الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

38/12/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مقدمات الحكمة - الاطلاق ومقدمات الحكمة.

وأما المقدّمة الثانية:- وهي انتفاء ما يوجب التعيين والذي أبرزه أوّلاً نتكلم في القرينة الخاصة.

لا إشكال في أنه يشترط في انعقاد الاطلاق انتفاء القرينة الخاصة - غير الانصراف وغير القدر المتيقن في مقام التخاطب فإنَّ هذان سوف نتكلّم عنهما فيما بعد - من دون فرق بين المتصلة أو المنفصلة وهذا لا ينبغي أن يكون محلاً للكلام والنقاش ، إذ مع القرينة الخاصة كيف ينعقد الاطلاق فهو يقول ( اعتق رقبة مؤمنة ) فكيف ينعقد الاطلاق ؟!! ، وهكذا لو كانت القرينة منفصلة فإنه لا يجوز التمسّك بالإطلاق وهذا مطلبٌ واضح ولا كلام فيه ، نعم هناك قضية يجدر بحثها وهي أنَّ القرينة المنفصلة لا إشكال في أنه مع وجودها لا يجوز التمسّك بالإطلاق وهذا مسلَّم ولا ينبغي أن يقع فيه كلام ، وإنما الذي نريد أن تعرّض إليه هو أنه إذا كانت هناك قرينة منفصلة فهل القرينة المفصلة تزيل الظهور الاطلاقي من الأساس أو تزيل حجيته فالظهور في الاطلاق باقٍ ومنعقد غايته لا يكون حجة مع القرينة المنفصلة ، فإذا قال المتكلّم ( أكرم الفقير ) فهذا مطلقٌ ولازمه اكرام كلّ فقير وبعد شهر قال ( لا تكرم الفقير الفاسق ) فهنا جاء المقيّد بعد ذلك فبلا إشكال إنه حينما جاء المقيد المنفصل فالاطلاق لا يجوز التمسّك به ولكن كلامنا أنّ الظهور في الاطلاق والشمول للفاسق هل يزول من الأساس أو هو باقٍ غايته ليس بحجة ؟ هذه القضية لم تطرح بشكلٍ واضح في كلمات الأصوليين ، وقد أشار صاحب الكفاية(قده) إلى ذلك وقال ما يوحي بأنَّ الظهور في الاطلاق موجودٌ غايته لا يكون حجة ، ونصّ عبارته ( لا يكون الظفر بالمقيد ولو كان مخالفاً كاشفاً عن عدم كون المتكلم في مقام البيان ولذا لا ينثلم به اطلاقه وصحة التمسّك به أصلاً )[1] ، إنَّ هذه العبارة وله عبارة أخرى تأتي منه بعد صفحة تقريباً هي قريبة من هذه العبارة توحي بأن القرينة المنفصلة لا تسلب الظهور لأنه قال ( لا تكشف عن عدم كون المتكلم في مقام البيان ) بل هو لازال في مقام البيان ولذا عبّر وقال ( ولذا لا ينثلم به اطلاقه ) ، فالاطلاق موجود يعني يريد أن الظهور الاطلاقي موجود غايته لا يمكن التمسّك به ، إنَّ هذه العبارة يمكن أن يفهم منها هذا الشيء.

بينما الشيخ النائيني(قده) ذكر ما يوحي بأنه يزول أصل الظهور الاطلاقي بمجيء القرينة المفصلة ، قال في فوائد الأصول:- ( الثالث عدم ذكر القيد من المتصل والمنفصل لأنه مع ذكر القيد لا يمكن أن يكون للكلام اطلاق )[2] ، فهذه العبارة يمكن أن يفهم منها أنه عند مجيء القرينة المنفصلة لا ينعقد الاطلاق أي يزول الظهور الاطلاقي ، وقد ذكر ذلك أيضاً في أجود التقريرات حيث قال:- ( الدلالة التصديقية الكاشفة عن مراد المتكلم واقعاً ... تتوقف على عدم وجود القرينة مطلقاً سواء كانت متصلة أم كانت منفصلة )[3] ، وهذه العبارة تقول إنَّ القرينة مع وجودها سواء كانت متصلة أو منفصلة يزول الظهور في أنَّ هذا الاطلاق مراد.

إذن الشيخ النائيني(قده) لم يذكر أكثر من هذا .

وهنا سؤالان:-

السؤال الأوّل:- ما هي الثمرة المترتبة على ذلك ؟ ، يعني إذا قلنا أن الظهور الاطلاقي يزول بالقرينة المنفصلة فإنه بالتالي لا يجوز التمسّك به سواء فرض أنه موجود ولا يجوز التمسك به أو نه لا يجوز ذلك من باب السالبة بانتفاء الموضوع أي من باب أنه أصلاً ليس له وجود ، فهل هذا فيه ثمرة أو لا ؟

السؤال الثاني:- ما هي المحاذير التي تترتب على هذا الرأي ، أو ما هي الوجوه التي تضعّف وتبطل هذا الرأي ؟

أما بالنسبة إلى السؤال الأوّل:- نقول إنَّ الثمرة تظهر في هذا المورد وهو ما لو فرض أنه بعد فترة المتكلم أتى بالقرينة المنفصلة فمتى ما أتى بها ينكشف أنه ليس في مقام البيان ولا ظهور في الاطلاق ومعه لا يجوز التمسّك بالإطلاق حتى في الموارد الأخرى بلحاظ آخر ، يعني مثلاً هو قال ( أكرم الفقير ) وبعد شعر قال ( لا تكرم الفقير الفاسق ) فينكشف حينئذٍ أنه ليس في مقام البيان ومعه جميع موارد الشك حتى غير الفاسق لا يجوز التمسّك فيها بالإطلاق ، كما لو شككنا بإنسان أنه غير فاسق أنه هل يجوز اكرامه أو لا من باب أنه هو الذي أفقر نفسه ، فإذا كان الاطلاق موجوداً فيمكن التمسّك به وإلا فلا ، فإذا قلنا إنَّ الظهور في الاطلاق يزول وينكشف أن المتكلّم ليس في مقام البيان فلا اطلاق فلا يجوز التمسّك به في المجالات الأخرى غير الفقير الفاسق الذي هو مورد المقيّد ، وإذا قلنا إنَّ الظهور الاطلاقي موجود فيجوز حينئذٍ التمسّك به بلحاظ الموارد الأخرى.

فإذن تظهر ثمرة هذا البحث بلحاظ غير مورد القيد المنفصل من موارد الشك الأخرى إذا شككنا أنَّ الحكم المطلق ثابت لها أو لا ، فبناءً على الاطلاق كما هو رأي صاحب الكفاية(قده) يتمسّك بالإطلاق بلحاظ الموارد الأخرى ، وأما بناءً على عدم ثبوت الاطلاق وزواله كما يوحي به كلام الشيخ النائيني(قده) فحينئذٍ لا يجوز التمسّك بالإطلاق بلحاظ المواد الأخرى أيضاً ، وهذا يمكن عدّه ثمرة لهذا النزاع وهي ثمرة مهمة.

وأما بالنسبة إلى جواب السؤال الثاني:- فيمكن أن نناقشه بمناقشتين:-

الأولى:- إنَّ لازم ما أفاده(قده) هو أن الظهور انعقد قبل فترة أي قبل ورود المقيد المنفصل ثم يزول بعد ورود المقيد المنفصل والحال أن الظهور ليس من الأمور القابلة للزوال فإنَّ اتصاف الكلام بالظهور فهذا الظهور لا يزول إذ هو من اللوازم الذاتية للكلام حتى لو جاء المقيّد المنفصل ، نعم تزول حجية هذا الظهور لا أنه يزو أصل الظهور ، إذ كيف يزول أصل الظهور فإنه صفة ذاتية للكلام ؟!! ، نعم أحياناً يتصوّر الشخص أنه لا توجد قرينة متصلة فيتصوّر ثبوت الظهور ثم يطّلع عليها أنها موجودة من البداية فحينئذٍ يظهر اشتباهه وبالتالي سوف يعتقد بأنه لا ظهور من البداية أما أنه هو موجود حقيقة وبعد ذلك - يعني حين مجيء القرينة المنفصلة - يزول فهذا شيء غير متصوّر فإنَّ الظهور إذا ثبت فهو لا يزول لأنَّه من اللوازم الذاتية ودعوى زواله مخالف للوجدان ولا يوجد عندي غير الوجدان ، يعني أني أرى أنَّ ظهور الكلام من الصافات الذاتية للكلام لا تزول عنه ، فحينما قال ( أكرم الفقير ) وسكت فهذا فيه ظهور في الاطلاق ، فإذا جاء المقيد المنفصل بعد شهرٍ فنحن نشعر بأنَّ ذلك الاطلاق موجود غايته نقيّد حجيته فنقول إنَّ هذا الاطلاق ليس بحجة ، لا أنه حينما جاء المقيد لا يوجد هناك اطلاق ، كلا بل الاطلاق موجود ولكنه ليس بحجّة ، فما ذكره مخالف للوجدان.

الثانية:- إنَّ لازم ما ذكره(قده) أنه متى ما جاء المقيّد بعد فترةٍ فسوف لا يجوز التمسّك بالإطلاق من الزوايا والجوانب الأخرى وهذا شيء مخالف للسيرة جزماً ، فإن مثل ﴿ أحلّ الله البيع ﴾ مطلق فإذا ورد مقيّد منفصل وقال ( بيع الصبي باطل ) يبقى الاطلاق على حاله بالنسبة إلى سائر الموارد المشكوكة مثل العقد بالفارسية أو بالمضارع أو ما شاكل ذلك ، فيبقى الاطلاق يتمسّك به حتى الشيخ النائيني لا أنه يقال ينكشف أنَّ المتكلّم ليس في مقام البيان ، فإذن لا اطلاق وإذا كان لا اطلاق فلا يجوز التمسّك به حتى بلحاظ سائر الموارد وهذا مخالف للسيرة القطعية.

وربما تذكر مناقشة ثالثة فيقال:- إذا كانت القرينة المنفصلة تزيل أصل الظهور فسوف لا يجوز التمسّك بأيّ مطلق حتى قبل العثور على المقيّد المنفصل ، فكل المطلقات لا يجوز التمسك بها ، والوجه في ذلك: إننا نحتمل أنَّ هذا المطلق حينما صدر من القرآن أو من الامام الأوّل أنه سوف يأتي المقيِّد من الامام المتأخّر ، فما دمنا نحتمل المقيِّد فلا جزم بالظهور في الاطلاق حتى يمكن التمسّك به.

ولكن يمكن للشيخ النائيني(قده) أن يجيب ويقول:- أنا أقول بزوال الظهور بالمقيِّد المنفصل ولكن ليس من الأوّل بل يزول من حين صدور المقيِّد المنفصل ومجيئه لا من البداية ، وبناءً على هذا نحن وإن احتملنا أنه سوف يأتي مقيّد من الامام المتأخّر ولكن الآن هذا المقيّد ليس بموجودٍ وإذا لم يكن موجوداً فالاطلاق يكون موجوداً فيمكن التمسّك به ، نعم حينما يرد المقيد فمن ذلك الحين يمكن للشيخ النائيني(قده) أن يقول بأنَّ الظهور يزول.

فإذن هو يستطيع أن يدفع هذه المناقشة ، ولكن تبقى المناقشتان اللتان أشرنا إليهما.


[1] كفاية الأصول، الآخوند الخراساني، ص248.
[2] فوائد الأصول، النائيني، ج2، ص574.
[3] وذكرها ايضاً في أجود التقريرات، السيد الخوئي، ج1، ص530، ط قديمة.