الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

38/06/28

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص.

ولعل النكتة في ذلك هي أنه إذا شك في التخصيص وعدمه بعد الجزم بأنَّ هذا فرد من العام فالظهور في العموم يقتضي الشمول له وأنه يجب اكرامه ، إذ العموم قال ( اكرم كل نجفي ) وظاهره الشمول لكل نجفي وأنه يجب اكرامه ، فاذا شك في زيد أنه خرج من هذا العموم - فهو نجفي جزماً - أو لم يخرج فمقتضى الظهور في أنَّ كلّ نجفي يجب اكرامه أنَّ هذا يجب اكرامه أيضا بعدما كان نجفياً ، فظهور اللفظ في العموم والشمول يقتضي وجوب اكرامه فلذا انعقدت سيرة العقلاء على التمسّك بالعموم ونفي التخصيص ، أما إذا فرض أنَّ الفرد كان خارجاً من الحكم جزماً ونحتمل أنَّ خروجه من باب التخصّص فلا يوجد ظهور في أنه يجب اكرامه فإنَّ ظهور العام - أي اكرم كل نجفي - يقتضي أنَّ من كان نجفياً حتما يجب اكرامه أما من كان يشك في كونه نجفياً فهل هنا ظهور للعام في أنه نجفاً أو يجب اكرامه ؟ إنَّ هذا أوّل الكلام ، ونحن نبيّن وهذا المطلب لنبين أنه لماذا انعقدت السيرة هنا جزما أما هناك فلا نجزم بانعقادها ، فالمفروض أنه توجد نكتة فارقة ، والمفروض أنَّ العقلاء ليس عندهم تعبّديات بل لابد من ابراز نكات فإذن لماذا ندّعي أنَّ السيرة انعقدت جزماً فيما إذا شك في التخصيص وعدم التخصيص مع الجزم بأنَّ هذا المشكوك فرد من العام فهنا ادعينا أنَّ السيرة منعقدة على التمسّك بالعموم وقلنا يجب اكرامه ، أما في الثاني وهو الذي لا يجزم بأنه من أفرد العام فهو خارج من حكم العام جزماً لكن لا ندري أنه خارج من حكم العام لأجل أنه ليس من أفراد العام موضوعاً أو هو من أفراده ولكن خرج بالتخصيص هنا ادعينا عدم وجود السيرة على التمسّك بالعموم ، ومنشاء التشكيك في عدم انعقاد السيرة هنا أنه يوجد ظهور يمكن التمسّك به لأنَّ ظاهر ( اكرم كل نجفي ) أنَّ جميع النجفيين يجب اكرامهم وهذا الفرد المفروض أنه نجفي حتماً فمقتضى الظهور في العموم وجوب اكرامه ، أما في النحو الثاني فالمفروض أننا لا نجزم بأنه نجفي حتى يقال إنَّ ظهور ( اكرم كل نجفي ) يقتضي وجوب اكرامه لأننا نحتاج حينئذٍ الى اثبات أنه نجفي حتى يقال إنَّ الظهور يشمله ، فظهور العام يقتضي أنَّ النجفي يجب اكرامه أما من كان مشكوك النجفية فلا يوجد ظهور في أنه نجفي ، فالمقصود هو أنَّ الظهور في العموم يمكن التمسّك به في الأوّل بينما لا يمكن التمسّك به في الثاني والفارق قد أوضحناه ، ولعل هذا الفارق هو منشاء انعقاد السيرة في حالة ما إذا شك في التخصيص وعدم التخصيص ولم تنعقد في حالة ما إذا شك بين التخصيص وبين التخصيص بعد الجزم بأنه لا يجب اكرامه.

هذا ما يمكن أن يقال في توضيح النكتة في انعقاد السيرة هناك وعدم انعقادها هنا كما ذكر السيد الشهيد(قده)[1] :- من أنَّ الظهور حجة عند العقلاء من باب الكاشفية وإلا فالتعبّديات بعيدة عن الحياة العقلائية ، وحينئذ نقول إنه حينما يقال ( اكرم كل نجفي ) فهذا فيه ظهور في وجوب اكرام كل نجفي ويكشف عن أن كل فرد من أفرد النجفيين هو مشمول لهذا الحكم ، وبالتالي يكشف عن شيء آخر وهو أنه لم يخرج بعض النجفيين بالتخصيص ، وهذه الكاشفية الثانية بنفس مستوى الكاشفية الأولى ، واقصد من الكاشفية الأولى كاشفية ظهور ( اكرم كل نجفي ) في الشمول لجميع أفراد أهل النجف ، هذا الظهور كاشف عن شمول جميع الأفراد ، وهو في نفس الوقت ما دام كاشفاً عن شمول جميع أفراد أهل النجف هو كاشف بنفس المستوى وبنفس الدرجة عن أنه لم يشذّ أحد النجفيين عن هذا الحكم ، أي لم يخرج بالتخصيص ، وهذه الكاشفية الثانية هي على حدّ الكاشفية الأولى لا أنَّ الأولى أقوى من الثانية ، فأنت حينما تقول ( اكرم كل نجفي ) فهو به كاشفية عن شمول كل فردٍ وهذا بلا إشكال ، وإذا كان شاملاً لكل فهذا معناه أنه لم يخرج منه فرد من الأفراد بالتخصيص ، إذ لو خرج بالتخصيص فهذا معناه عدم الشمول وهو غير كاشف عن شموله لجميع أفرده.

إذن بعد أن فرضنا أنه كاشف عن جميع الأفراد فبالتالي يلازمه أنه كاشف عن أنه لم يخرج أحدهم بالتخصيص ، [ إذ لو كان أحدهم قد خرج بالتخصيص فهذا معناه أنه ليس كاشفاً عن شموله لجميع أفرده ][2] فاذا كان الظهور حجة بلحاظ الكشف الأوّل يلزم أن يكون حجة بلحاظ الكشف الثاني لفرض أنَّ كلا الكشفين بمستوى واحد ، وعلى هذا الأساس سوف يكون الظهور - ظهور ( أكرم كل نجفي ) - حجة بلحاظ الكشف الثاني ، أي لم يخرج منه أحد الأفراد بالتخصيص.

وإذا قبلنا بهذا فحينئذ نقول:- إنه متى ما وجدنا شخصاً قد خرج من العموم فسوف نعرف أنه ليس بنجفي بمقتضى الكشف الثاني لأنه حجة وأنه لم يشذّ أحد من النجفيين عن هذا الحكم ولم يخرج بالتخصيص فلازمه أنه إذا حكم المولى بأنَّ فلان لا يجب اكرامه ولا نعلم أنه نجفي أو غير نجفي فلازمه أنه يثبت كونه ليس نجفي بمقتضى الكشف الثاني ، فاذا قبلنا الكشف وأنه يقتضي عدم التخصيص فسوف يثبت التخصّص أي خروجه بالتخصّص وليس بالتخصيص ، إذ احتمال التخصيص قد نُفِي بالكشف الثاني فيتعيّن احتمال التخصّص ، وبذلك يثبت أنَّ صالة عدم التخصيص لإثبات التخصص جارية.

والسيد الشهيد(قده) لم يبنِ على هذا ولكن هذا تقريبٌ لإثبات أصالة عدم التخصيص لإثبات التخصّص ، ويمكن جعله بياناً مستقلاً لإثبات حجية أصالة عدم التخصيص لإثبات التخصّص ، فما هو الجواب ؟

وفي الجواب نقول:- نحن نسلّم الكاشفية الثانية حيث نشعر بها بالوجدان ، فنحن نشعر بأنَّ الحكم بوجوب اكرام كل نجفي ظاهر وكاشف عن شمول الحكم لكل نجفي - وهذ هي الكاشفية الأولى - وعن عدم خروج أحدهم بالتخصيص وهذا ايضاً نسلّم به – وهذ هي الكاشفية الثانية - ولكن نقول إنَّ هذا الظهور الثاني تام إذا فرض أنَّ الفرد جزمنا بأنه نجفي ولا ندري هل خرج بالتخصيص أو لم يخرج بالتخصيص هنا نقول توجد كاشفية في أنه مادام هو نجفي جزماً فهو لم يخرج ولم يستثنَ ولم يشذّ من الحكم بوجوب الاكرام هذا صحيح فإنَّ هذه الكاشفية نشعر بها بالوجدان لكن إذا جزمنا بأنه نجفي ، أما إذا لم نجزم أنه نجفي والفروض أنه شذّ عن الحكم جزماً - لا أننا نشك في ذلك - فهل للكلام كاشفية بنفس المستوى على أنَّ هذا إذن ليس بنجفي ؟ إنَّ هذا النحو من الكاشفية أوّل الكلام ، إنه ربما توجد كاشفية لكنها بنفس المستوى أوّل الكلام ووجداننا أقوى منبّه على ذلك ، يعني أنا أرجع إلى وجداني فإنه حينما يقال ( اكرم كل نجفي ) فبوجداني أعرف أنَّ هذا كاشف عن أنه لم يشذّ أحد النجفيين عن هذا الحكم ، فله كاشفية في أنه لم يخرج أحدهم بالتخصيص فصحيحٌ أنّه له هذه الكاشفية أما أنه إذا خرج فردٌ من الحكم العام جزماً ودل الدليل على أنه لا يجب اكرامه ولكن شككنا أنَّ خروجه تخصيصي أو تخصّصي فهذا الكلام - أي ( أكرم كل نجفي ) - هل له كاشفية بنفس المستوى عن أنَّ هذا الذي شذّ عن الحكم جزماً إذن هو ليس بنجفي ؟! إنَّ ثبوت هذه الكاشفية للكلام هي أوّل الكلام ، فنحن لا نسلّم بأنَّ ( أكرم كل نجفي ) له كاشفية بهذا المستوى عن أنَّ هذا الذي شذّ جزماً وخرج من الحكم جزماً إذن هو ليس بنجفي ، نعم نحن نقبل شيئاً آخر وهو أنَّ هذا لازم عقلي ، يعني أنَّ اللازم عقلاً للكاشفية الثانية أنَّ العقل سوف يحكم لا أنَّ نفس الكلام كاشف عنه ، بل هذا حكم عقلي ، فالقعل يحكم بأنه إذن هذا الذي خرج هو ليس بنجفي ، لأنه مادام الكلام يكشف عن أنَّ هذا الحكم شامل لكل نجفي ولم يشذّ عنه فرد من النجفيين فالعقل يقول إذن هذا الذي لم يشمله الحكم ليس بنجفي لا أنَّ نفس الكلام كاشف عن ذلك ، كلا بل العقل يقول هذا الفرد يلزم أن لا يكون نجفياً ، وهذا لازم عقلي للكشف الثاني لا أنَّ الكلام يكشف عن أنَّ هذا ليس بنجفي ، ومدركي في ذلك هو أنَّ المفاد عرفاً حينما تطرح على العرف وتقول له ( اكرم كل نجفي ) ماذا تستفيد منه ؟ إنه يقول إني أستفيد منه أوّلاً أنَّ كل نجفي مشمولاً لهذا الحكم وثانياً أنه لم يشذّ منه فرد بالتخصيص ، أما أنه من لم يشمله الحكم فهو ليس بنجفي حتماً فهذا لازم عقلي لا أنَّ الكلام بنفسه كاشف عنه.

إن قلت:- سلّمت أنَّ هذا ليس مدلولاً للفظ وإنما هو لازم عقلي ولكن قد قرأنا في مبحث الأمارات أنَّ اللازم العقلي للأمارة حجة على خلاف الأصل العملي فإنَّ اللازم العقلي للأصل العملي ليس بحجة لكن اللازم العقلي للأمارة حجّة ، ومادمت قد سلّمت بأنَّ هذا لازم عقلي فتثبت حينئذٍ حجيته من باب أنّ الامارة حجة - ونقصد من الأمارة هنا ظهور الكلام - ، فإذا كان ظهور الكلام أمارة وهذا لازمٌ عقلي فيلزم أن يثبت هذا اللازم العقلي بظهور الكلام ، فما هو الجواب ؟


[1] بحوث في علم الأصول، الهاشمي الشاهرودي، ج3، ص354.
[2] وهذا البيان مني وهو(قده) لم يذكره.