الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

38/11/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- استصحاب العدم الأزلي.

وقد يورد على اهذ الوجه بإشكالات ثلاثة:-

الاشكال الأول:- إن جميع روايات الاستصحاب لا تشتمل على فقرة ( فليس ينبغي ) وبناء على هذا لا يمكن أن نتمسك لإثبات جية استصحاب العدم الأزلي بالروايات المشتملة على هذه الفقرة ، وأما الروايات الفاقدة لهذه الفقرة فيجوز التمسّك بها ، فحينئذٍ نتمسّك لإثبات حجية استصحاب العدم الأزلي بالروايات الأخرى التي لا تشتمل على فقرة ( فليس ينبغي ).

وفيه:- إن الروايات تفرغ بأجمعها عن مطلب واحد لا أن بعضها يريد أن يبيّن مطلباً والآخر يريد أن يبيّن مطلباً ثانيا ، فإذا كان بعض الروايات - وهي المشتملة على فقرة ( فليس ينبغي ) - تدل على أن الاستصحاب الحجة هو ما كانت حجيته مرتكزة في أذهان العقلاء هذا يصير قرينة على أنَّ المقصود من بقيّة الروايات ذلك لأنَّ الجميع يصبّ في وادٍ واحد ويريد أن يبيّن مطلباً واحداً ولا أنَّ البعض يبيّن مطلباً والبعض الآخر يبيّن مطلباً آخر.

هذا مضافاً إلى أنَّ الروايات الأخرى هي وإن لم تشتمل على فقرة ( فليس ينبغي ) ولكنها تشتمل على التعليل فحينئذٍ يكفي اشتمالها على التعليل لقصور دلالتها واختصاص دلالتها بحجية الاستصحاب في مورد الاستصحاب ما بعد الوجود ولا تعم الاستصحاب حال ما قبل الوجود ، وقد ذكرنا سابقاً أن التعليل قرينة أيضاً على أنَّ المنظور في الروايات هو بيان الحجية الارتكازية والروايات تريد أن تبيّن مطلباً ارتكازياً عقلائياً لا مطلباً تعبدياً ، فإذن يمكن تجاوز هذا الاشكال من هذه الناحية.

الاشكال الثاني:- إن الامضاء الشرعي المستفاد من هذه الروايات يمكن أن يكون أوسع من النكتة الارتكازية ، فصحيح النكتة الارتكازية تختص باستصحاب ما بعد الوجود ولا تشمل استصحاب ما قبل الوجود ولكن اي مانع أن يشرّع الشرع الاستصحاب في الدائرة الوسيعة دون الدائرة الضيقة فالنكتة الارتكازية خاصة بالدائرة الضيقة ولكن الشرع بإمكانه أن يجعل الحجية لمطلق الاستصحاب والمناسب هو الأخذ بلسان الحكم وحيث إن لسان الحكم وهو ( لا تنقض اليقين بالشك ) لسان وسيع وعام فنأخذ بعومه وبإطلاقه ولا نعير أهمية إلى تلك النكتة الارتكازية فالنكتة الارتكازية وإن كانت ضيقة لوكان ما شرّعه الامام وأمضاه هو الحكم الوسيع فنأخذ بالإطلاق بدائرته ودرجته الوسيعة وإن كانت النكتة ضيقة إذ لا مانع من أن يشرع الامام حكماً أوسع من النكتة الارتكازية.

وفيه:- إن هذا وإن كان احتمالاً وجيهاً ولكن كما يحتمل ما ذكر أعني أن الامام عليه السلام يريد أن يشرع حكماً أوسع من النكتة الارتكازية كذلك يحتمل أيضاً أنه يريد أن يشرّع حكماً بقدر هذه النكتة الارتكازية فكلا الاحتمالين وارد ومعه يحصل الاجمالي ولا يمكن التمسّك آنذاك بإطلاق الروايات.

ولعلك تقول:- إنَّ لسان ( لا تنقض اليقين بالشك ) هو لسان وسيع وعام ومعه نأخذ بظهوره في العموم والاطلاق ولا موجب للتوقف والتردّد من هذه الناحية بعد ما كان لسان الحكم لساناً مطلقاً وسيعاً ؟

قلت:- إنَّ المورد مصداق لما اتصل به ما يحتمل القرينية ، فصحيح حكم الامام بقوله ( لا تنقض اليقين بالشك ) هو مطلق ولكنه محتفّ ومتصل بما يصلح للقرينية حيث اتصل به تعبير ( فليس ينبغي ) أو نفس ذكر التعليل فهذا الاحتفاف يسلب حجيته في العموم ، بل لعلّه يمنع من انعقاد ظهور له في العموم ، فعلى هذا الأساس نحن لا يمكن أن نتمسّك في مقامنا بإطلاق الحكم بعد فرض احتفاف هذا الكلام بما يحتمل قرينيته فيصير المورد من مصاديق القاعدة التي تقول إذا اتصل بالعام أو المطلق ما يحتمل قرينيته فلا ينعقد له ظهور في العموم أو على الأقل لا يكون ظهوره في العموم حجة.

الاشكال الثالث:- ذكرنا نحن في توجيه عدم حجية استصحاب العدم الأزلي في المقدمة الأولى من الوجه الثاني أنَّ حجية الاستصحاب قضية ارتكازية يعني هي ثابتة في ذهن العقلاء وإذا قبلنا بهذه القضية - يعني أن حجية الاستصحاب ارتكازية بقرينة التعبير بفقرة ( فليس ينبغي ) - نقول آنذاك إنَّ لازم هذا الكلام التسليم بأن سيرة العقلاء قد انعقدت على حجية الاستصحاب إذ سلّمنا بقرينة التعبير بفقرة ( فليس ينبغي ) أن حجية الاستصحاب ارتكازية وإذا كانت ارتكازية فهذا معناه أنَّ سيرة العقلاء منعقدة على حجية الاستصحاب والأخذ به ، وسوف يأتينا في حجية الاستصحاب أنَّ أحد الأدلة التي يستدل بها على حجية الاستصحاب هي السيرة العقلائية ، يعني أن سيرة العقلاء قد انعقدت على العمل بالحالة السابقة والأخذ بالحالة السابقة الذي هو عبارة عن الاستصحاب وقد وقع الكلام في أنَّ السيرة هل انعقدت أو لم يثبت انعقادها ؟ ونحن من المتوقفين في انعقاد السيرة العقلائية على العمل بالاستصحاب بشكلٍ مطلق ، نعم العقلاء يعملون بالحالة السابقة إذ فرض أنه يوجد اطمئنان أو ظن ببقائها أما إذا لم يوجد ظن ببقائها وكان هناك شك متساوي الطرفين كما لو كنّا لا نعلم أنه يوجد درس غداً أو لا فهل نستصحب وجوده ونأتي إلى الدرس أو لا ؟ فإذا ظننا أنه يوجد درس فليس من البعيد أن نأتي ، أما إذا شككنا فهل نستصحب وجود الدرس ونأتي أو نتوقّف من هذه الناحية ؟ إنَّ القدر المتيقن هو أنَّ العقلاء في صورة الظن يعملون بالاستصحاب أما في صورة الشك متساوي الطريفين فليس من المعلوم أنهم يعملون بالاستصحاب وهذا معناه أن حجية الاستصحاب ليست ارتكازية ، فإنها إذا كانت ارتكازية فحينئذٍ لازمه أنَّ العقلاء يعملون بالاستصحاب حتى في موارد الشك والحال في موارد الشك نحن نتوقّف في انعقاد السيرة فيها كما سيأتي.

نعم لا يتوجه هذا الاشكال على من يبني أنَّ السيرة العقلائية جرت على العمل بالاستصحاب مطلقاً - أي حتى في موارد الشك - أما من يتوقّف في انعقاد السيرة على العمل بالاستصحاب في موارد الشك في بقاء الحالة السابقة من دون الظن أو الاطمئنان ببقائها كما هو لحال بالنسبة إلينا فحينئذٍ يلزم تهافت بين التأمل في انعقاد السيرة في موارد الشك والتوقف في انعقادها في موارد الشك وبين دعوى أنَّ حجية الاستصحاب أمر ارتكازي الذي ذكرناه في المقدّمة الأولى من الوجه الثاني لعدم حجية استصحاب العدم الأزلي فإن هذا سوف يكون تنافياً ، فكيف قلت في المقدّمة الأولى من الوجه الأوّل إنَّ حجية الاستصحاب هي أمرٌ ارتكازي أو الرواية تريد أن تبيّن مطلباً ارتكازياً بقرينة ( فليس ينبغي ) وقلت الارتكاز ثابت بمقدار الاستصحاب بمقدار الوجود ، فسلّمت بوجود ارتكاز على الأخذ بالاستصحاب ولكن استصحاب ما بعد الوجود لا استصحاب ما قبل الوجود ، فتسليمك بهذا الارتكاز في المقدّمة الأولى يتنافى مع ما يأتي في مبحث حجية الاستصحاب من التوقّف في انعقاد السيرة على العمل بالاستصحاب في موارد لشك وإنما العقلاء يعملون بالاستصحاب في موارد الظنّ والاطمئنان أما في موارد الشك فنتوقّف فيه فإنه ليس من المعلوم وجود سيرة عقلائية على التسّمك بالاستصحاب ، وهذا تنافٍ فما هو الجواب ؟

وفيه:- إنَّ لأمر الارتكازي الذي أشرنا إليه في المقدمة الأولى من الوجه الثاني تارةً يقصد به الارتكاز بنحو السيرة العملية أي ارتكاز عقلائي يصاحبه سيرة عملية من العقلاء كارتكاز حجية الخبر ، فإنّ حجية الخبر أمر ارتكازي عقلائي بنحو بالنحو الذي انعقدت السيرة العملية خارجاً على ذلك ، وأخرى يستعمل الارتكاز بمعنى ما يقابل التعبّد وأنه ليس أمراً تعبّدياً بل هو مطلبٌ يقبله العقلاء والنكات نكات لا يرفضها العقلاء وإن كانت سيرتهم لم تنعقد بالفعل على ذلك فهذا معنىً ثانٍ للارتكاز العقلائي ، من قبيل ( اكرم هذا الرجل لأنه عالم ) ، إنَّ التعليل بفقرة ( لأنه عالم ) تعليل بأمر ارتكازي ولكن بأيّ معنى ؟ يعني بنكتة عقلائية لا يرفضها العقلاء ، فكون الشخص عالماً يوجب اكرامه قضيّة لا ينكرها العقلاء ويتقبّلونها ولكن لا يلزم من ذلك أن تكون سيرتهم العملية والخارجية جارية على ذلك ، فقد تكون سيرتهم أنهم لا يكرمون العالم ولكن نقول هذا التعليل هو تعليل بأمر ارتكازي أي بنكتةٍ لا يأباها العقلاء ، فهذا ارتكاز بمعنىً ثانٍ. فإذن الأمر الارتكازي نستعمله بمعنيين ، فتارة نستعمله بمعنى ذلك الارتكاز الذي جرت السيرة الخارجية على طبقه ، وتارة نستعمله بمعنى أنه لا يأباه العقلاء ولا يرونه أمراً تعبدياً ، ، ومقامنا حينما قلنا في المقدّمة الأولى إنَّ العقلاء يرون في حجية الاستصحاب أمراً ارتكازياً فمقصودنا هو المعنى الثاني للارتكاز يعني أنهم لا يرون حجيته قضية تعبّدية بل القضية لا يأباها الذهن العقلائي ولكن هذا لا يلازم انعقاد السيرة على العمل على طبق حجية الاستصحاب.

بهذا ننهي كلامنا عن حجية استصحاب العدم الأزلي ، بقي أنه ذكر صاحب الكفاية(قده) بعد ذلك بعض المباحث التي لا أرى أهمية كبيرة للتعرض إليها ، من قبيل: إذا تعقب الاستثناء للجمل المتعدّدة فهل يرجع إلى الأخيرة أو يرجع إلى الجميع ، ومن قبيل: الخطابات الشفاهية هل تختص بالمخاطبين أو تعم الجميع ، وهكذا مباحث أخرى من هذا القبيل فإني أرى أنه لا جدوى من التعرّض إليها لأنها مجرّد استظهار أو أنها فاقدة للجدوى.