الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

38/08/03

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- استصحاب العدم الأزلي.

استصحاب العدم الأزلي:

في البداية قلنا ما هو وجه ذكر الاستصحاب كملحق بمباحث العام والخاص بل يلزم أن يذكر في مباحث الصول العملية ؟ وأجبنا عن ذلك وقلنا:- إنه في مباحث العام والخاص يقال لا يجوز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية ، والآن نريد أن نستدرك ونقول:- إذا جرى الاستصحاب ونقّح الموضوع فحينئذ يجوز التمسّك بالعام ، فمثلاً لو فرض أنه يوجد عندنا عام يقول ( يتنجس الماء بشرطين الملاقاة والقلّة ) - يعني أنَّ الموضوع مركّب - فلا يجوز التمسّك بالعام إذا فرضنا أنا وجدنا ماءً وشككنا أنه كُرّ أو ليس بكرّ قد مات فيه كلب فإذا كان كُرّاً فهو طاهر وإن كان أقل من الكرّ فهو نجس فهل يجوز الوضوء فيه أو لا ؟ فلو قلت فلنتمسّك بالعام لأنه كل ماء يتنجّس بملاقاة النجاسة وهذا ماءٌ لاقته نجاسة ، فأقول لك إنَّ هذا تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية ، لأنَّ الذي يتنجّس هو القليل وهذا الماء ليس من المعلوم أنه قليل فهذا تمسّك بالعام في الشبهة المصداقية وهو لا يجوز.

فيقدّم لنا اقتراحاً ثانياًً فيقول:- إنَّ هذا ماء لاقته نجاسة بالوجدان وهو ليس بكرّ باستصحاب العدم الأزلي فيثبت أنه ليس بكرّ ، يعني قبل أن يوجد الماء فذاته ليست موجودة ووصف كريته ليست بموجودة أيضاً فنستصحب ذاك العدم الأزلي قبل وجود الماء فثبت أنَّ هذا ماء لاقته نجاسة هذا هو الجزء الأوّل ، وأنه قليل باستصحاب العدم الأزلي ، فهل تجري هذه المحاولة أو لا ؟ وهذه المحاولة تأتي في مورد الشبهات المصداقية فلذلك ذكر هذا البحث عقيب التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية.

ثم إنه ينبغي أن يكون الفرق واضحاً بين استصحاب العدم الأزلي وبين مقابله أعني استصحاب العدم النعتي ، والفرق هو أنَّ العدم تارةً يكون ثابتاً بعد وجود الشيء وأخرى يكون ثابتاً قبل وجود الشيء ، فمثلاً الماء لو كان موجوداً هنا ونعلم بأنه ليس بكرّ فنقول هذا ماء متّصفٌ بعدم الكرّية وهذا يصطلح عليه بالعدم النعتي ، وإنما سمي نعتيّاً لأنه صار صفةً للماء ، فأنت تقول ( هذا الماء متّصف بأنه ليس بكرّ ) ، وأخرى نفترض أننا نشك من بداية وجود الماء كما لو فرض أنا ألقينا قِدْراً كبيراً في النهر ثم أخرجناه ثم شككنا هل الماء الموجود فيه بمقدار كرّ أو لا ، فهنا العدم النعتي لا يتصوّر لأنه لا توجد حالة سابقة فنذهب إلى الفترة التي قبل وجوده فنقول إنه قبل أن يوجد هذا الماء في هذا المكان لم ذاته تكن موجودة ووصف كرّيته لم يكن موجوداً فإنَّ الموصوف إذا لم يكن موجوداً فوصفه لا يكون موجوداً أيضاً ، ثم وجدت الذات ونشك في أنَّ ذلك الوصف الذي كان معدوماً هل هو باقٍ على العدم أو تبدّل إلى الوجود فنستصحب ذلك العدم قبل وجود الشيء إلى ما بعد وجوده فنقول نحن نشك أنَّ هذا الماء هل كرّ أو ليس بكرّّ ؟ فنستصحب عدم الكرّية الثابت قبل وجود ذات هذا الماء ، ولماذا سمّي هذا العدم بالأزلي فإنَّ عدم الوصف الثابت قبل وجود الذات الموصوفة دائماً هو أزلي ، فأنا وأنت قبل وجودنا وصف كوننا طلبة وأنَّ هذا ابن فلان لم يكن هذا الوصف موجوداً منذ الأزل . فإذن العدم الأزلي هو عدم الوصف الثابت قبل وجود ذات الشيء في مقابل العدم النعتي الذي هو عدم الوصف الذي يكون ثابتاًً بعد وجود الشيء وإنما سمي نعتياً لأنه مجازاً يصحّ أن نقول إنَّ هذا الماء متّصف بعدم الكرّية.

وهناك شيء آخر:- وهو أنه قد يوجد في موردٍ واحد عدم أزلي ولا يوجد عدم نعتي ، وقد يجتمعان في مورد آخر ، يعني يمكن اجراء استصحاب العدم الأزلي ويمكن اجراء العدم النعتي أيضاً ، وهل يوجد مورد ثالث يعني هل يوجد عدم نعتي ولكن لا يوجد عدم أزلي ؟ إنَّ هذا لا يتصوّر بل العدم الأزلي موجود دائماً ، فإنه قبل وجود الذات الأوصاف ليست موجودة في كلّ شيء من الأشياء ، فالمتصوّر إذن شقّان إما العدم الأزلي وحده وإما العدم الأزلي مع العدم النعتي فكلاهما يمكن إجراء الاستصحاب فيه.

أما مثال اجراء العدم النعتي وحده:- فهو المرأة القرشيّة ، فلو شككنا في أنها قرشية أو لا فحينئذٍ لا يمكن إجراء العدم النعتي ، لأنه لا يوجد عدم نعتي ، لأنها بمجرّد أن انعقدت نطفتها فهي قد انعقدت وهي قرشيّة أو انعقدت وهي غير قرشية ، فبعد وجود الذات عدم القرشية لا يتصوّر ، فلا توجد حالة سابقة متيقّنة بعد وجود الشيء ، فالعدم النعتي لا يتصوّر في هذا المثال ، وإنما الذي يتصوّر هو العدم الأزلي ، فتقول هذه المرأة قبل أن تنعقد نطفتها لم تكن ذاتها موجودة كما لم يكن وصف قرشيتها موجوداً والذات قد وجدت بعد ذلك أمّا الوصف - وهو عدم القرشية - نشك هل هو باقٍ على العدم أو تبدّل إلى الوجود فنستصحب عدم القرشيّة.

وأما مورد الاجتماع:- فمثل الماء الذي هو أقل من كرّ الآن ، فالعدم هنا عدمٌ نعتي جزماً ، وأيضاً يتصوّر العدم الأزلي فإنه قبل وجود ذات الماء لم يكن وصف كرّيته موجوداً ، فكلاهما صحيح ، ومتى ما أمكن اجراء استصحاب العدم النعتي لا معنى للذهاب إلى استصحاب العدم الأزلي ، فإنَّ استصحاب العدم الأزلي نذهب إليه في موارد عدم تحقّق العدم النعتي.

ثم نبيّن شيئاً آخر:- وهو أنَّ مرتبة استصحاب العدم الأزلي في مراحل الاستنباط فإن الاستنباط يمرّ بمراحل في أي مرتبة وأي مرحلة يقع استصحاب العدم الأزلي ؟ ، فيوجد عندنا ماء رأينا فيه كلباً ميتاً وشككنا في أنه كُرّاً أو ليس بُكرّ فماذا نصنع في المرحلة الأولى ؟ إذا قلنا في المرحلة الأولى بجواز التمسّك بالعام - الذي هو ( كل ماء أقل من كرّ لاقته نجاسة فيتنجّس ) - في الشبهة المصداقية كما ذهب إلى ذلك صاحب الجواهر(قده) فسوف تثبت نجاسته ، وإذا قلنا بجواز التمسّك بالعام فلا تصل النوبة إلى استصحاب العدم الأزلي ، والمرحلة الثانية وهي أنه إذا لم نقل بجواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية فإذا أمكن استصحاب العدم النعتي فنستصحبه ، ببيان أنه نقول: إنَّ هذا الماء حينما اجتمع هنا فهو لم يجتمع دفعةً واحدةً بل اجتمع قليلاً قليلاً فهو في مراحلة الأولى لم يكن كرّاً جزماً فهو ليس مخلوق الساعة بل نزل من السماء قطرات فالعدم النعتي ثابت فنستصحبه ولا تصل النوبة إلى استصحاب العدم الأزلي ، أما لو فرض أنَّ هذا الماء كان مخلوق الساعة كما افترضنا الاغتراف من النهر بالقِدر الكبير وكان في القدر نجاسة وشككنا أنَّ هذا كُرّ أو ليس بِكُرّ فهنا استصحاب العدم النعتي لا يجري فتصل النوبة إلى استصحاب العدم الأزلي ، فنذهب إلى العدم قبل وجود ذات الماء ، فمرحلته تأتي بالمرتبة الثالثة.

ومن باب تكميل الفائدة نقول:- إذا فرض أنَّ استصحاب العدم الأزلي لا يجري فماذا نصنع في مثل هذه الحالة ؟ بالتالي نشك أنَّ هذا الماء طاهر أو ليس بطاهر فنجري أصل الطهارة ونحكم بأنه طاهر.

أما إذا لم نقبل بأصل الطهارة بسببٍ وآخر فماذا نصنع ؟ نذهب إلى الأصول الطولية ، يعني نقول هكذا:- هل شربه جائز أو ليس بجائز - فنذهب إلى استعمالات الماء وليس إلى الماء - ؟ وهل الوضوء به صحيح أو ليس بصحيح ؟ وهل تتنجّس أعضاء الوضوء بملاقاته أو لا ؟ فنذهب إلى الأصول في كلّ واحدٍ من هذه الأمور.

أما بالنسبة إلى جواز شربه ، فهنا يوجد شك في الحرمة والعدم فنجري أصل البراءة ، أما في جواز الوضوء وعدم جوازه فالأصل هنا استصحاب بقاء الحدث لأنَّ الضوء بالنجس جائز بلا إشكال نعم تشريعاً يصير حراماً وإنما الشك في الحقيقة في أنه يرتفع الحدث به أو لا فتستصحب بقاء الحدث ، وأما بالنسبة إلى الضوء به فنشكّ أنَّ أعضاء الوضوء قد تنجّست أو لا فنستصحب بقاء طهارتها فنقول هي قبلاً كانت طاهرة والآن نشك هل تنجّست أو لا فنستصحب الطهارة.

هذه هي المراحل التي يمرّ بها الفقيه إذا أراد أن يستنبط ، وقد عرفنا أنَّ استصحاب العدم الأزلي يقع في المرحلة الثالثة.