الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

38/08/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- استصحاب العدم الأزلي.

ثم إنه من خلال ما ذكرناه اتضح أنَّ شرط جريان استصحاب العدم الأزلي أربعة أمور:-

الأوّل:- أن يكون لدينا عام.

الثاني:- أن يشك في بعض أفراد العام بنحو الشبهة المصداقية.

الثالث:- أن لا يكون العدم النعتي محرزاً وإلا لأخذنا به دون أن تصل النوبة إلى استصحاب العدم الأزلي.

الرابع:- أن لا نبني على حجية العام في مورد الشبهة المصداقية خلافاً لصاحب الجواهر(قده) وإلا كان هو المرجع دون استصحاب العدم الأزلي.

إذن هذه وشرط أربعة يلزم توفرها حتى تصل النوبة إلى استصحاب العدم الأزلي.

ونلفت النظر إلى قصة جانبية:- وهي أنَّ الشك في المصداق أو بالأحرى الشك بنحو الشبهة الموضوعية له حالتان:-

الحالة الأولى:- أن يكون لدينا عام وخرج منه بالمخصص عنوان وشككنا في فرد أنه مصداق لعنوان المخصص أو لا من قبيل ( كل ماء يتنجس بملاقاة النجاسة ) خرج منه بالمخصّص ما إذا كان الماء كرّاً ثم حصل فرد من الماء لا ندري أنه كرّ أو أقل وأصابته نجاسة ، هذا هو المصداق الأوّل للشك في المصداق.

النحو الثاني:- أن يكون لدينا عام من دون وجود مخصّص ، كما إذا قال ( أكرم الفقير ) ورأينا شخصاً لا نعلم أنه فقير وليس بفقير فهنا الشبهة موضوعية رغم أنه لا يوجد مخصّص فإذا لا يوجد استصحاب العدم النعتي للفقر فنأخذ باستصحاب العدم الأزلي رغم أنه لا يوجد مخصّص ، فالذي أريد أن أقوله إنه لا يلزم في باب استصحاب العدم الأزلي وجود تخصيص ، كلا فإنَّ هذا ليس ركناً أساسياً ، بل الركن الأساسي أن يكون هناك عاماً وأن يكون الشك شكاً موضوعياً - شبهة موضوعية - سواء كانت الشبهة الموضوعية نتيجة وجود مخصّص أو من دون وجود مخصّص فإنَّ هذا ليس بمهم.

توضيحٌ لبعض المصطلحات:-

هناك مصطلحات في هذه المسألة لابد من استيضاحها:-

من قبيل العدم المحمولي والعدم النعتي ، والوجود المحمولي والوجود النعتي وغيرها.

إنَّ الفارق بين الوجود المحمولي والوجود النعتي يتضح من خلال المثال الآتي ، وهو وجود البياض في الخارج فهو دائماً يحتاج إلى محلّ ومن هنا قيل وجوده في نفسه عين وجوده لمحلّه أو لغيره ، فلا يمكن خارجاً أن يوجد البياض - العَرَض - أو السواد من دون أن يكون في محلّ ، لكن الله عزّ وجلّ أعطى قدرة للذهن البشري أن يلحظ العرض يعني البياض مرّة بنفسه من دون ملاحظة المحل كأن تقول ( البياض ألطف عندي واروح على نفسي من السواد ) ، فهنا لاحظت البياض بما هو بياض لا أنه حالٌّ في محلٍّ وموضوع ، فإذا لوحظ كذلك عبّر عنه بالوجود المحمولي ، أما إذا لوحظ بما هو وصف لمحلّه وحالٌّ في محلّه عبّر عنه بالوجود النعتي ، كما أنه يمكن أن نعبّر عن الأوّل بمفاد كان التامّة وعن الثاني بمفاد كان الناقصة.

إذن اتضح من خلال كلامنا أنَّ الوجود المحمولي مع مفاد كان التامة والوجود لنفسه واحد ، كما أنَّ المقصود من الوجود النعتي ومفاد كان الناقصة أو الوجود لمحلّه أيضاً واحد.

ولماذا أطلق ( المحمولي ) على ( الوجود المحمولي ) فما هي النكتة في ذلك ؟

والجواب:- إنَّ هذا البياض في نفسه سمّي بالوجود المحمولي لأنَّ هذا الوجود يحمل على نفس البياض فتقول البياض موجود فهنا هذا الوجود حمل على نفس البياض من دون ملاحظة المحلّ فتقول البياض موجود ، فهذا الوجود وقع محمولاً فسمّي هذا الوجود الثابت للبياض في حدّ نفسه بما هو صفة بقطع النظر عن المحلّ بالوجود المحمولي باعتبار أنه يحمل عليه الوجود وتقول البياض موجود ، كما اصطلح عليه بمفاد كان التامّة لأنَّ كان التامّة تحتاج إلى أصل الوجود ولا تحتاج وجود شيءٍ لوجود شيءٍ آخر بل تكتفي بأصل الوجود ، فـ( كان زيد ) أي وجِدَ زيدٌ ، فإذن صار مفاد كان التامّة والوجود المحمولي مع وجود العرض في نفسه واحد.

والعدم كذلك ، فتارةً عدم البياض نلحظه بما هو عدم لا بالإضافة إلى المحل ، يعني لا نقول البياض ليس بموجود على الورقة كلا ثم كلا بل نلحظ ذات دعم البياض فنقول عدم البياض ليس بموجود ، فعدم البياض هنا لوحظ في نفسه فيصحّ أن نقول هو عدم محمولي ، وسمّي محمولياً لأنك تقول البياض معدومٌ ، فالعدم يحمل على ذات البياض ، فهذا عدم محمولي ، وتستطيع أن تسميه مفاد ليس التامّة وهي التي تكتفي بالاسم فقط فيقال ( ليس زيد ) بمعنى أنه غير موجود ، فإذن صار واضحاً أنَّ الوجود المحمولي ومفاد كان التامّة ووجود العرض في نفسه واحد ، وأيضاً العدم المحمولي ومفاد ليس التامّة وعدم الوصف في نفسه واحد.

وأما العدم النعتي الذي يعبّر عنه أيضاً بمفاد ليس الناقصة فهو عدم البياض ولكن لا عدم البياض بما هو عدم بياض بل عدم البياض للمحلّ ، فنقول الورقة ليست بيضاء ، فلوحظ العدم نعتاً للمحل ، فهو عدم نعتي أو مفاد ليس الناقصة.

وأما الوجود النعتي أو مفاد كان الناقصة فهذا يعني أنه يلحظ العرض كوصفٍ في المحل لا أننا نلحظ العرض في نفسه وإنما نلحظه قائماً في المحلّ ونقول الورقة بيضاء ، فهذا وجودٌ نعتي ، أي صار نعتاً للورقة ، وهو مفاد كان الناقصة.

تحرير محّل النزاع في استصحاب العدم الأزلي:-

إنَّ الأوصاف الثابتة للأشياء على ثلاثة أقسام:-

القسم الأوّل:- إنه تارةً يكون الوصف وصفاً لذات الماهية بقطع النظر عن وجودها الذهني أو وجودها الخارجي بل ذات الماهية تقتضي هذا الوصف ، مثل الزوجية مع الاثنين أو الأربعة ، فذات الاثنين في ذاتها زوج ، وأي أثنين هي فهل هي الاثنين في الذهن أو الاثنين في الخارج ؟ كلا لا هذه ولا تلك ، بل أصلاً ذات الاثنين متقوّم بالزوجية ، فاثنين معناه واحد مع واحد فيلزم أن يصير زوجاً ، وكذلك الأربعة اثنين مع اثنين فيلزم أن تصير زوجاً ، فإذن هي في الحقيقة زوج وليست فرداً ، فالزوجية لازم لذات الأربعة والفردية لازم لذات الثلاثة بقطع النظر عن الوجود الذهني أو الخارجي.

القسم الثاني:- أن يكون الوصف لازماً للوجود الخارجي فبمجرّد الوجود الخارجي يتحقق الوصف ، فهو لازم الوجود الخارجي ، كالقرشيةّ للمرأة فإنها متى تكون قرشيّة ؟ لا لذات الماهية فإنَّ ذات ماهية القرشيّة لا تتصف بأنها قرشيّة ، بل متى ما وجدت وانعقدت نطفتها وصار لها وجوداً خارجياً فالآن تتصّف بأنها قرشيّة أما قبل وجودها الخارجي إذا لاحظتها بما هي ذات امرأة فلا تتصف بالقرشيّة ، فذات المرأة لا تتصف بالقرشيّة ، بخلاف ذات الأربعة فإنها تتصف بالزوجية في ذاتها فهي حتى لو لم تكن موجودة هي متصفة بالزوجية أما القرشيّة فهي وصفٌ للمرأة الموجودة من بداية وجودها.

القسم الثالث:- أن يكون الوصف من عوارض الوجود ولكن لا من بدايته بل من بعد ذلك ، كالبلوغ للبنت أو لولد ، فالبلوغ إنما يصدق لا بمجرّد وجود الولد أو البنت وإنما بعد وجوده ومرور فترةٍ من السنين فحينئذٍ يكون بالغاً.

فهل يمكن أن يجري النزاع في استصحاب العدم الأزلي في جميع هذه الأقسام الثلاثة أو أنه يجري في بعضها ؟

الصحيح:- إنه يجري في القسمين الأخيرين دون القسم الأوّل ، أما أنه يجري في القسمين الأخيرين فواضحٌ ، فالقرشية نقول إنه قبل أن توجد ذات المرأة هي لم تكن موجودة ووصف القرشيّة لم يكن موجوداً فنستصحب عدم القرشية الثابت قبل وجودها ، وهكذا بالنسبة إلى البلوغ يمكن أن نقول إنه قبل أن يوجد هذا الولد لم تكن ذاته موجودة ووصف البلوغ لم يكن ثابتاً أيضاً وبعد أن وجد الولد نشك هل تحقق البلوغ أو لم يتحقق فهنا توجد قابلية لاستصحاب العدم الأزلي وإن كان لا تصل النوبة إليه لوجود استصحاب العدم النعتي ، ولكن بقطع النظر عن استصحاب العدم النعتي استصحاب العدم الأزلي قابل للجريان.

أما في القسم الأوّل هل يمكن جريان استصحاب العدم الأزلي فيه كما إذا فرضنا أنه وجد عدد كأن ألقى علينا شخص برتقالاً ولا نعلم أنه رمى ثلاثة أو أربعة برتقالات فاستصحاب العدم الأزلي هل يمكن اجراؤه يعني نستصحب عدم الزوجية أو عدم الفردية ؟ كلاهما لا يجري ، لأنك ماذا تقول ؟ فهل تقول إنه قبل تحقق الأربعة ذات الأربعة لم تكن موجودة والزوجية لم تكن موجودةً ؟ إنَّ هذا باطل فإنَّ الزوجية ثابتة للأربعة قبل وجود ذات الأربعة لا أنها منعدمة عن الزوجية ، فهي وصف لذات الأربعة وليست وصفاً للأربعة الموجودة حتى يقال قبل وجود الأربعة لا ذات الأربعة موجود ولا وصف الزوجية ، فإذن هذا الكلام لا يأتي هنا ، وهكذا الحال بالنسبة إلى وصف الفرديّة.

إذن اتضح أنَّ استصحاب العدم الأزلي لا يمكن جريانه في القسم الأوّل لأنه قبل وجود ذات الشيء الوصف ثابت لذات الشيء لا أنه منعدم ، وإنما يتصوّر استصحاب العدم الأزلي في القسم الثاني والثالث كما أوضحنا.