الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
38/06/27
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص.
انتهى حديثنا إلى حالة دوران الأمر بني التخصيص والتخصّص فهل يمكن تطبيق أصالة عدم التخصيص ، وتستطيع أن تعبّر بتعبيرٍ آخر وهو أصالة العموم فالعموم وعدم التخصيص واحد ، فلك الحق أن تقول هل يمكن أن نتمسّك بأصالة عدم التخصيص لإثبات التخصّص ، أو تقول هل يمكن التمسّك بأصالة العموم لنفي التخصيص واثبات التخصّص ؟ ، وقد ذكرنا المثال العرفي له سابقاً ولا نكرر ، وأما المثقال الشرعي فنمثل له بمثالين ، وقد قلنا إنَّ المثال الشرعي الأوّل هو أنه توجد عندنا بعض الروايات دلت على أنَّ الماء القليل - أي الأقل من الكرّ - ينفعل بكلّ نجاسة ، وقال الفيض الكاشاني(قده) إنَّ الماء القليل لا ينفعل بملاقاة النجاسة ، ولعل دليله يرتبط ببحثنا هذا.
فعندنا رواية تدلّ على أنّ الماء القليل ينفعل بملاقاة النجاسة ، وفي المقابل توجد عندنا رواية وهي صحيحة الأحول تقول إذا وقع الثوب في ماء الاستنجاء فلا بأس به ، وهي لم تقل ( لا يتنجس ) بل قالت ( فلا بأس ) وحينئذٍ يحتمل أن المقصود من تعبير ( لا بأس ) أنه يتنجّس ولكنه في باب الاستنجاء معفو عنه في الصلاة من باب التسهيل كما هو الحال في الدم الذي لا يتجاوز الدرهم فإنه معفو عنه في الصلاة ، وبناءً على هذا الاحتمال سوف يصير تخصيص للرواية الدالة على أنَّ الماء القليل إذا لاقته نجاسة يتنجّس ولا تجوز الصلاة فيه أيضاً فنقول هذا استثناء خرج منه ماء الاستنجاء فإنه وإن كان متنجّساًً لكنه تجوز الصلاة فيه ، فهنا يوجد تخصيص ، ويوجد احتمال آخر وهو أنَّ ماء الاستنجاء طاهر اصلاً ، وبناءً على هذا الاحتمال يصير المورد من التخصّص ، يعني هو خارج موضوعاً عن تلك الروايات التي تقول ( يتنجّس ) فإنَّ هذا الماء سوف لا يكون متنجساً ، وهذا سوف ينفع الكاشاني(قده) ، فلعل الكاشاني(قده) يتمسّك بصحيحة الأحول وما على شاكلتها فهذه الروايات تتناغم وتتفاعل مع مذاقه الذي يريده.
والخلاصة:- إنه يوجد احتمالان فهل يمكن أن نتمسّك بأصالة عدم التخصيص فنقول الأصل عدم التخصيص فتبقى الرواية الأولى التي دلت أن كلّ ماء قليل ينفعل بملاقاة النجاسة لم يخرج منها شيء بالتخصيص بل بقي عمومها سالماً ولكن هذا الفرد خارج منها موضوعاً فبأصالة عدم التخصيص نثبت التخصّص ، فهل هذا مقبول أو لا ؟ فإذا قبلنا بهذا فهذا سوف يصبُّ في صالح الفيض الكاشاني(قده) ، فإذا تمسّكنا بأصالة عدم التخصيص لإثبات التخصّص فنقول هذا الثوب الذي وقع في ماء الاستنجاء ليس بمتنجّس وهذا سوف ينفع الفيض الكاشاني(قده).
أما الروايتان:-
الرواية الأولى:- وهي التي دلت على أنَّ الماء القليل يتنجّس بمجرّد ملاقاة النجاسة ، وهي موثقة عمّار الساباطي الواردة في الرجل الذي يجد في إنائه فأرة متسلّخة وقد توضأ منه مراراً فقال عليه السلام:- ( يغسل ثيابه ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء ويعيد الوضوء والصلاة )[1] وهي واردة في الفأرة وبإلغاء الخصوصية نعمّم لكل نجاسة من النجاسات.
الرواية الثانية:- وهي التي دلت على أنَّ ماء الاستنجاء لا بأس به ، وهي صحيحة أبي جعفر الأحول:- ( أخرج من الخلاء فاستنجي بالماء فيقع ثوبي في ذلك الماء الذي استنجيت به ، فقال:- لا بأس به )[2] .
والأمر كما ذكرنا فإنَّ نفي البأس كما يلتئم مع التخصيص وأنَّ هذا نجس لكنه معفو عنه في الصلاة يلتئم مع التخصص ، فهل يمكن اجراء أصالة عدم التخصيص - أي العموم - في موثقة عمّار لإثبات التخصّص فنقول هي عامّة من دون تخصيص ونقول إنَّ ماء الاستنجاء خارج منها بالتخصّص والذي كما قلنا يصبُّ في صالح الكاشاني ؟
المثال الشرعي الثاني:- وهو في باب الصلاة ، فنحن نعلم أنَّ الصلاة لها شروط منها الطهارة ولكن الصلاة على الميت دل الدليل على أنه لا يعتبر فيها الطهارة وبعض الأمور الأخرى فهل هذا من باب التخصيص لحكم الصلاة فنقول كل صلاة يجب فيها الطهارة والقراءة وغير ذلك إلا الصلاة على الميت ، أو من باب التخصّص ؟ وإذا قلنا هي من باب التخصّص فهذه ليست بصلاة بل هي دعاء ، وتظهر الثمرة في أنَّ بقية الأمور أيضاً لا نعتبرها في الصلاة على الميت ، ولنلاحظ الروايات:-
الرواية الأولى:- وهي التي دلت على أنَّ الصلاة يعتبر فيها فاتحة الكتاب كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام:- ( لا صلاة له إلا أن يقرأ بها في جهر أو اخفات )[3] .
الرواية الثانية:- وهي التي دلت على أنه لا يعتبر في الصلاة قراءة الفاتحة ، من قبيل صحيحة الفضلاء[4] عن أبي جعفر عليه السلام:- ( ليس في الصلاة على الميت قراءة ولا دعاء مؤقت[5] )[6] ، فإذا قلنا إنَّ خروجها خروجاً تخصيصياً فلا تعتبر فيها الفاتحة فقط أما مثل الطهارة فهي معتبرة فيها ، أما إذا قلنا خروجاً تخصّصياً فأصلاً هي دعاء وليست بصلاة وحينئذٍ لا تعتبر فيها الطهارة ولا غيرها وإلا لو كان يعتبر فيها شيء لاحتجنا إلى دليلٍ خاص وإلا فالقاعدة تقتضي عدم اعتبار شيء فيها مادامت ليست بصلاة.
فإذن فهمنا الآن مبحث الدوران بين التخصيص والتخصّص ، وأنا أرد أن أبيّن أهمية هذا البحث ، وتظهر أهميته في موارد متعددة:-
منها:- ردّ الفيض الكاشاني(قده) ، لأنه يستدل ببعض الروايات ، من قبيل روايات الاستنجاء ، فهو يتسدل بها على أنَّ الماء القليل لا ينفعل ملاقاة النجاسة.
ونحن في مقام الردّ عليه نقول:- إنَّ هذا من مورد الدوران بين التخصيص والتخصّص ، فصحيحٌ أنَّ مثل رواية الأحول دلت على أنه ( لا بأس ) ولكن هذا كما يحتمل أنه من باب التخصيص لما دلّ على تنجّس الماء القليل بملاقاة النجاسة - الذي هو موثقة عمّار - يحتمل أيضاً أن يكون من باب التخصّص يعني يحتمل أنَّ ماء الاستنجاء لا يتنجّس أصلاً ، والذي يريده وينفعه هو الثاني ، وكيف تثبت الثاني ؟ إنك لا تستطيع أن تثبته إلا إذا أجريت أصالة عدم التخصيص لإثبات التخصّص ، ولكن لم تثبت حجّية أصالة عدم التخصيص لإثبات التخصّص . كما توجد موارد أخرى ولكن هذا المورد يكفينا الآن.
إنَّ المعروف هو أنَّ أصالة عدم التخصيص لا تجري لإثبات التخصّص ، وإنما مورد أصالة عدم التخصيص هو فميا إذا شككنا بين أنه هل يوجد تخصيص أو لا ، كما إذا قيل ( اكرم كل نجفي ) ونحن لا نعلم هل خرج زيد بالتخصيص أو لم يخرج فهذا دوران بين التخصيص وبين عدم التخصيص أي هو باقٍ تحت العموم فهنا أصالة عدم التخصيص حجّة جزماً وهذا هو القدر المتيقن ، أما إذا دار الأمر بين التخصيص والتخصّص يعني أنَّ زيداً لا يجب اكرامه جزماً فقد قيل لي ( لا تكرم زيداً ) ولكن لا يجب اكرامه من أيّ باب فهل هو نجفي ولكن رغم ذلك لا يجب اكرامه أو أنه ليس بنجفي أصلاً فهو أخرجه من باب أنه يريد أن يقول لي إنَّ هذا الرجل ليس بنجفي فيصير تخصّصاً ، فإذن في مورد الشك بين التخصيص والتخصّص لابد وأن نفترض أنَّ الفرد حتماً هو خارج حكماً ولكن لا ندري أنَّ هذا الخروج الحكمي ناشئ من الخروج الموضوعي أو من التخصيص.
إذن ضابط الدوران المهم بين التخصيص والتخصّص هو أن نجزم بخروج الفرد المشكوك من العام خروجاً حكمياً لكن هذا الخروج الحكمي ناشئ من الخروج الموضوعي أو ليس ناشئاً منه بل من التخصيص ، فيكون الفرد خارج حكماً من العموم جزماً ، وأما الدوران بين التخصيص وبين العموم وعدم التخصيص - وهذه هي الحالة المتعارفة - فهنا لا نجزم بالخروج حكماً بل نشك في أصل الخروج الحكمي.
فإذن صار المائز واضحاً بين الحالتين ، فالحالة المتعارفة عندنا التي هي الشك في التخصيص فنشكّ في خروج الفرد من حكم العام ، أما هذه الحالة التي نبينها الآن والتي يدور فيها الأمر بين التخصيص والتخصّص نجزم بخروج الفرد من حكم العام حتماً ولكن لا ندري أنَّ هذا الخروج الحكمي هل هو ناشئ من الخروج الموضوعي أو لا.
والآن نأتي إلى سؤالنا فنقول:- هل اجراء أصالة عدم التخصيص - أي اصالة العموم - لإثبات التخصّص حجّة أو ليس بحجة ؟
والجواب:- المناسب كما ذكر الشيخ الخراساني(قده)[7] وهو عدم الحجّية ، والوجه في ذلك:- هو أنَّ مدرك هذه الأصول اللفظية هو السيرة العقلائية - لأنَّ الأصول على قسمين فبعضها يرتبط بإثبات مفاد اللفظ فهي ناظرة إلى اللفظ وبعضها ناظرة إلى العمل مثل أن نشك هل التدخين حرام أو لا وأنَّ صلاة الجمعة في زماننا واجبة أو ليست واجبة فنجري أصل البراءة أو الاستصحاب فهذا أصل عملي لأنه ناظر إلى العمل فهو يريد أن يقول لك إنَّ عملك هذا واجب أو حرام أو متسحب أو مباح ... الخ فالاستصحاب وأصل البراءة أصول عميلة لذلك اصطلحوا عليها بالأصول العملية ، وهناك أصول لفظية يعني ترتبط باللفظ وتنقّح مفاد اللفظ كما في موردنا فإنه في موردنا نريد أن نرى هل هذا الحكم باقٍ على عمومه وهل هذا اللفظ عام يشمل حتى هذا الفرد الذي خرج من حكم العام جزماً ونشك في خروجه موضوعاً فأصالة العموم هنا أصل لفظي ينقّح لك العموم ويثبت لك العموم اللفظي فهذا أصل لفظي - ، نعم الأصول العملية يمكن أن يقال إن مدركها سيرة العقلاء أو روايات ( لا تنقض اليقين بالشك ) أو ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) ، أما الأصول اللفظية فمدركها ليس إلا سيرة العقلاء فإنها جرت على هذا ، فإنه عند الشك في العموم يبنون على العموم وعند الشك في التخصيص يبنون على عدم التخصيص ، فأصالة عدم التخصيص أصل لفظي وحجيته نابعة من سيرة العقلاء.
فإذا اتضح هذا فحينئذٍ نقول:- إنَّ العقلاء قد انعقدت سيرتهم جزماً على التمسك بأصالة عدم التخصيص - أي أصالة العموم - إذا شك بين التخصيص وعدم التخصيص ، يعني بتعبير آخر:- إذا شك بأنَّ الفرد خارج عن حكم العام أو ليس بخارج عن حكمه فهنا يتمسّك العقلاء حتماً بأصالة عدم التخصيص وهذا هو القدر المتيقن بأصالة العموم أو أصالة عدم التخصيص ، لذلك نشك هل خرج العقد بالفارسية من ﴿ أحلّ الله البيع ﴾ أو لا ، فهذا شك في أصل الخروج وفي أصل التخصيص فنتمسّك بأصالة الاطلاق أو أصالة العموم مثلاً ، وهذا أصل لفظي منشؤه سيرة العقلاء ، فمتى ما شككنا في خروج فردٍ وعدم خروجه من العام يتمسّك العقلاء بأصالة العموم وهذا صحيح ، أما إذا جزموا بخروجه من العام لكن هل خرج من العموم لأجل كونه ليس من موضوع العام أو أنه خرج من باب التخصيص فهو حتماً خارج حكماً من العام ولكن هل خرج حكماً لأجل الخروج الموضوعي أو لأجل التخصيص فهنا هل انعقدت سيرة العقلاء على العمل بأصالة العموم في هكذا مورد لإثبات العموم - أي لإثبات عدم التخصيص - حتى يثبت بالتالي التخصص ؟ فإذا كان العموم ثابتاً يعني أنَّ المورد من موارد التخصّص وهنا نشك في انعقاد سيرة العقلاء ، بل قد يقال: إنَّ العقلاء لا يفعلون فعلاً إلا وله ثمرة وإذا كان هذا الفرد قد خرج من حكم العام جزماً فما الفائدة بعد ذلك من وراء كون الخروج موضوعياً أو حكمياً فقط من دون أن يكون خروجاً موضوعياً فإن هذا الفرد معلومٌ أنه لا يجب اكرامه فلا معنى لتطبيق العقلاء لأصالة العموم ، أو ليس هذا يكون عبثاً ؟!!
والخلاصة:- نحن نجزم بانعقاد سيرة العقلاء على العمل بالعموم عند الشك في التخصيص وعدم التخصيص ، يعني عند الشك في خروج الفرد من حكم العام وعدم خروجه ، وأما إذا جزم بخروجه وشك في كون الخروج بنحو التخصيص أو بنحو التخصّص فلا يجزم بانعقاد سيرة العقلاء والسيرة دليل لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقن ، فلا مثبت لحجية أصالة عدم العموم وعدم التخصيص لإثبات التخصّص ، فعدم الحجية سوف يصير من باب القصور في المقتضي فإنَّ مقتضي الحجّية قاصر عن اثبات ذلك.