الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

38/07/06

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- المخصص المجمل مفهوماً أو مصداقاً - مبحث العام والخاص.

الصورة الثانية:- أن يكون المخصّص مجملاً مفهوماً ويكون متصلاً كما سبق ولكنه يدور بين المتباينين لا بين السعة والضيق ، كما إذا فرض أنَّ المتكلم قال ( اكرم كل نجفي ألا زيداً ) ويوجد عندنا زيدان أحدهما من عشيرة والآخر من عشيرة أخرى ، فحينما قال ( إلا زيداً ) ولا نعلم أي الزيدين هو ففي مثل هذه الحالة هل يمكن التمسّك بعموم العام أو لا ؟

والجواب:- هناك ثلاث فرضيات:-

الفرضية الأولى:- أن يقصد التمسّك بعموم العام بلحاظ كلا الزيدين لا بلحاظ أحدهما لإثبات وجوب اكرام هذا ولإثبات وجوب اكرام ذاك ، وهذا باطل جزماً لوجهين:-

الوجه الاوّل:- إنه لا ظهور للعام بعد اتصاله بما يصلح للقرينية في الشمول لكلا الزيدين ، فأصل ظهروه يزول فلا يعود له ظهور حتى تتمسّك بظهوره في حق كلا الزيدين.

الوجه الثاني:- لو تنزلنا وقلنا إنَّ له ظهوراً فنقول نحن نجزم بعدم حجيته بلحاظ كلا الزيدين إذ أحدها قد خرج بالمخصّص جزماً . وهذه الفرضية لا داعي لذكرها وإنما ذكرناها من باب استيعاب الأقسام والفرضيات.

الفرضية الثانية:- أن يتمسّك بالعام بلحاظ أحدهما وليس بلحاظ كلا الزيدين ، وهل يجوز هذا أو لا ؟ المناسب عدم الجواز ، وذلك لوجهين:-

الوجه الأوّل:- نفس ما سبق ، يعني بعد أن اتصل بالعام ما يصلح للقرينية فلا يعود له ظهور في الشمول لزيدٍ هذا ولا لزيدٍ ذاك حتى يتمسّك به بلحاظ أحد الزيدين.

الوجه الثاني:- لو سلّمنا وجود ظهور ولكن التمسّك بهذا الظهور في حق زيد هذا دون ذاك ترجيح بلا مرجح.

وقد يقول قائل:- إنَّ هذا ادخال للفلسفة في المسائل الأصولية بلا وجه والترجيح بلا مرجح من قال هو مستحيل ؟!! كلا بل الترجّح بلا مرجّح ليس بمستحيل وإلا فالإنسان إذا كان أمامه رغيفان وكان يشبع برغيفٍ واحد وكان الرغيفان متشابهان تماماً فهل يختار أحدهما أو لا ؟ إنه يختار أحدهما ولا يبقى يقول إنَّ الترجيح بلا مرجح مستحيل فإذن لا موجب لترجيح هذا الرغيف على ذاك فأنا يلزم أن اتركهما معاً ، فقد يقول قائل إنَّ الترجيح بلا مرجح ليس بمستحيل بل هو ممكن فإنَّ الجائع يختار أحد الرغيفين والهارب يختار أحد الطريقين ، فالترجيح بلا مرجح ليس بمستحيل وباطل إنما الترجّح بلا مرجح باطل يعني هو يترجح بنفسه لا أني أرجحه فأحد الطرفين يترجح وحده فطرف الوجود يترجح على طرف العدم أو بالعكس وحده من أن اختاره فإذا اخترته أنا فسوف يصير ترجيحاً من الشخص المختار ومرّة هو يترجح في حدّ نفسه بأن الرغيف وحده يأتي في يد الجائع فهذا ترجّح بلا مرجّح وهو مستحيل لأنَّ الترجُّح بلا مرجّح هو تقريباً وجود المعلول بلا علّة ، وعلى أي حال فلا تخلطوا بين الفلسفة بالقضايا الأصولية فعليكم بتركها.

ونحن نقول:- لنترك الفلسفة ولكن بالتالي سوف نسألك سؤالاً وهو أنك سوف تطبق العام على ماذا ؟ إنك تطبقه على زيد هذا ، وأنا أسألك وأقول لماذا تطبقه على زيد هذا فإنَّ زيد سوف يعترض ويقول لماذا طبقته عليَّ ، فإذن القضية قضية عقلائية ، يعني أن تطبق الدليل على أحد الفردين دون الفرد الآخر ليس شيئاً وجيهاً فهو ليس عقلائيا وبلا مبرر ، والمسألة ليست مسألة الترجيح بلا مرجّح وأنه مستحيل وإنما هي قضية غير مقبولة لدى العقلاء والعاقل لا يصنع ذلك ، فتطبيقك للظهور على هذا دون ذاك وتفتي بأنه يحرم اكرام هذا ويجب اكرام ذاك هو مرفوض عقلائياً.

إذن أحياناً هذا التطبيق هو تطبيق بلا مبرر ومرفوض عقلائياً بلا حاجة إلى الاستعانة بالمصطلحات الفلسفية حتى تشمئز منها ، فإذن تطبيق الدليل على أحدهما دون الآخر مرفوض عقلائياً.

إن قلت:- فلأطبقه على الواحد لا بعينه لا على الواحد بعينه حتى تقول هذا مرفوض عقلائياً ؟

قلت:- هذا ما سوف نذكره في الفرضية الثالثة والتي هي التطبيق على الفرد الواقعي كما سوف نوضح ، فإذن الفرضية الثانية باطلة.

الفرضية الثالثة:- أن نطبق ظهور العام على غير الفرد الواقعي الذي خرج بالتخصيص فإنَّ هناك فرداً قد أخرجه المولى بالتخصيص والمولى يقصده ويعرفه ولكني أنا حصل عندي تشابه فاطبّق ( أكرم كل نجفي ) على الفرد الثاني غير ذلك الفرد الواقعي الذي أخرجه المولى بالتخصيص ، ذلك الفرد الثاني الذي يعرفه المولى أطبق عليه وجوب الاكرام وقد قلنا قبل قليل إنَّ ما ذكرته من اقتراح وهو أنه فلنطبقه على الواحد بعينة إذا كنت تقصد به هذا المعنى - يعني الفرد الذي لم يخرج بالتخصيص - فله وجاهة ولكن التفت إلى شيء وهو أنَّ ذلك الفرد الثاني الذي لم يخرج بالتخصيص تارةً نعلم جزماً بأنه باقٍ تحت العام ولا نحتمل خروجه بالتخصيص وأخرى نحتمل خروجه بمخصّصٍ آخر غير ( إلا زيداً ) ، فإذن هناك حالتان فإن كنت تعلم أنه لم يخرج لا بهذا المخصّص ولا بمخصّصٍ آخر يعني هو حتماً باقٍ تحت ( أكرم كل نجفي ) كما لو صرّح المولى وقال ( اكرم جميع الفراد من النجفيين من دون أن يشذّ واحد منهم إلا شخصاً واحداً وهو زيد ) ولكنه لم يشخص زيداً هل هو زيد الأوّل أو الثاني فالخارج حتماً هو واحد والثاني باقٍ تحت العام جزماً ، فهنا لا نحتاج إلى التمسّك بظهور العام فإنه باقٍ تحت العام جزماً بلا حاجة إلى التمسّك بالظهور ، وأخرى يفترض أنا نحتمل أنه خرج بمخصّصٍ آخر - وهذه هي الحالة الطبيعية - فهنا لا بأس بالتمسّك بظهور العام في العموم لإثبات وجوب اكرام زيد الآخر - يعني المغاير لما خرج بالتخصيص- فأحدهما خرج بالتخصيص والثاني نشك هل خرج من العموم بمخصّصٍ آخر أو لم يخرج فنتمسّك بظهور العام ، وهذه طريقة مقبولة وصحيحة وهي على القواعد.

ولكن تبقى تسألني وتقول:- ما هو الموقف العملي ، فعملاً ماذا أصنع إذ المفروض أني لا أشخص أنَّ أيٍّ منهما خرج بالمخصّص وأيهما لم يخرج ، فبالتالي أنت لم تنفعني بهذه الطريقة شيئاً ؟

والجواب:- إنَّ هذه الطريقة نافعة وذلك بالبيان التالي ، يعني الآن ثبت أن أحد الزيدين لا يجب اكرامه وزيدٍ الثاني يجب اكرامه فبهذه الطريقة ثبت هذا المقدار أما الموقف العملي ففائدته تظهر هنا ، وهي أنه تارةً نفترض أن زيداً الآخر الذي خرج بالمخصّص والذي قلنا لا يجب اكرامه تارةً نفترض أنه لا يجب اكرامه بمعنى أنه يجوز اكرامه ويباح ولكن ليس بواجب ، وأخرى نفترض أنه يحرم اكرامه ، فإن فرض أن زيداً الذي خرج بالمخصّص فقط وفقط لا يجب اكرامه لكن لو أردت اأن تكرمه فلا مانع من ذلك لكن ليس حراماً عليك ففي مثل هذه الحالة حيث لم نميّز زيداً عن زيدٍ فالموقف العلمي سوف يصير أنه يلزم اكرام كلا الزيدين للعلم الاجمالي إذ أحد الزيدين يجب اكرامه والثاني يجوز اكرامه بلا حرمة بل هناك اباحة ، فيصير حينئذٍ كسائر الشبهات المحصورة ، كما إذا علمت أنَّ أحد الفردين واجب عليّ والثاني مباح ولا أميّز المباح من الواجب فالعقل يحكم بلزوم فعلهما معاً تنجيزاً للعلم الاجمالي ، فهنا أيضاً يجب اكرامهما من باب منجّزية العلم الاجمالي ، وأما إذا فرض أنَّ الفرد الذي خرج بالمخصّص يحرم اكرامه لا أنه لا يجب اكرامه فقط فالمناسب في مثل هذه الحالة دوران الأمر بين المحذورين يعني واحدٌ منهما يجب اكرامه جزماً والثاني يحرم اكرامه جزماً وبالتالي أكرم أحداً منهما وأترك اكرام الثاني فإنَّ هذا هو المقدار الممكن من الامتثال وبذلك تتحقق الموافقة الاحتمالية والمخالفة الاحتمالية ، ولا يجوز أن أترك اكرامهما معاً فإنه مخالفة قطعية ، كما لا يجوز اكرامهما معاً لأنه مخالفة قطعية بل اكرم واحداً وأترك الثاني لأنَّ هذا هو المقدار الذي يمكنك لا أكثر.

الصورة الثالثة:- أن يكون المخصّص مجملاً بنحو الشبهة المفهومية ويكون دائراً بين السعة والضيق إلا أنَّ المخصّص منفصل ، كما إذا قال ( اكرم كل نجفي ) ثم قال بعد فترة ( لا تكرم النجفي الفاسق ) وتردد أمر الفاسق بين السعة والضيق فالمناسب في مثل هذه الحالة ما هو ؟

أما بالنسبة إلى فاعل الكبيرة فهو قدر متيقن لأنه لا شك فيه فهو خارج بالمخصّص ، إنما الكلام في فاعل الصغيرة ، ففي فاعل الصغيرة يمكن أن نتمسّك بعموم العام لإثبات وجوب اكرامه ، وذلك لأنَّ العام يوجد له ظهور في الشمول لجميع الأفراد بما في ذلك فاعل الكبيرة فضلاً عن فاعل الصغيرة حيث إنَّ المخصّص منفصل فلا يؤثر على ظهور العام فنشك هل خرج من العام مقدار أزيد من فاعل الكبيرة - يعني فاعل الصغيرة - أو لم يخرج ، وهذا شك في أصل التخصيص مع وجود ظهور العام فتمسّك إذن بظهور العام ، هذه شبة.

إن قلت:- إنَّ المخصّص أخرج عنوان الفاسق فصار العام حجة - من حيث الحجية لا من حيث الظهور - في النجفي غير الفاسق وأنا أشك هل فاعل الصغيرة ينطبق عليه أنه نجفي غير فاسق أو لا فتتحوّل الشبهة إلى مصداقية والحكم لا يثبت موضوع نفسه ، فالحكم يقول أكرم النجفي غير الفاسق أما أنَّ هذا فاسق أو لا فهو لا يتعهّده ، فإذن لا يجوز اكرامه ، هذه شبهة تطرح في المقام.