الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

38/12/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مقدمات الحكمة - الاطلاق ومقدمات الحكمة.

الانصراف:-

المعروف تقسيم الانصراف إلى نحوين ، وربما يضاف إلى ذلك نحو ثالث ، فيصير المجموع ثلاثة:-

الأوّل:- ما ينشأ من كثرة الوجود ، كما إذا قلت جئني بماء والموجود كثيرً عندنا ماء الفرات فإذا جاء بماء النيل كفى أيضاً ، هنا قد يقال يحصل انصرف إلى ما هو كثير الوجود ، وهنا ذكر صاحب الكفاية(قده) أن كثرة الوجود لا عبرة بها ولا توجب الانصراف فإن الحكم منصبٌّ على الطبيعة وكثرة الوجود لا توجب تضيق موضوع الحكم وصيرورته الطبيعة المقيدة بل يبقى كما هو وعلى هذا جرت سيرة العقلاء ، فلو كان هناك ماء غير ماء الفرات أكتفي بالاتيان به وتحقق الامتثال ، هذا هو المعروف بين علمائنا.

بيد أن صاحب الحدائق(قده) يظهر منه في مواضع من الحدائق بأنَّ كثرة الوجود تمنع عنده من التمّسك بالإطلاق ، فواحدة من المسائل المذكورة في الفقه هي أنه من أتى أهله في شهر رمضان أفطر فلو فرض انه أتى أهله من الدبر - والمفروض أنه لم ينزل فلو أنزل فإنَّ الانزال يكفي في تحقق الجنابة - فهل يكفي ذلك لبطلان الصوم ؟ قال الفقهاء: إنَّ ( أتى أهله ) يصدق ، ولكنه قال إنَّ الفرد الشائع هو الاتيان من القبل لا من الدبر فالاتيان من الدبر لا مثبت لكونه مبطلاً ، كما أنه ذكر مورداً ثانياً وهو من أتى أهله في الحج قبل المشعر الحرام فهما قد أحرما في مكة ثم ذهبا إلى عرفات وفي عرفات تحقق منهما ما تحقق ولكن الأهل كانت متمتع بها وليست دائمة أو من الدبر فهنا هل يشمله الحكم ونحكم عليه ببطلان الحج ؟ هنا قال صاحب الحدائق(قده):- إذا كانت متمتع بها أو فرض أنها دائمة ولكن كان الاتيان من الدبر فهنا لا نحكم بالبطلان[1] .[2] [3]

فالمقصود أنَّ المعروف بين علمائنا الأصوليين أن كثرة الوجود لا توجب الانصراف الحجة وخالف النتيجة صاحب الحدائق(قده) ، ولنا في ذلك كلام سنذكره فيما بعد فانتظر.

هذا هو المنشأ الأوّل للانصراف وهو ليس بحجة فهو لا يوجب لانصراف.

الثاني:- الانصراف الناشئ من كثرة الاستعمال ، من قبيل عبرة ( الشيخ الأعظم ) أو ( شيخ الطائفة ) مثلاً فإنه كثر استعماله في الشيخ الأنصاري أو في الشيخ الطوسي ، فهذا حجة كما قال صاحب الكفاية حيث قال ، لأنَّ كثرة الاستعمال توجب زيادة ارتباط بين اللفظ وبين المعنى المنصرف إليه إذا صارت شدة ارتباط فحينئذٍ ينتقل الذهن إلى هذا المعنى المنصرف إليه وهو صالح للاعتماد عليه كقرينة موجبة لتعيين المراد وللأخذ بالمعنى المنصرف إليه بخلافه فيما إذا كان لمنشأ هو كثرة الوجود فإن كثرة الوجود لا توجب زيادة ارتباط بين اللفظ والمعنى أما هنا فتوجب زيادة ارتباط فيكون ذلك حجة ، هذا ما ذكره وهو شيء صحيح أيضاً فإنَّ العقلاء والسيرة جرت في مثل ذلك على أنهم يحملون اللفظ على لمعنى المعروف ، ولذلك لو جاء شخص وحمل لفظ ( شيخ الطائفة ) على غير الشيخ الطوسي لا نقبل منه ذلك أبداً ، ومن الواضح أننا لا نقبل منه ذلك بما أنا عقلاء وأهل لسان وأهل محاورة وهذا معناه أنَّ العرف يرى أنَّ الانصراف الناشئ من كثرة الاستعمال هو حجة وهو منشأ صحيح للانصراف.

وهناك قسم ثالث:- وهو الانصراف الناشئ من الارتكازات العرفية أو العقلائية أو المتشرعية ، وهذا الانصراف حجة لانعقاد السيرة عليه ، من قبيل ( عورة المؤمن على المؤمن حرام ) فلو فرضنا أنَّ المؤمن الناظر كان لا يميز إما لعدم بلوغه أو أنه بالغ ولكن كان أبلهاً أو كان شيخاً كبيراً لا يميز فيمكن حينئذٍ أن نكشف عن العرة أمامه ؟ قد تتمسّك بإطلاق ( عورة المؤمن على المؤمن حرام ) فإذن هذا مطلق ولم يقل لابد أن يكون المؤمن الناظر مميزاً بل قالت مجرّد كونه مؤمناً وهذا مؤمن حتى مع عدم كونه مميزاً .

ولكن في مقام الجواب نقول:- هناك ارتكاز عرفي أو عقلائي وهو أنّ حرمة ابراز العورة هو من ناحية أنه سوف ينظر ويرى أما أنه إذا فرضنا أن لا ينظر ولا يرى بل يرى العورة كما يرى الجدار أو كما يرى سائر اعضاء البدن فهنا لا حرمة حينئذٍ ، فالذي أوجب الانصراف إلى المميز هو هذا الارتكاز العقلائي العرفي.

وهناك مثال آخر على ذلك وهو:- ( اغسل ثوبك من ابوال ما لا يؤكل لحمه ) فلو فرضنا أنا ردنا أن نغسل الثوب بالماء المضاف فهل يكفي هذا فإن الرواية قالت ( اغسل ) ولم تقل اغسله بالماء المطلق وأنا قد غسلته ، أو لو فرض أني غسلته بالماء المطلق ولكن المتنجّس وليس الطاهر فهل يكفي هذا أو لا علماً أنه لا توجد وراية في ذلك ؟ هنا توجد مرتكزات تقضي بأنه إنما أنا أريد الغسل لأجل أن يُطهَّر لا أن يقذَّر والغسل بالمضاف يزيد قذارته فلو ، أردت أن تغسله بماء الرمان مثلاً فسوف يصير أكثر قذارة ، وهكذا لو فرضنا أن الماء مطلق ولكنه متنجّس ففاقد الشيء لا يعطيه ، ولا تقل لي من أين يفهم العرف والعقلاء ( فاقد الشيء لا يعطيه ) ؟ فأقول لك:- أنت نظرت إلى الألفاظ لكن واقع المطلب هو شيء عرفي واضح يعني لا أن الألفاظ جعلته شيئاً خارجاً عن كونه قضية عرفية واضحة ، فإذن نعتمد على هذا الارتكاز ونقول ينصرف إلى الغسل بالماء المطلق لا بالمضاف ، وبالطاهر دون المتنجّس ، والمستند هو هذه المرتكزات.

نعم توجد قضية جانبية نبينها كفائدة:- وهي أنه كيف لحكم بالنسبة إلى المعقّمات الجديدة ، فإن المعقمات كالديتول هي تقوم بتنظيف الشيء تنظيفاً جيداً فهل يكفي هذا أو لا ؟ قد يقول قائل:- إنه لا يوجد ارتكاز على الخلاف فيكفي ، وإذا كان جسوراً فيقول يجوز ذلك تمسّكاً بالإطلاق ، وقد يحتاط شخص آخر ، ومقصودي أنه يوجد مجال هنا وهذه القضية تابعة إلى أنه يوجد ارتكاز أو لا ، ولكن يوجد ارتكاز فيما إذا كان متنجّساً أو كان مضافاً فهنا لا يكفي.

ولو أردنا أن نتجاوز عن هذه الارتكازات ونغضّ النظر عنها ولا نعير لها أهمية أمكنني أن أقول مع كامل الاطمئنان لخرجنا بفقه جديد ، فإنه سوف ينتج عندنا أنه يجوز التطهير بالماء النجس وكذلك بالماء المضاف ومن هذ ا القبيل الشيء الكثير ، وأنا لا أريد أن أسجّله دليلاً على ثبوت هذا الانصراف وحجيته ولكن أريد بيان واقع وأقول شيء وهو أنه بعض الناس الآن يتجاوزون على الحدود يعني أنا الحوزوي لا يقبلون أن أدخل في قضايا الطب والفلك والكيمياء والفيزياء فيقولون أنت حوزوي وليس صاحب اختصاص ، ولكن نقول لهم أنتم كذلك فإنه لا معنى لأن تتدخلوا في مجالنا فتقولون لماذا صار هذا حرام بل من المناسب أن يكون جائزاً وما هو الدليل على ذلك وهذا ما يحصل في الفضائيات أو مواقع التواصل الاجتماعي فنقول لهم أنتم ليسوا أصحاب اختصاص بل هذه قضايا حوزوية وتحتاج إلى يبقى الانسان في الحوزة عشرين أو ثلاثين سنة حتى يعرف هذه الارتكازات ،والذي أريد أن أقوله إنَّ هذا الذي هو ليس بحوزوي مثل هذه الارتكازات لا يفهمها ولا يلاحظها كما لا يلتفت إليها الحوزوي في بداية دراسته بل يحتاج إلى سنوات ، فغير الحوزوي لا يمكن أن نبيّن له المطالب ونقول له توجد هناك مرتكزات وهذا الارتكاز يصير مقيِّداً للنص فإنَّ هذا لا يفهمه.

إذن الانصراف له مناشئ ثلاثة لحد الآن الأوّل ليس بمعتبر أما الثاني والثالث فلا إشكال في اعتباره لدى أهل المحاورة والعقلاء ، والعرف ببابك.

وتوجد بعض الأمور نريد لتنبيه عليها في مجال الانصراف:-

الأمر الأوّل:- ما هو وجه حجية الانصراف ، يعني التكييف الأصولي والتوجيه الأصولي لحجية الانصراف ، فهل مجرد العرف وأبناء المحاورة هكذا يفعلون أو توجد عبارة أو مصطلح أفضل من هذا ؟

والجواب:- نقول إذا فرض وجود انصراف فاللفظ يصير له ظهور في المعنى المنصرف إليه فإذا كانت توجد كثرة استعمال فيصير لفظ ( الشيخ الأعظم ) ظاهر في الشيخ الأنصاري وهكذا في المورد الثالث إذا قال ( اغسله ) يحصل ظهور بسبب ذلك الارتكاز في ارادة الغسل بالماء المطلق الطاهر والظهور يعمل به العقلاء فالقضية هي قضية ظهور التمسّك تمسّك بالظهور والشاهد على تحقق هذا الظهور هو العرف فإنَّ العرف يرى وأنا وأنت نرى أنه حينما نقول ( الشيخ الأعظم ) ظاهر في الشيخ الانصاري ونعلم على طبق هذا الظهور فمرجع حيج الانصراف إلى حجية الظهور ومما يؤكد أن هذا الظهور ومما يعمل به هم العقلاء والعرف ، والعرف ببابك.

الأمر الثاني:- إنَّ الأصوليين أو الفقهاء ذكروا أنَّ مناشئ الانصراف هي اثنين أو ثلاثة وحصروها بذلك ، والذي أريد أن أقوله هو أنَّ المناسب للفقيه عدم التقيّد بالمقررات التي وضعها الأصوليون ، فإنا حينما ألاحظ الرواية لابد وأن ألاحظ بالوجدان هل هناك انصراف وظهور في معنى معين ؟ فإذا كان يوجد فآخذ به حتى إذا فرض أنه لم ينشأ كثرة الاستعمال أو لم ينشأ من مرتكزات ولعلّي أنا الفقيه أو الأصولي لا أعلم من أين نشأ ولكن أشعر بوجداني أنَّ هذا موجود ، فمادمت أشعر بالوجدان بتحقق هذا الانصراف والظهور فخذ به وسر على طبقه ولا تبقَ متحيراً في أنه ما هو منشأ هذا الظهور هل هو هذا المنشأ أو ذاك فإذن هذا لا يهم إذ لعلّ المناشئ الثلاثة ليست موجودة فإنه لم تنزل آية مثلاً تقول إنَّ الظهور ينحصر بهذه الثلاثة ، بل الحجية مادامت ترجع إلى الظهور فإذا فرضنا أننا شعرنا يوجد انصراف وظهور في هذا المعنى الضيّق فنأخذ به ولا نبقى مقيّدين بتلك المصطلحات ، وخذ شاهداً على ذلك وهو ما قرأناه في المكاسب في مسألة بيع الجارية المغنية فإنَّ وردت الروايات في أن ثمن الجارية المغنّية سحت فلو باع شخص الجارية المغنّية كان ثمنها سحتاً والبيع باطلاً ولكن لو فرض أنّ هذه الجارية المغنّية بعتها ولكن لا بهدف غنائها بل بهدف أنها جارية تخدم في البيت والغناء ليس بهدف لا من قرب ولا من بعد فلا أنا أريد غناءها والثمن ايضاً لم يكن مرتفعاً حتى نقول هذا الثمن هو لأجل الغناء بل ثمن عادي - وهذه المسألة ذكرها الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب[4] - فما هو الحكم فإنَّ الرواية قالت ثمن الغنية والكلبي سحت فإطلاق الرواية يقتضي الشمول لهذه الحالة فماذا نفعل ؟

قال الشيخ الأنصاري(قده):- لا إشكال في الصحة ولكنه لم يبين النكتة ، فهو قد انطلق من مرتكزاته العرفية فحكم بالصحة بلا اشكال فكيف تبرر أنت هذا ؟ حتماً المنشأ إنه يوجد ظهور في الرواية أنَّ المحرّم هو الجارية المغنّية لغنائها حتى وإن لم تصرّح الرواية بذلك ، لكن من أين جاء هذا الانصراف فهل جاء من كثرة الوجود أو من كثرة الاستعمال أو من غير ذلك ؟ لعلّه لا من هذا ولا ذاك ولكن مع ذلك نشعر به بالوجدان ، والسيد الخوئي(قده) أيضاً أمضاه وقال لا إشكال في وجاهة ما قال الشيخ الأعظم(قده)[5] ولم يبين النكتة فهذا يبيّن أنَّ الانصراف إذا تحقق فخذ به ولا تفتّش عن المنشأ.


[1] الحدائق الناضرة، الشیخ یوسف البحراني، ج13، ص109.
[2] الحدائق الناضرة، الشیخ یوسف البحراني، ج13، ص297.
[3] الحدائق الناضرة، الشیخ یوسف البحراني، ج15، ص263.
[4] كتاب المكاسب، الأنصاري، ج1، ص128.
[5] محاضرات في الفقه الجعفرين الخوئي، ج1، ص192.