الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
38/11/20
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- استصحاب العدم الأزلي.
والصحيح عدم حجية استصحاب العدم الأزلي خلافاً لصاحب الكفاية والسيد الخوئي والسيد الشهيد ووفاقاً للشيخ النائيني العراقي وغيرهما ، وذلك وجهين:-
الوجه الأوّل:- وهذا الوجه يبتني على مبنانا في باب الاطلاق ، فإننا أضفنا في باب الاطلاق مقدّمة أخرى على مقدّمات الحكمة وهي أنه لو كان مراد المتكلّم واقعاً هو المقيّد لاستهجن العرف منه الاطلاق وعدم التقييد ، فإذا استهجن العرف منه الاطلاق وعدم التقييد فهنا ينعقد الاطلاق ويجوز التمسّك به ، أما إذا فرض أنه لم يستهجن منه الاطلاق عرفاً على تقدير كون مراده هو المقيّد ففي مثل هذه الحالة لا ينعقد الاطلاق ، والوجه لعدم انعقاده هو أنَّ المفروض أنه لا يستهجن الاطلاق وإذا كان لا تستهجن الاطلاق على تقدير ارادة المقيّد اقعاً فكيف تتمسّك بالإطلاق لنفي التقييد ؟! إذ لعل مراد التكلّم واقعاً هو المقيّد ، ولا نفيَ لاحتمال ارادة المقيّد إلا أن تقول إذا كان مراده هو المقيد فلماذا أطلق ولم يقيِّد ؟ فنجيب ونقول: المفروض أنه لا يستهجن الاطلاق وعدم التقييد ، فإذا لم يستهجن فلا ينعقد الاطلاق.
فمثلاً إذا قلت لك ( اعتق رقبة ) وفرضنا أنَّ رقبة من الرقاب كان يوجد لها رأسان وأربعة أرجل فهنا هل يمكن التمسّك بالإطلاق لإثبات جواز عتقها والتكفير بها ؟ كلا ، إذ لعل مراد المتكلم هو الرقبة المتعارفة لا مثل هذه الرقبة ، وإذا قلت: لماذا لم يقيد فيقول ( بشرط أن لا يكون لها رأسان أو عدد أرجل كذا ) ؟ قلت: إنما هو لم يقيّد لأنَّ هذه حالة نادرة ومادامت حالة نادرة فنتمكن أن نقول إنَّ العرف لا يستهجن منه الاطلاق ، نعم قد نختلف في موردٍ من حيث الصغرى أنَّ العرف هنا يستهجن الاطلاق أو لا يستهجنه على تقدير ارادة المقيّد واقعاً ولكن هذا خلاف صغروي ، ولكن نحن نقول لو فرض أنَّ العرف لا يستهجن الاطلاق على تقدير ارادة المقيَّد واقعاً فحينئذٍ لا يمكن التمسّك بالإطلاق ولا يمكن أن ينعقد الاطلاق ولا يمكن أن ننفي احتمال ارادة المقيَّد وأنَّ المقصود هو الرقبة التي لا يكون لها رأسان أو أرجل متعددة ، فالإطلاق لا يجوز التمسّك به لاختلال هذه المقدّمة.
نعم الاطلاق قد تعذّر ولكن يوجد عندنا بديل عنه ولكن هذا البديل ليس موجوداً في جميع الموارد بل يوجد في بعضها ولا يوجد في البعض الآخر ، وهو أنَّ العرف يلغي خصوصية أن يكون الرأس واحداً والأرجل اثنين وليست أربعة أو عشرة بل من هذه الناحية إذا كان عبداً فالمهم هو عتقه بغضّ النظر عن كون أرجله اثنين أو أكثر أو له رأس واحد أو له اثنين فإنَّ العرف يلغي هذه الخصوصية ، بل لعلّ مثل هذا الشخص أولى عرفاً بجواز العتق .
فعلى أيّ حال هذا إلغاء لخصوصية المورد ولكن هذا الإلغاء ليس مستنداً إلى الاطلاق ومقدّمات الحكمة كلا بل هذا إلغاء عرفي ، نظير ما إذا سأل شخص الامام ( أصاب ثوبي دم ؟ فقال: اغسله ) فنتعدّى من الثوب إلى العباءة أو العمامة ولكن هذا الإلغاء ليس بالإطلاق بل لإلغاء الخصوصية ، هنا أيضاً العرف يلغي الخصوصية ، فالتفت إلى ذلك.
إذن مبنانا في باب الاطلاق هو أنه نضيف مقدّمةً جديدةً على مقدمات الحكمة وإن شاء الله تعالى سيأتي بيان ذلك في باب الاطلاق ، وبناء على هذه المقدّمة سوف تنهدم الكثير من الاطلاقات التي تمسّك بها القوم ، وقلنا في مناسبةٍ أنه بناء على هذه المقدمة التي اضفناها نقول لا يكفي في اثبات الهلال العين المسلحة خلافاً لمن تمسّك بالإطلاق لأنه قال إنَّ الروايات قالت ( صم للرؤية وافطر للرؤية )[1] وهنا قد رأيته فيثب بذلك الهلال ، ولكن على مبنانا جوابه هو أنَّ هذا الاطلاق ينهدم فنقول إنَّ المتكلّم لو قال إنَّ مقصودي من العين هو هذه العين المجرّدة لا العين المسلّحة بالتلسكوب أو غير ذلك لما استهجن منه الاطلاق وعدم التقييد ، ولا يقال له إذن لماذا لم تقيد ؟ إذ يجيب ويقول: إنَّ العين المسلحة لم تكن موجودة ولو كانت موجودة فوجودها نادر وليس وجوداً متعارفاً ، فحينئذٍ لا يستهجن منه الاطلاق ، فلا يجوز التمسّك بالإطلاق لإثبات الهلال.
فإذن تترتب فروع كثيرة على اضافة هذه المقدّمة.
وبناء على هذه المقدّمة التي ذكرناها لا يمكن أن نتمسّك بإطلاق روايات ( لا تنقض اليقين بالشك ) [2] لإثبات حجية استصحاب العدم الأزلي ، فمثلاً المرأة قبل وجودها لم تكن ذاتها وموجودة ولا وصف القرشية ثم بعد أن وجدت نشك هل اتصفت بوصف القرشية أو لا فنستصحب عدم اتصافها بوصف القرشية الثابت قبل وجود ذاتها ، هنا لو فرض أنَّ الامام عليه السلام في صحيحة زرارة التي قال فيها ( لا تنقض اليقين بالشك ) لم يكن قاصداً هذا الفرد يعني كان يقصد الطبيعة - كلّ يقين - ولكن لا اليقين الأزلي قبل الخلقة وإنما كان يريد كلّ يقينٍ بعد الخلقة لا بعد الخلقة ، يعني بتعبير آخر العدم النعتي لا العدم الأزلي قبل الوجود ، فإذا كان يقصد العدم النعتي لا يستهجن منه ولا يقال له: إذن لماذا لم تقيد ؟ إذ يجيب ويقول: وهل يستهجن منّي عدم التقييد ؟! كلا ، لا يستهجن لأنَّ ذهن الانسان العرفي الذي يسمع كلامي لا يحتمل أنَّ مقصودي ما يعمّ حالة اليقين في الأزل وإنما الحالة المتعارفة هي اليقينات المتعارفة التي تصير بعد الوجود لا قبله ، وإنما اليقين قبل الوجود خطر في ذهننا بعد دخولنا الحوزة أما الاستصحاب المتعارف من ( لا تنقض اليقين بالشك ) إذا أردنا أن نفهمه فهو اليقينات بعد الوجود أما اليقين قبل الوجود فليس شيئا عرفياً وإنما هو شيء تلقينياً حوزوياً فحن دخلنا الحوزة علّمتنا أنه لا يمكن استصحاب عدم القرشية بنحو العدم النعتي فلنستصحبه بنحو العدم الأزلي خصوصاً بعد دراستنا للمنطق وغير ذلك ، فنقول هذه المرأة قبل أن تكون موجودة لم تكن ذاتها موجودة ولا وصف قرشيتها وبعد ذلك وجدت ذاتها ونسك هل وصف قرشيتها هل وجد أو هو باقٍ على العدم فنستصحب عدم القرشية الثابت في الأزل قبل انعقاد النطفة فنقول هذا أيضاً عدم متيقّن غايته قبل الوجود فيشمله دليل الاستصحاب ، ولكن هذا نشأ بسبب التلقينات الحوزوية وإلا فذهن الإنسان العرفي يفهم من ( لا تنقض اليقين بالشك ) اليقين المتعارف يعني ما يكون بعد الوجود ، فإذا لم يقيد الامام عليه السلام بأن يكون اليقين بعد الوجود لا يقال له لماذا لم تقيّد واطلقت كلامك بل كان من المناسب لك أن تقيد وتقول ( لا تنقض اليقين بالشك إذا كان اليقين يقينا بعد الوجود ) لأنه يتكلم مع أناسٍ عرفيين لا أنه يتكلّم مع أناس درسوا فلسفةً ومنطقاً وجاءوا وفتّشوا فوجدوا عدماً متيقناً قبل الخلقة فإنَّ هذه قضية حوزوية وليست عرفية ، فعلى هذا الأساس لا يجوز التمسّك به لإثبات حجية استصحاب العدم الأزلي ، ونحن لا دليل عندنا على حجية استصحاب العدم الأزلي إلا التمسّك بالإطلاق فإذا لم يمكن التسّمك بالإطلاق فإذن لا دليل على الحجية ، وحيث أننا نشترط في انعقاد الاطلاق أن المكلّم لو كان مقصوده هو المقيّد يستهجن مه الطلاق ففي المقام نقول لا يستهجن منه الاطلاق إذا كان مراده هو المقيّد ، ومقصودي من المقيّد يعني اليقين بعد الوجود فإنَّ حال اليقين قبل الوجود هي حالة دقّية التفتنا إليها بعد دخولنا الحوزة والامام عليه السلام يتكلّم مع العرف مع الناس الذين يفهمون الاستصحاب ، والذين يفهمون الاستصحاب يفهمون منه اليقين السابق بعد الوجود لا اليقين السابق قبل الوجود.
الوجه الثاني:- وهو مركّب من مقدّمتين:-
المقدّمة الأولى:- إن استصحاب العدم الأزلي ليس قضية ارتكازية عرفية وإنما الإنسان العرفي يرفضها إذا تقبلها فهو يتقبلها على مضض ، فعلى هذا الأساس استصحاب العدم الأزلي ليس قضية ارتكازية عرفية عقلائية وإنما هي قضية دقية حوزوية علمية.
وهذه المقدّمة مقبولة.
المقدمة الثانية:- لو رجعنا إلى روايات الاستصحاب لوجدنا فيها ما يصلح أن يكون قرينة على كون مقصود الامام عليه السلام حينما ذكر قضية ( لا تنقض اليقين بالشك ) مقصوده النظر إلى هذه القضية في الحدود المتعارفة والمتداولة بين العقلاء وهي قرينتان:-
القرينة الألى:- أنه ورد في صحيحة زرارة الثانية مرتين ( فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك ) فعبارة ( فليس ينبغي لك ) فإنَّ هذا لتعبير يؤتى به في القضية العقلائية ففي القضية التي يتقبلها لعقلاء وهي مرتكزة في أذهانهم يعبّر بهذا التعبير أما إذا لم تكن مرتكزة لا يعبّر هذا التعبير ، فنفس هذا التعبير يكون قرينة على أنَّ المقصود من قضية ( لا تنقض اليقين بالشك ) هي عدم جواز نقض اليقين بالشك في حدود الأمور المرتكزة عقلائياً.
القرينة الثانية:- إنَّ نفس ذكر التعليل فإن الامام عليه السلام علّل في الروايات وقال ( لأنك كنت على يقين من وضوئك فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك ) ، وفي هذا البيان لا أريد أن أنظر إلى فقرة ( فليبس ينبغي لك ) فإنَّ هذا نفس القرينة الأولى ، بل أريد أن أنظر إلى نفس التعليل ، فإنه حينما يذكر التعليل فهذا معناه أنَّ المطلب الذي يبيَّن هو مطلب عقلائي ، فحينما أقول لك ( أكرم فلاناً لأنه عالم أو لأنه متقٍ ) فهذا معناه أنَّ هذا مطلب عقلائي يعني أنَّ العقلاء يحكمون بأنَّ العالم يلزم اكرامه ، وإلا إذا كان المطلب ليس عقلائياً لا يُذكَر تعليل.
وإذا تمت هاتان المقدّمتان فسوف تصير النتيجة:- هي نه لا يمكن أن نتمسّك بإطلاق هذه الروايات لإثبات حجية استصحاب العدم الأزلي ، وهذا ليس لمبنانا فإنَّ هذا هو الوجه الأوّل بل حتى على مبنى القوم نقول لا يجوز لأنَّ الروايات تريد أن تبيّن مطلباً عقلائياً بمقتضى المقدّمة الثانية واستصحاب العدم الأزلي ليس مطلباً عقلائياً بمقتضى المقدّمة الأولى ، فالنتيجة هي أنَّ الاطلاق لا يمكن التمسّك به لإثبات حجية استصحاب العدم الأزلي.