنه تمام المرام ، فمثلاً هنا لو كان تمام المرام هو قاعدة التجاوز في خصوص باب الصلاة يعني أنَّ قيد باب الصلاة كان دخيلاً في المرام فهل يلزم أن يبيّن المتكلّم ويقول إنَّ تمام مرامي هو باب الصلاة أو أنه يبيّن له واقع تمام المرام من دون حاجة إلى أن يبيّن له أنَّ هذا هو تمام المرام ؟ ادّعى الخراساني أن الواجب على الحكيم أن يبيّن واقع تمام المرام من دون لزوم بيان أنَّ هذا هو تمام المرام ، فإذا كان الواجب عليه هو هذا فهو قد بيّنه فإنّ واقع تمام المرام قد بيّنه ، فهو بيّن قاعدة التجاوز في باب الصلاة فهو بيّن جريانها في باب الصلاة فإذن إذا كانت مختصة بباب الصلاة فهو قد بيّنه غاية الأمر هو لم يبيّنه بلسان أنه تمام المرام بخصوص باب الصلاة ولكن بالتالي هو قد بيّنه لكنه بين واقع تمام المرام ولم يبيّن أنَّ هذا - وهو الاختصاص بباب الصلاة - هو تمام المرام.

فإذن صاحب الكفاية(قده) ادّعى هذه الدعوى وهي أن الواجب على المتكلم الحكيم أن يبين واقع تمام مرامه ولا يلزم أن يبين أن هذا هو تمام مرامه فإذا كان اللازم أن يبين واقع تمام المرام فهو قد بينه وهو جريان قاعدة التجاوز في باب الصلاة فكفي حينئذٍ فلا يكون مخلاً بما تقتضيه قرينة الحكمة ، وحيث نحتمل أنَّ تمام المرام هو الاختصاص بباب الصلاة فلا يمكن اثبات التعميم.

فإذن يلزم أن تأتي بمقدّمتين الأولى: أنَّ الواجب عليه أن يبين واقع تمام المرام ، والثانية: أن نحتمل أو واقع تمام المرام هو قاعدة التجاوز في خصوص باب الصلاة لا أكثر ، وبناء على هذا لا يمكن استفادة الاطلاق.

وإذا أردنا أن نبيّن عبارة صاحب الكفاية بالعبارة العلمية الغامضة فنقول:- إنَّ الواجب على المتكلّم الحكيم بيان تمام مرامه بالحمل الشايع دونه بالحمل الأولي.

والحمل الشايع يعني أن أقول لك ( انسان بالحمل الشايع ) يعني واقع الانسان ومصداقه يعني زيد وعمرو وبكر ، أما الانسان بالحمل الأوّلي فهو الحيوان الناطق أو الانسان ، فهنا صاحب الكفاية(قده) يريد أن يقول يلزم عليه أن يبيّن واقع تمام المرام يعني يقول هو تمام المرام بالحمل الشايع وليس من الواجب أن يبيّن تمام المرام ويقول هذا تمام مرامي فإذا قال هكذا فهذا بيان لتمام المرام بالحمل الأوّلي لأنه بيّن أنَّ هذا هو تمام المرام فإنَّ الانسان بالحمل الأوّلي هو نفس الانسان أو الحيوان الناطق أما بالحمل الشايع فهو زيد وبكر وغيرهما.

وقد ناقشه الأعلام في ذلك:- وحاصل مناقشتهم هي أنك قلت إنَّ الواجب على الحكيم أنَّ يبين واقع تمام المرام فلو كان تمام المرام هو قاعدة التجاوز المختصّة بباب الصلاة فقد بيّنه وهو المقيّد وهو الاختصاص ، ونحن نقول:- إنَّ هذا المقدار لا يكفي مادامت ألفاظه لم يذكر فيها القيد فإنه في مقام الجواب قال ( يا زرارة إذا شككت في شيء ودخلت في غيره ) فكل الألفاظ التي أتى بها الامام عليه السلام عامة مطلقة فمادامت ألفاظه مطلقة لا يكتفى حينئذٍ في تحقق بيان تمام المرام بكونه هو القدر المتيقن في مقام التخاطب بل لابد أن يذكر القيد في الخطاب ، فمادام المرام أضيق ومقيّد بباب الصلاة فيلزم على الحكيم عرفاً وعقلائياً في باب المحاورة أن يقيّد بباب الصلاة فيقول ( هذا إذا كان في باب الصلاة ) ، أما إذا لم يبيّن ذلك فنستكشف أنَّ باب الصلاة ليس دخيلاً في مرامه ، يعني بتعبيرٍ آخر:- إنه لا يكفي من الحكيم أن يبيّن واقع تمام المرام مادامت ألفاظه مطلقة.

وهذه دعوى في مقابل دعوى صاحب الكفاية(قده) فهو يقول يكفي ذكر واقع تمام المرام ، أما هم فيقولون لا يكفي ذلك بل لابد أن يذكر القيد في كلامه إذا كان القيد له مدخلية في مرامه ، وقصدي من القيد هو الاختصاص باب الصلاة فإذا لم يبيّنه نستكشف أنَّ مرامه مطلق ومجرّد كونه قدراً متيقناً في مقام التخاطب لا يكفي مادامت ألفاظه مطلقة.

وقد نقضوا عليه بعدّة نواقض:-

الأوّل:- إنه يلزم أنَّ القدر المتيقن من الخارج أيضاً يجوز أن يعتمد عليه المتكلّم ، يعني حينما قال ( جئني بماء ) وقد قلنا أنَّ القدر المتيقن من الخارج هو الماء البارد النقي فهذا هو قدر متيقن من الخارج فيلزم أن يكون كافياً في البيان مادام هو قدر متيقن والحال أنَّ العقلاء يقولون لا يكفي ذلك فإنه إذا كانت هذه الخصوصيات لها مدخلية فيلزم أن يأخذها في الخطاب فعدم أخذها في الخطاب دليل على أنها ليست لها مدخلية ومجرّد كونها قدراً متيقناً من الخارج لا يكفي مادامت هذه القيود لم تؤخذ في لفظ الدليل ، ونفس الكلام ننقله إلى القدر المتيقن في مقام التخاطب فلو كانت القيود دخيلة كباب الصلاة فيلزم أن نأخذه في الخطاب.

الثاني:- إنَّ الكثير من الخطابات سوف تسقط اطلاقاتها ، فمثلاً يسأل من الامام عليه السلام فيقول ( أصاب ثوبي دم ، فقال:- اغسله ) - يعني للصلاة - إنَّ مورد الخطاب هو المتكلّم الذي يسأل وهو زرارة فالدم دمه والثوب ثوبه فالقدر المتيقن من مقام التخاطب هو دم زرارة وثوبه فكيف نعمم الحكم لبقيّة الثياب وبقية الدماء ؟!! إنَّ هذا أقوى شاهد على أنَّ القدر المتيقن في مقام التخاطب لا يمنع من انعقاد الاطلاق وإلا إذا كان يمنع فأكثر خطاباتنا إن لم نقل كلّها سوف تسقط عن الاعتبار لأنها واردة في موارد خاصّة حيث يسأل الراوي عن الدم الخارج منه أو البول أو غير ذلك.

الثالث:- إنه يلزم حينما سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بئر بضاعة اختصاص الحكم ببئر بضاعة ، ونصّ الحديث الشريف:- ( قال النبي صلى الله عليه وآله وقد سئل عن بئر بضاعة:- خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه )[3] إنَّ مورد السؤال والحوار هو عن بئر بضاعة ولكن الحكم الذي نستفيده هل يختص ببئر بضاعة ؟ لا إشكال في أنه يعمّ جميع الآبار لا خصوص بئر بضاعة وهذا معناه أنَّ القدر المتيقن في مقام التخاطب لا يمنع من انعقاد الاطلاق.

أما من هو بضاعة ؟

ورد في مجمع البحرين في مادة ( بضع ) أنه ( بئر بضاعة بئر بالمدينة لقومٍ من الخزرج وبضاعة اسم رجل أو امرأة وأهل اللغة يفتحون الباء ويكسرونها والمحفوظ من الحديث الضم ) ، وقال في معجم البلدان ( بضاعة بالضم وقد كسره بعضهم والأوّل أكثر وهي دار بني ساعدة بالمدينة وبئرها معروف فيها أفتى النبي بأن الماء طهور ما لم يتغير )[4] .


[1] وهو من الآراء الخاصة به ولم تعرف نسبة هذا الرأي إلى غيره.
[2] وسائل الشيعة، العاملي، ج8، ص237، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ب28، ح1، ط آل البيت.
[3] مستدرك الوسائل، النوري، ج1، ص202، أبواب الماء المطلق، ب3، ح4.
[4] معجم البلدان، ياقوت الحموي، ج1، ص442.