الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

38/11/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- الاطلاق ومقدمات الحكمة.

الاطلاق ومقدمات الحكمة:-

الفرق بين الاطلاق والعموم هو أنهما يشتركان في شيء ويختلفان في شيء آخر ، فهما يشتركان في أن الاطلاق والعموم عبارة عن استيعاب المفهوم لأفراده بنحو الشمولية أو البدلية ولكن في باب الاطلاق هذا الاستيعاب الشمولي أو البدلي ناشئ من مقدّمات الحكمة بينما في العموم هو ناشئ من الوضع.

فإذن اتضح أنهما يشتملان على عنصر مشترك فكلاهما عبارة عن استيعاب المفهوم لأفراده إما بنحو الاستيعاب الشمولي أو بنحو الاستيعاب البدلي غايته الفارق بين العموم وبين الاطلاق أنه في الاطلاق يكون المستند لهذا الاستيعاب هو مقدّمات الحكمة بينما المستند لهذا الاستيعاب في العموم هو الوضع ، وعلى هذا الأساس لو قلت ( أحلّ الله البيع ) كان ذلك اطلاقاً أما لو قلت ( أحلّ الله كل البيع ) كان ذلك عموماً ، والوجه في ذلك هو أنَّ الأوّل يدل على الاستيعاب بمقدمات الحكمة بينما الثاني الذي يشتمل على كلمة ( كل ) فيدل على الاستيعاب بواسط كلمة ( كل ) ، هذا هو الفارق بين هذين المصطلحين .

ونحن لا نقصد بهذا تعريف الاطلاق أو تعريف العموم حتى يقال إنَّ هذا التعريف ليس بمطرد وليس بمنعكس وينقض عليه ، كلا بل نحن نريد أن نبيّن واقع الحال ، فنغوص إلى الواقع وإلى المعاني فواقع الفرق بين العموم والاطلاق نريد أن نعرفه أما أنَّ صياغة التعريف كيف تصير فتلك قضية ليست مهمة.

والكلام يقع في عدّة جهات:-

الجهة الأولى:- هل الاطلاق مدلول وضعي أو هو مدلول حِكْمي ؟

هناك اتفاق على أنَّ اسماء الأجناس يعني أسماء الماهيات والأشياء من قبيل رجل امرأة دفتر وغير ذلك من الطبائع والماهيات هي تدل على الطبيعة المطلقة ، فحينما يقال ماء فهو يدل على الطبيعة المطلقة بلا إشكال ، إنما الكلام في أنَّ هذا الاطلاق مأخوذ في المعنى الموضوع له بحث المعنى الموضوع له في كلمة ( ماء ) هو طبيعة ماء زائداً ( المطلقة ) بحيث يصير الاطلاق قيداً في المدلول الوضعي فالمدلول الوضعي لكملة ( ماء ) هي طبيعة الماء المقيدة بكونها مطلقة ، أو أنَّ الاطلاق هو مدلول حِكمي يعني أن كلمة ماء مثلاً موضوعة لذات الماء بقطع النظر عن كونها مطلقة أو غير مطلقة والاطلاق نستفيده من مقدّمات الحكمة وإلا المعنى الموضوع له هو الطبيعة الأعم من المطلقة والمقيدة فلنسمّها بالطبيعة المهملة إن صحّ التعبير أو ذات الطبيعة فأيهما هو الصحيح ؟ فعلى الأوّل يصير الاطلاق مدلولاً وضعياً ، وعلى الثاني يصير مدلولاً حِكمياً ، وإنما نحتاج إلى مقدّمات الحكمة بناءً على الثاني الذي يقول إنَّ أسماء الأجناس والماهيات موضوعة لذات الطبيعة المهملة الأعم لا بقيد الاطلاق لا بقيد التقييد فهنا نحتاج إلى اثبات الاطلاق بمقدّمات الحكمة ، وأما إذا قلنا هي موضوعة للطبيعة بشرط كونها مطلقة فالاطلاق يثبت بالوضع بلا حاجة إلى مقدّمات الحكمة ، وقد كانوا قبل زمان سلطان العلماء يرون أن أسماء الماهيات موضوعة للطبيعة بقيد الاطلاق ، فالاطلاق يصير مدلولاً وضعياً وعلى رأيهم لا حاجة لبحث مقدّمات الحكمة ، ومن زمان سلطان العلماء إلى يومنا هذا صار المعروف هو الثاني - وهو أنَّ أسماء الماهيات موضوعة لذات الماهية الأعم من المطلقة والمقيدة - ومعه فإثبات كون مقصود المتكلم هو المطلق نحتاج فيه إلى مقدّمات الحكمة ، ومن هنا انفتح باب بحث مقدّمات الحكمة.

والصحيح من هذين الرأيين هو الثاني وذلك:-

أوّلاً:- التبادر فإنه لا يبعد أنَّ المتبادر من لفظ إنسان أو كتاب أو ماء أو غير ذلك هو ذات الماء ، أما الماء المطلق بشرط كونه مطلقاً غير مقيد بكونه ماء دجلة أو ماء الفرات أو ماء النيل فالاطلاق ليس هو المتبادر وإنما المتبادر هو ذات الماء لا أكثر من ذلك.

ثانياً:- إنه يلزم على الرأي الذي يقول إنَّ أسماء الماهيات للماهية المقيدة بالإطلاق يلزم أن يصير الاستعمال في موارد التقييد مجازاً ، يعني حينما قول أعطني ماء الفرات فيلزم أن يكون مجازاً لأن كلمة ماء موضوعة للماء بقيد الاطلاق فإذا قيدتها بماء الفرات فلا يكون الاطلاق مقصوداً فلم تستعمل كلمة ماء في المعنى الموضوع له فيصير استعمالها مجازاً والحال أننا لا نشعر بالمجازية أبداً.

ثالثاً:- ما أشار إليه صاحب الكفاية(قده)[1] من أنَّ الاطلاق لحاظ ذهني فيلزم أن تكون معاني الألفاظ كلّها أموراً ذهنية - يعني أسماء الماهيات موراً ذهنية - ، فكتاب مثلاً يصير معناه ذهنياً لأنه مأخوذ بقيد الاطلاق والاطلاق هو لحاظ ذهني وهكذا شجر وهواء وغير لك ، فكل ما هو موجود من أسماء الماهيات يلزم أن تكون معانيها ذهنية وبالتالي حينما نستعملها في الفرد نقول جئني بهذا الماء الخارجي يلزم أن نلغي قيد اللحاظ وإلا كان المعنى ذهنياً هذا الماء الذي تأتي به لا يكون مصداقاً للمأمور به إذ المأمور به هو الطبيعة الذهنية وهو طبيعة الماء المقيدة باللحاظ ولا تنطبق على هذا الماء فصلاً لا يمكن الامتثال إلا بتجريد المعنى المستعمل فيه من قيد اللحاظ فيلزم المجازية يعني تصير كل الاستعمالات عندنا مجازية هذا شيء واضح البطلان.

فإذن الصحيح أنَّ أسماء الماهيات موضوعة لذات الماهية ولذات الجنس الأعم من الموجودة في المطلق والمقيد من دون أخذ قيد الاطلاق ولا قيد التقييد والاطلاق نثبته بمقدّمات الحكمة ومن هنا نحتاج إلى مقدّمات الحكمة.

وهذ كلّه واضح.

هذ ولكن الحاج ميرزا علي الايرواني(قد) عنده رأي في هذا المجال[2] وحاصل ما ذكره:- هو أنَّ أسماء الأجناس موضوعة للماهيات التي ذاتها مطلقة ، فالاطلاق لازم ذاتي للمعنى الموضوع له ، فلفظة كتاب وضعت لذات الكتاب التي هي في حدّ ذاتها قابلة للإطلاق ، فإطلاقها هو لازم ذاتي وصفة ذاتية وهذه الصفة الذاتية محفوظة حتى في صورة التقييد ، يعني حينما تقول ( جئني بكتاب كبير أو جميل ) فهذا استعمال في المقيد ولكن رغم هذا لفظ كتاب الدال على الماهية هو مستعمل في الحقيقة في الماهية التي لازمها الذاتي الاطلاق ، ولكن إذا قلت إذن لماذا لا تصدق فحينما أقول لك جئني بالكتاب الكبير لماذا لا يصدق على الكتاب الصغير ؟ أجاب وقال:- إنه لا يصدق من باب أنه أخذ قيد ( الكبير ) فباعتبار القيد لا يصدق على الكتاب الصغير وإلا فلفظة كتاب هي في ذاتها شاملة حتى لهذا الكتاب الصغير ، فباعتبار ذات الكتاب هي شاملة وإنما المانع من الصدق هو التقييد ، فعدم الصدق هو لأجل اضافة القيد لا لأنَّ لفظ الكتاب لم يستعمل في الماهية التي في ذاتها مطلقة ، بل هي في ذاتها مطلقة.

ثم قال:- وليس مقصودي أنَّ أسماء الأجناس موضوعة للماهية بشرط الاطلاق فإنَّ هذا غير صحيح ، بل هي موضوعة لذات الماهية التي يكون اطلاقها لازم ذاتي لها فإنَّ كل ماهية لازمها الذاتي هو الاطلاق وقابلية الصدق على جميع الأفراد ، فأنا أقول إنَّ أسماء الأجناس موضوعة للماهية التي هي في ذاتها مطلقة لا أنها موضوعة للماهية بشرط الاطلاق ، فلو كانت موضوعة للماهية بشرط الاطلاق لا يمكن صدقها على المقيّد لأنه سوف يصير تنافياً ، فلا أتمكن أن أقول ( جئني بكتاب كبير ) لأنَّ كلمة كتاب موضوعة للماهية بشرط الاطلاق والكبير يتنافى مع هذا الشرط فلا يمكن ، فأنا لا أقول هذا فإنَّ هذا غير صحيح ، بل أقول إنَّ أسماء الأجناس موضوعة للماهيات التي في ذاتها هي مطلقة هذا لا يتنافى أن تستعمل في موارد التقييد وتصدق في موارد لتقييد لا يلزم التنافي حينئذٍ ، نعم هي لا تصدق على المقيّد من باب القيد لا من باب ذات الماهية وإلا فالماهية طلاقها ذاتي لها .

ولعلك تقول:- إن هذا واضح ، ولكن ما هو بيت القصيد فأين الثمرة التي أراد أن يرتّبها الحاج ميرزا علي الايرواني ؟ والجواب:- إنه قال إنه على رأينا سوف لا نحتاج إلى مقدمات الحكمة ، لأنه بمقدمات الحكمة نريد أن نثبت الاطلاق والحال أنَّ الاطلاق ثابت لكونه لازماً ذاتياً ولا نحتاج إلى كون المتكلّم في مقام البيان وغير ذلك فإنَّ هذا كلّه لا نحتاج إليه.

فإذن الميرزا علي الايرواني لا يوافق القدماء وإنما يوافق ما بعد سلطان العلماء ، ولكن هؤلاء قالوا بالحاجة إلى مقدّمات الحكمة وهو يقول لا نحتاج إليها لأنَّ الاطلاق ثابت من باب أنه لازم ذاتي ، ونصّ عبارته:- ( ففي مثل أعتق رقبة مؤمنة الرقبة على اطلاقها الذاتي وإن قيّدت بألف قيد وإنما لا تصدق على غير المؤمنة لعدم صدق قيدها ..... وبالجملة الاطلاق ذاتي للماهية فلذا بمحض توجه الحكم إليها يسري حكمها إلى الأفراد بتبع سراية موضوع الحكم بلا حاجة إلى التماس مقدّمات الحكمة ).


[1] كفاية الصول، الآخوند الخراساني، ص244، ط مؤسسة آل البيت عليهم السلام.
[2] الوصول في علم الأصول، الميرزا علي الايرواني، ج1، ص190.