الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
38/06/20
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- العام والخاص.
الاشكال الثاني:- إنه بناءً على هذا الرأي أنَّ كلمة ( كل ) لو كانت موضوعة لعموم ما يراد يلزم محذور أنه لا يمكن التصريح بالعموم ، يعني أنَّ المتكلم لا يتمكّن أن يأتي بكلامٍ له صراحة في العموم ، لأننا إذا أردنا أن نأتي بكلامٍ صريح في العموم فسوف نأتي بكلمة ( كل ) أو ( جميع ) ومن هذا القبيل وكلمة ( كل ) صارت ليست موضوعة للعموم في الدائرة الوسيعة وإنما عموم ما يراد من المدخول فاستعنّا بمقدمات الحكمة في المدخول والنتيجة تتبع أخسّ المقدمتين مثلاً ، ومقدّمات الحكمة لا تفيد الصراحة بل أقصى ما تفيد الظهور ، والنتيجة هي أننا سوف لا نحصل على كلام له صراحة في العموم لو جئنا بكلمة ( كل ) أو ( جميع ) لأنَّ كل هذه الكلمات لها مدخول وهذه الكلمات موضوعة لعموم ما يراد والمراد نثبته بمقدّمات الحكمة ومقدّمات الحكمة لا تفيد الصراحة فإذن لا يوجد عندنا صراحة ، وهل تلتزم بأنه لا يوجد عندنا كلام صريح ؟!! إنَّ هذا بعيد ، يعني إنَّ اللغة العربية صارت فقيرة وسوف تسجل هذه السلبية عليها وهو أنه لا يمكن في اللغة العربية أن تأتي بعمومٍ له صراحة بالتعميم لأنك سوف تحتاج إلى مقدّمات الحكمة وهي لا تفيد الصراحة بل تفيد الظهور.
وفيه:-
إن كان مقصوده من أنه لا يمكن التصريح بالعموم أي ذكر العموم بنحو الصراحة إذا استعملنا كلمة ( كل ) أو كلمة ( جميع ) وحدهما كما لو قلنا ( أكرم كل العلماء ) أو ( أكرم جميع العلماء ) فهذه الجملة وحدها لا تفيد الصراحة في العموم ؟ ، أو أنّ المحذور هو أنه لا يمكن أبداً وليس المقصود لو اقتصرنا على هذه الجملة من دون اضافةٍ بل لا يمكن أصلاً ؟
فإذا كان المقصود هو أنه لا يمكنك أبداً حتى لو أضفنا اضافات:- فنحن نرفض ذلك ونقول بل يمكن بأن نقول ( أكرم كل العلماء من دون استثناء أحد منهم افهم واسمع يا عبد الله ) فهذه الجملة صريحة في العموم.
وإن كان المقصود أنَّ الجملة وحدها من دون أن تضيف هذه التتمة - وهي ( من دون استثناء اسمع يا عبد الله ) - يلزم أنه لا يمكن ثبوت الصراحة في العموم فنقول:- نعم دع الصراحة لا تثبت هنا ولكن هذا لا يشكّل محذوراً على اللغة العربية ، إنما يشكّل محذوراً عليها فيما إذا كان لا يمكن اثبات الصراحة في العموم بأيّ وسيلة نستعين بها ، أما أنه لا يمكن لو اقتصرنا على هذه الجملة وحدها وقلنا إنَّ ( أكرم كل عالم ) وحدها لا تفيد الصراحة في العموم فهذا مقبول لكنه لا يشكّل محذوراً ، بل يمكن للشيخ النائيني والخراساني أن يقبلا بذلك ويقولا إنه لا محذور في ذلك.
والأجدر أن يقال في مقام مناقشة العلمين ما يلي:-
أوّلاً:- إنَّ لازم ما ذكر أنَّ مقدمات الحكمة لو لم تجرِ في موردٍ لسببٍ وآخر فلا نستفيد آنذاك العموم لا عموم ما يصلح ولا عموم ما يراد ، كما لو فرض أنَّ الشخص كان بين اليقظة والمنام وقال ( أكرم كل عالم ) فإنَّ مقدّمات الحكمة لا تأتي هنا فلا تجري فلا نستفيد العموم لا عموم ما يصلح لأنه لم توضع له على رأيهما ولا عموم ما يراد لأنَّ ما يراد لا يمكن تشخيصه لعدم جريان مقدّمات الحكمة والحال نحن يتبادر إلى ذهننا العموم جزماً ، فنحن حينما نسمع هذه الجملة نستفيد العموم بينما على رأي العلمين يلزم أن لا نستفيد العموم ، فما ذكراه مخالف للوجدان بما بيّناه.
ثانياً:- إنَّ ما ذكره العلمان ربما يكون ليس ممكناً وليس معقولاً في حدّ نفسه ، لأنه بناءً على ما ذكراه قد ربطا بين المدلول الاستعمالي لكلمة ( كل ) والمدلول الجدّي لكلمة ( عالم ) ، ومن الواضح أنَّ المدلول التصوّري يرتبط بالمدلول التصوّري والمدلول التصديقي يرتبط بالمدلول التصديقي لا أنَّ المدلول التصوّري لكلمة يرتبط بالمدلول التصديقي لكلمة أخرى فإنَّ هذا ليس ممكناً في حدّ نفسه ، وبناءً على ما ذكره العلمان قد ربط المدلول التصوّري لكلمة ( كل ) بالمدلول التصديقي للمدخول - يعني لكلمة ( عالم ) - حيث لازم تشخيص المدلول التصديقي والجدي لكلمة ( عالم ) من خلال مقدّمات الحكمة فربطنا المدلول التصوّري بالمدلول الحكمي الذي هو وليد مقدّمات الحكمة والمدلول التصوّري بالمدلول الحكمي - أو بعبارةٍ أخرى الجدّي - ، فيمكن أن يقال إنَّ هذا ليس بمعقولٍ في حدّ نفسه.
ثالثاً:- إنه بناءً على ما ذكراه يلزم أنه لا يمكن أن نحكم بالعموم ، فلو قال ( أكرم كل عالم ) وسكت يلزم أن لا نحكم بالعموم لاحتمال أنه يأتي بالمخصّص بعد ساعة أو ساعتين ، وهكذا الحال في الشرع المقدّس فإنَّ عادة الشرع على هذا الشيء فيلزم أن لا نتمسّك بالعموم ولا نثبته ولا نستفيده حتى لو قطعنا بعدم وجود مخصّصٍ لأننا سوف نحتمل أنه سوف يأتي بالمخصّص بعد ساعة أو ساعتين أو يوم أو يومين ، فمادمت احتمل ذلك فمقدّمات الحكمة لا يمكن أن تجري وتثبت لي أنَّ المدخول هو مطلق العالم فيلزم التوقّف حينئذٍ إلا أن نسأل الامام عليه السلام ونقول له هل ستأتي بالمخصّص فيما بعد أو لا ؟ ولكن هذه طريقة لا يحتملها أحد.
فإذن يلزم هذا المحذور بناءً على أنّ كلمة العموم موضوعة لعموم ما يراد والمراد فرع مقدّمات الحكمة وأحد مقدّمات الحكمة عدم القرينة المتصلة المنفصلة ونحن نحتمل ورود القرينة المنفصلة فحينئذٍ لا يمكن اجراء مقدّمات الحكمة وبالتالي لا يمكن اثبات المراد ومن ثم لا يمكن أن نستفيد من كلام المعصوم العموم فنبقى متوقّفين في وجوب اكرام الأفراد الموجودة بل فقط الأفراد المتيقنة ، وهل تلتزم بهذا ؟! إنه لا يمكن ذلك.
هذا كلّه بالنسبة إلى ما أفاده العلمان النائيني والخراساني.
الجواب الثاني:- ما ذكره الشيخ الخراساني(قده)[1] وحاصله: إنَّ العام بعد التخصيص هو بعدُ مستعمل في العموم وليس ما يراد كما في الجواب الأوّل ، كلا بل في عموم ما صلح ، يعني في كل العلماء ، فـ( أكرم كل عالم ) هو على مستوى الاستعمال شامل لكل عالم وليس ما يراد ، فعلى هذا الأساس هو مستعملٌ في عموم ما يراد ، فلو كان عدد أفراد العلماء الذين يصلح انطباق العالم عليهم مائة فهو مستعملٌ في تمام المائة لا في الباقي ، ولكن هذا ظهور استعمالي ، فهناك ظهور للعام في كونه مستعملاً في العموم فإذا جاء المخصّص لا يكشف عن أنه لا استعمال في العموم ولا ظهور في الاستعمال في العموم ، كلا بل الظهور في العموم وفي الاستعمال في العموم موجودٌ على حاله وإنما فائدة المخصّص هي أنه يسقط الظهور في الارادة الجدّية ، يعني إذا لم يأتِ المخصّص فهناك ظهور في أنَّ هذا المراد الاستعمالي هو مراد جدّي لأن ظاهر كل متكلّم عاقل أن ما يريده استعمالاً يريده جداً ، أما إذا جاء المخصّص فالظهور في الجدّية يسقط لكن بمقدار ما خرج بالمخصّص أما بالمقدار الذي لم يخرج بالمخصّص فهو باقٍ على الحجية.
إذن استنتجنا أنَّ الظهور الاستعمالي موجود في دائرته الوسيعة ويشمل كل الموارد أما الظهور في الارادة الجدية فهو يسقط عن الحجية بمقدار المخصّص وأما بالمقدار الباقي فيبقى حينئذٍ الظهور في الجدّية على حاله ويكون حجّة ، ولازم هذا الكلام أنَّ الظهور في الجدّية ظهور متعدّد بلحاظ كل فردٍ فرد ، يعني لو كان هناك مائة عالم فيكون هناك مائة ظهور في الجدّية ، يعني العالم الأوّل الذي استعمل فيه العام هناك ظهور في ارادته جداً والعالم الثاني الذي يوجد ظهور استعمالي فيه يوجد ظهور في الجدّية بلحاظه ... وهكذا ، فالظهور في الجدّية متعدّد بعدد أفراد العالم ويسقط عن الحجية بمقدار ما دلّ عليه المخصّص ويبقى حينئذٍ الظهور في الجدّية على حاله في الباقي ، فالظهور في الجدية متعدد بعدد أفراد العالم.
فالظهور في الجدّية انحلالي بعدد الأفراد ومتكثر بعدد الأفراد ، بينما الظهور الاستعمالي ظهور ترابطي واحد وليس متعدداً بعدد الأفراد ، ولذلك يحاول الشيخ الخراساني(قده) أن يحافظ على الظهور الاستعمالي فهو يبقيه ويقول هو لا يتزلزل وإنما هو بَعدُ ظاهراً في الاستعمال في تمام الأفراد ، ويزعزع في الظهور الجدّي فهو يسقط الظهور الجدّي في الجدّية عن الحجية بمقدار ما دلّ عليه المخصّص.
وهنا يأتي السؤال لصاحب الكفاية(قده):- وهو أنه لماذا الظهور الاستعمالي ليس بمتعدّد بينما الظهور في الجدّية متعدد ؟
والجواب:- نقول إنَّ الظهور الاستعمالي ليس بمتعدد باعتبار أنَّ ظاهر كل متكلّم على مستوى الاستعمال أنه يريد الاستعمال في المعنى العام وهو المائة ، فهناك ظهورٌ واحد فإذا زعزعنا هذا الظهور الواحد فسوف تسقط جميع الظهورات الاستعمالية في جميع الأفراد لأنها متولدة ونتائج من ذلك الظهور الاستعمالي الواحد ، فهناك ظهور استعمالي واحد هو أنَّ ظاهر حال المتكلّم أنه يستعمل العام في تمام المعنى الموضوع له وهو تمام المائة وبسبب هذا الظهور الواحد نقول إنَّ ظاهره أنه مستعمل في الفرد الأوّل وظاهره أنه مستعمل في الفرد الثاني .... وهكذا وإلا لا توجد ظهورات استعمالية متعددة بعدد الأفراد وإنما هناك ظهوراً واحداً ، ولذلك هو يحاول أن يحافظ على هذا الظهور الواحد ، وهذا بخلافه في الظهور الجدّي فإنَّ ظاهر المتكلّم أنَّ كل فرد استعمل فيه العام يريده جداً فهذا الفرد الأوّل يرده جداً وهذا الفرد الثاني مادام أنَّ العام قد استعمل فيه فظاهر حاله أنه يريده جداً .... وهكذا ، فالظهورات الجدّية في ذاتها متعددة لأنَّ ظاهر حال المتكلّم الحاكم أنَّ كل فرد استعمل فيه العام يريده جداً ، فله ظهورات جدية بعدد الأفراد ، فهي ليست ترابطية ، بخلاف الظهور في الاستعمال فإنه لا ظهور إلا في تمام المائة فهو واحد ، لذلك نقول إذا لم يكن ذلك الواحد موجوداً فجميع الظهورات الاستعمالية في كل فردٍ فرد سوف تسقط لأنها وليدة ذلك الظهور الواحد ، بخلاف الظهورات الجدّية فهي ليست وليدة لظهورٍ واحد وإنما وليد ظاهر كلّ متكلّم أنَّ الفرد الأوّل يريده جداً والفرد الثاني يريده جداً ، يعني توجد ظهورات بلحاظ كل فردٍ فرد.
وما يقوله صاحب الكفاية قريب.