الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

38/07/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- المخصص المجمل مفهوماً أو مصداقاً – مبحث العام والخاص.

أما توضيح ذلك:- هو أنه أحياناً يكون المفهوم غامضاً وفيه تردد من حيث السعة والضيق مثل كلمة الفاسق كما قلنا مرددة بين فاعل الكبيرة والصغيرة أو خصوص فاعل الكبيرة فهذا تردّد بين السعة والضيق ، وأخرى يكون المفهوم واضحاً ولكن التردد في المصداق فنحن نعرف أنَّ الفاسق يعني فاعل الكبيرة ولكن هذا الفرد لا ندري هل هو فاعل للكبيرة أو ليس بفاعل لها فالشبهة مصداقية ، وثالثاً يكون المفهوم واضحاً والمصداق واضحاً ومع ذلك يشك في الانطباق مثل الماء فإنَّ مفهوم الماء واضح ومصاديق الماء واضحة أيضاً ولكن إذا فرض أننا وضعنا قليلاً من التراب في الماء فقد نشك في انطباق عنوان الماء عليه لا لأجل غموض المفهوم إذ المفروض عرفاً أنَّ المفهوم واضح جداً ، ولا لأجل غموض المصداق فإنه واضح جداً ، بل لغموضٍ في الانطباق ، وهذا هو عبارة عن الشبهة الصدقية.

والاشكال عليه واضح:- فإنا نقول: إنه متى ما كان المفهوم واضحاً والمصداق واضحاً يستحيل الشك في الانطباق فإنَّ هذا لا يتصوّر وهذا تناقض في كلامك ، وأما المثال الذي ذكره إنّا مادمنا نشك في الانطباق فنسلّم أنا إذا وضعنا قليلاً من التراب على الماء قد نشك في الانطباق ولكن هذا سببه أنَّ أصل مفهوم الماء ليس بواضح وهو أنَّ الماء بأيّ درجةٍ وبأيّ دائرة يقال له ماء فهل الماء ما كان مقطّراً الذي هو خالٍ من كل الشوائب ؟ لا جزماً ، بل يصدق حتى على الذي فيه بعض الشوائب ، وإذا كانت الشوائب بدرجة خمسة بالمائة فهل ينطبق مفهوم الماء عليه ؟ نعم ينطبق عليه مفهوم الماء عرفاً فيقال هذا ماء ، أما إذا كانت الشوائب بمقدار خمسة ونصف بالمائة فهنا قد تشك وهذا الشك وليد أنك لا تعلم بأنَّ المفهوم يشمل ما إذا كان الخليط بدرجة خمسة ونصف بالمائة أو لا أما إذا لم تشك فلا يحصل لك شك في الانطباق ، وهذا من القضايا البديهية.

إذن لا معنى للشبهة الصدقية من الأساس ، بل الشبهة إما مفهومية أو مصداقية أما وجود نحوٍ ثالث للشبهة فلا يمكن أن يتصوّر أبداً.

تفصيل للسيد الشهيد(قده):- ذكر السيد الشهيد(قده) مطلباً في بحوثه الأصولية[1] والفقهية مع اختلافٍ يسير بين الموردين وحاصل ما ذكره:- إنَّ الشبهة المصداقية تارةً تكون حكمية ومصداقية بحيث تكون خليطاً من الاثنين معاً وأخرى تكون مصداقية بشكلٍ محض وبحت من دون أن تتصف بكونها حكمية ، وفي النحو الأوّل يمكن أن يقال بجواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية - يعني إذا كانت حكمية - ، بينما في النحو الثاني لا يصح ذلك.

ومثال الأوّل:- لو فرضنا وجود رواية تقول ( كل ماء مُطهِّر ) يعني من النجاسة أو من المتنجِّس ، ثم جاءتنا رواية ثانية وقالت ( الماء المتنجِّس لا يطهِّر ) ، ثم نفترض شيئاً ثالثاً وهو أنه عندنا ماء متغيّر بوصف النجاسة فهو نجسٌ ونفترض أنَّ تغيره قد زال من قبل نفسه ، فهنا سوف يوجد كلام بين الفقهاء بأنه هل يطهر أو لا ؟ وافترض أنا شككنا في ذلك فهل يَطهُر أو لا ؟ ففي مثل هذه الحالة إذا نظرنا إلى الحديث الأوّل الذي يقول ( كل ماء مطهِّر ) فسوف نشك هل الماء الذي زال تغيّره بنفسه مطهِّر أو ليس بمطهِّر لاحتمال أنه نجس يعني أنَّ زوال التغير من قبل نفسه لا يزيل عنه النجاسة والمفروض أنَّ الماء الذي يطهِّر بسبب الدليل الثاني هو خصوص غير النجس فهذا الماء الذي زال تغيّره من قبل نفسه سوف نشك أنه يُطهِّر أو لا يُطهِّر ؟ ، وهذه الشبهة هل هي مصداقية أو حكمية ؟ والجواب:- هي حكمية ومصداقية معاً فإنَّ هذا الماء الذي زال تغيّره من قبل نفسه هو بلحاظ نفسه ومن حيث هو هو الشبهة بلحاظه حكمية لأننا بالتالي نشك في الحكم الكلّي وأنه شرعاً هل زالت عنه النجاسة أم لم تزل عنه النجاسة وهذا شك في الحكم الكلّي وفي عالم التشريع فالشبهة سوف تصير حكمية ، ولكن بالقياس إلى الدليل الأوّل الذي يقول ( كل ماء مطهِّر ) والمفروض أنه قد خصّص بالدليل الثاني - لأنه يوجد مخصّص منفصل - فصار ( كل ماء ليس بنجس مُطهِّراً ) وهذا الماء الذي زال تغيّره من قبل نفسه بالقياس إلى الدليل الأوّل بعد فرض تخصيصه تصير الشبهة مصداقية لأنا نشك أنه مصداق للماء النجس أو ليس مصداقاً له ، فإنه يحتمل أنه مصداق للماء النجس باعتبار أنَّ زوال التغيّر لا يوجب الطهارة واحتمال أنه يوجب الطهارة فالشبهة من حيث الدليل الأوّل هي مصداقية ، فإذن هي حكمية وهي مصداقية ولكن بلحاظين.

ومثال الثاني:- أن تكون الشبهة مصداقية بكلا اللحاظين ، وذلك كما إذا فرضنا أنَّ الماء المتغيّر مادام متغيّراً فهو نجس حتماً وإذا زال تغيّره فهو تزول نجاسته حتماً ولكن شككنا هل زال تغيّره أم لم يَزُل فهنا الشبهة تكون مصداقية فإنه بالقياس إلى نفسه الشبهة مصداقية وليست حكمية ، لأنه لا يوجد عندنا شك في الحكم الكلّي فإنَّ الحكم الكلّي واضح وهو أنه مادام متغيّراً فهو نجس ومادام قد زال التغيّر فهو طاهر ولكن لا ندري هل زال التغيّر أو لا فهنا سوف تصير الشبهة مصداقية بلحاظ نفس الماء وبلحاظ الدليل أيضاً ، لأنَّ الدليل يقول ( الماء غير النجس مطهِّر ) وأنا أشك بنحو الشبهة المصداقية أنه نجس أو ليس بنجس فإن زال تغيّره فليس بنجس وإذا كان تغيره باقياً فهو نجس ، فإذن الشبهة مصداقية بكلا اللحاظين بلحاظ نفسه وبلحاظ الدليل.

ثم قال:- وإذا عرفنا هذا المثال ، فأما في النحو الأوّل - يعني إذا كانت الشبهة مصداقية وحكمية- يمكن أن نتمسّك بإطلاق الدليل الأوّل لإثبات أنَّ الماء المتغيّر الذي زال تغيّره من قبل نفسه مطهِّر رغم أنَّ الشبهة مصداقية بلحاظ الدليل ، لأنَّ الشبهة مادامت حكمية فوظيفة المولى بيان حكمها وأنَّ الماء المتغيّر يُطهِّر أو لا يُطهِّر ، وحينئذٍ مادام من شأن المولى أن يبيّن حكمها فسوف يتولّد ظهور في الدليل الأوّل الذي كان يقول ( كلّ ماء مطهِّر ) في أنَّ المولى قد تكفّل بيان الحكم لكلّ ماء ، وهذا الماء من شأن الشارع أن يبيّن حكمه ، فالظهور يقتضي أنَّ هذا الماء مُطهِّر.

وهذا بخلافه فيما إذا كانت الشبهة مصداقية بكلا اللحاظين فإنه ليس من شأن المولى أن يبيّن حكمها وحالها وإنما هذا مرتبط بالخارج وليس به ، فلا ينعقد ظهور في الدليل في أنه قد تصدّى لبيان حال هذه الشبهة وأنه أدخلها تحت ظهور العام.


[1] بحوث في علم الاصول، الهاشمي الشاهرودي، ج3، ص325. البحوث الفقهية، السيد الشهيد، ج1، ص45.