الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

38/06/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- العام والخاص.

إن قلت:- ما الفائدة في استعمال العام في جميع الأفراد بعدما لم يكن ذلك مراداً جدياً لأنَّ المتكلم لا يريد جداً إكرام جميع الأفراد ، فإذن ما الفائدة من استعمال ( أكرم كل عالم ) في جميع الأفراد فإنَّ هذا لغو وهو أن تستعمل الكلام في معنىً أنت لا تريد وما الفائدة في ذلك ؟

أجاب وقال:- ذلك من باب ضرب القاعدة

يعني يريد أن يقول: إنه إذا كان هناك استعمال في الجميع فحينئذٍ تكون الفائدة هي أنه في مورد الشك يعني شككنا أنَّ هذا الفرد غير الذي خرج بالمخصّص يجب اكرامه أو لا فالفائدة تظهر هنا ، فإنه عند الشك نقول هذا داخل في المراد الاستعمالي ، أي قوله ( اكرم كل عالم ) يدلّ بظهوره إنه على مستوى الاستعمال يريد جميع الأفراد ومنها هذا الفرد ، فإذا ثبت أنَّ هذا الفرد مراداً استعمالاً نضمّ الظهور في الجدّية وأنَّ ظاهر كلّ عاقلٍ أنَّ كل ما يريده استعمالاً يريده جدّاً فيثبت بذلك أنه مراد جدّي فيجب اكرامه ، أما إذا لم يكن العام مستعملاً في العموم كيف تثبت أنَّ هذا المشكوك يجب اكرامه ؟ إنَّ الباب سوف ينسّد عليك.

فالفائدة تظهر إذن في أنَّ العاقل يستعمل العام في العموم رغم كونه قد خصّص أو يريد تخصيصه ففي مورد الشك نتمسّك بالظهور في الاستعمال في الجميع لإثبات أنَّ هذا الفرد مراد استعمالي ، وإذا ثبت أنه مراد استعمالياً يثبت بذلك أنه مراد جدّي فيلزم وجوب اكرامه.

ومن هنا تتضح النكتة في أنه يحاول أن يحافظ على الظهور الاستعمالي في الجميع حتى تبقى الظهورات الضمنية الاستعمالية على حالها ، إذ لو انثلم ذاك الظهور الاستعمالي انثلمت كل الظهورات الضمنية الاستعمالية ، وهذا بخلافه في الظهور في الجدّية ، فإنَّ ظاهر كل متكلم عاقل أنَّ كلّ مراد استعمالي هو مراد جداً فهذا الفرد مراد استعمالي فإذن يريده جداً وهذا الفرد مراد استعمالي فإذن يريده جداً .... ، فإنَّ ظاهر العاقل هو هذا ، فالظهورات في الجدّية هي ظهورات غير مترابطة ، بخلافه في الظهورات الاستعمالية ، لذلك يحاول الحفاظ على الظهور الاستعمالي في الجميع ، وبذلك دفع الاشكال الذي يقول إنَّ العام بعد التخصيص مستعمل في الباقي أو في الجميع ، فصاحب الكفاية يقول هو مستعملٌ في الجميع غايته أنَّ الظهور الجدّي في الارادة الجدّية لا نعمل به بمقدار المخصّص فاندفع بذلك الاشكال.

وقد وجهة عدّة اشكالات لما ذكره الشيخ الخراساني(قده):-

الاشكال الأوّل:- ما أفاده الشيخ الأصفهاني(قده)[1] ، وحاصل ما ذكره:- نحن نسأل ونقول هل هذا المتكلم حينما قال ( أكرم كل عالم ) أنشأ وجوب الاكرام لكل عالمٍ ؟ فما هو الداعي إلى هذا ، فهل هو انشئ بداعي الارادة الجدّية بلحاظ الجميع أو أنه أنشيء من دون ارادة جدّية في الجميع - يعني أصلاً لا توجد ارادة جدّية لا لهذا ولا لذاك ولا لذاك - ، أو أنشئ بنحو الارادة الجدّية بلحاظ بعضٍ - وهو الذي لم يخرج بالمخصص - وأنشئ بلحاظ البعض الآخر - وهو الذي خرج بالمخصص - لا بداعي الارادة الجدّية ؟

والأوّل باطل ، لأنَّ المفروض أنَّ المخصّص قد أخرج قسماً ، لأنَّ المولى يقول بعد ذلك إنَّ غير العادل لا تكرمه لأنه قد جاء بمخصّصٍ منفصل فدعوى إنه قد أنشئ وجوب اكرام الجميع على مستوى الاستعمال خلف خروج البعض بالمخصّص.

والثاني باطل أيضاً ، لأن الذي لم يخرج بالمخصّص يريد اكرامه جداً وإلا فلماذا أنشأ وقال ( أكرم كل عالم ) ؟!! فإذا لم تكن عنده ارادة جدّية حتى لإكرام الواحد فلماذا يقول ( أكرم كلّ عالم ) فإنّ هذا سفه ولغو.

فلم يبق إلا الاحتمال الثالث وهو أن يقال إنَّ المتكلّم بقوله ( أكرم كل عالم ) أنشأ على مستوى الارادة الاستعمالية وجوب اكرام الجميع بداعي الجدّ بلحاظ قسمٍ - وهو الباقي تحت العام من دون أن يخرجه بالمخصّص - ولا بلحاظ الجدّ بلحاظ القسم الآخر ، فإنه لا يوجد عندنا جواب إلا هذا.

يردّ ذلك ويقول:- إنه لا يمكن أن يكون للشيء الواحد داعيان مستقلان.

وبيان كلامه:- إنَّ وجوب الاكرام على مستوى الارادة الاستعمالية انشئ بلحاظ قسمٍ بداعي الجدّ وهو داعي مستقل ، وبلحاظ القسم الآخر - وهو الذي خرج بالمخصّص - لا بداعي الجدّ وإنما بداعي الارادة الاستعمالية فقط ، وهذا معناه إنشاء الشيء الواحد بداعيين مستقلين وهو غير ممكن.

وفيه:- إنَّ الذي لا يمكن هو وجود علتين فاعليتين مستقلتين للشيء الواحد ، يعني أنَّ الموجد الشيء لابد وأن يكون واحداً ولا يمكن أن يكون متعدداً ، فالعلّة الفاعلية يلزم أن تكون واحدة ، أما ما هو الدليل ؟ قيل إنه لابد من السنخية بين العلّة والمعلول والمتعدد بما هو متعدد لا يسانخ الواحد بما واحد ونحن لا نريد الدخول في هذا المطلب ولكن نريد أن نقوله إنَّ الذي ثبت هو أنَّ العلة الفاعلية للشيء لا يمكن أن تكون متعددة ، فالموجد لي أو لك أو لذلك الشيء الثالث لا يمكن أن يكون علتين مستقلتين ، ولكن المفروض في مقامنا أنَّ الغاية قد تعددت وشأن الغاية ليس هو الايجاد وإنما الغاية هي ما يترتب على وجود الشيء ولا بأس بأن تتعدد الغايات المترتبة على وجود الشيء ، فيمكن أن نفترض أني أكرم شخصاً لأجل أنه صديقي وقد جاء إلى البلاد فحينئذٍ العلّة الفاعلية هي أني أنا الذي أقوم بإكرامه أما الغاية والعلّة التي لأجلها أكرمته هي كونه صديقي ، وهناك علّة ثانية لإكرامه وهي أنه رجل عالم واردٌ إلى هذا البلد فلابد من اكرامه حتى لو لم يكن صديقاً لي ، ولعله توجد علة ثالثة كأن كان هاشمياً وغير ذلك ، فالغايات لابأس وأن تتعدد لأنها لا تُوجِد الفعل وإنما هي عبارة عن الأهداف والأهداف لا مانع من تعددها فإنه لا دليل على لزوم وحدة الهدف المترتب على الشيء.

إذن يمكن أن نقول في مقامنا:- إنَّ المتكلم أنشأ وجوب الاكرام على مستوى الاستعمال بنحو الارادة الجدّية بلحاظ الأفراد الذين لم يخرجوا بالمخصّص ، وأنشأ ذلك لا بلحاظ الارادة الجدّية بل بلحاظ الارادة الاستعمالية فقط بلحاظ الأفراد الذين خرجوا بالمخصّص فإنَّ تعدد الهدف والغاية والداعي أمر لا محذور فيه ، ما صدر من الشيخ الأصفهاني(قده) غريب ، ولعل مراده شيئاً آخر لم نفهمه.


[1] نهاية الدراية، الشيخ الاصفهاني، ج1، ص337.