الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

38/06/15

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- تتمة مفهوم الوصف – المفاهيم ، العام والخاص.

بيان بعض الأدلة التي قد تساق لإثبات المفهوم للوصف:-

الدليل الأوّل:- إنه في باب المطلق والمقيد يحمل المطلق على المقيد ، يعني لو قيل ( اعتق رقبة ) وقيل أيضاً ( اعتق رقبة مؤمنة ) ففي مثل هذه الحالة نقيد الأوّل المطلق بالثاني هذا التقييد لا يتم إلا إذا كان للوصف مفهوم ، يعني ( اعتق رقبة مؤمنة ) لابد أنه يدل على أنَّ غير المؤمنة لا تعتقها ، فإذا كان يدل على المفهوم حينئذٍ يصير مقيدا لذلك المطلق أما إذا لم يكن له مفهوم فسوف لا يوجد تنافي بينهما ، فـ( اعتق رقبة مؤمنة ) إذا لم يكن له مفهوم يعني هو ساكت عن غير المؤمنة وأنه لا يجوز عتقها ولا يبيّن ذلك ، فإذا هو لم يبيّن ذلك فالأوّل الذي هو ( اعتق رقبة ) يبيّن أنّ كل رقبة كافية ، فلا منافاة ، فنأخذ بإطلاق المطلق ، وحيث لا إشكال في أن سيرة الأعلام والعقلاء جارية على حمل المطلق على المقيد فهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الوصف له مفهوم وإلا إذا لم يكن للوصف مفهوم فيلزم أن نلغي عملية التقييد - يعني حمل المطلق على المقيد - ، نعم ينحصر جواز حمل المطلق على المقيد في حالة واحدة وهي فيما إذا كان المقيد لم يذكر فيه القيد بعنوان وصف وإنما ذكر بعنوان شرط ، يعني قيل ( اعتق رقبة إذا كانت مؤمنة ) فهنا نقول هنا نعم فإنَّ ( إذا ) موجودة وهي شرط والشرط له مفهوم فيصير مقيداً للمطلق أما إذا كان وصفاً مثل ( اعتق رقبة مؤمنة ) فلا يصير مقيداً لأنه ليس له مفهوم ، وحث إن سيرة العقلاء والأعلام جارية على أنهم يقولون بالتقييد في باب كون المقيد مشتملاً على وصف وإن لم يكن مشتملاً على شرط فهذا معناه أنَّ الوصف له مفهوم بسيرة الأعلام وسيرة العقلاء.

وفيه:- إنه يمكن أن نفترض وجود نكتة هي السبب للتقييد رغم أنه لا مفهوم للوصف وذلك بأن يقال إنَّ عملية التقييد تتم فيما إذا علمنا وأحرزنا وحدة الحكم وأن الحكم الصادر من الشرع واحد غايته أنه صدر بصيغتين ، فنحن نحمل المطلق على المقيد عند العلم بوحدة الحكم الشرعي ، فبعد العلم بوحدة الحكم الشرعي فلابد أن يكون هذا الحكم الواحد إما هو المطلق أو المقيد ومقتضى الجمع العرفي أنه هو المقيد ولو من جهة أنه من عمل بالمقيد ، فبالتالي هو قد عمل بالمطلق بخلاف من عمل بالمطلق وعتق غير المؤمنة فلم يعمل بالمقيّد ، فإذن لعل النكتة ليست هي وجود مفهوم للوصف وإنما النكتة هي مجموع أمرين الأمر الأوّل أنه علمنا أنَّ الحكم الصادر في هذه القضية واحد - ولو أنه من البعيدان يكون الصادر من الشرع ثبوتاً هو حكمان أحدما اعتق رقبة والثاني هو اعتق رقبة مؤمنة فإنَّ هذا بعيد فالصادر هو واحد - فإذا كان الصادر هو واحد فيأتي العرف فيجمع فيقول من علم بالمقيد فقد عمل بالمطلق بخلاف العكس ، هكذا قلز

أو يقال بأنَّ المتكلم غالباً ما يستعمل المطلق ويريد منه المقيد بخلاف العكس يعني هو لا يستعمل المقيد ويريد منه المطلق.

فعلى هذا الأساس النكتة في التقييد ليست هي ثبوت المفهوم للوصف وإنما النكتة هي أنا علمنا بأنَّ الحكم الثابت ثبوتاً واحد وبعد أن كان واحداً فهو إما المطلق أو المقيد ولا يمكن ثبوتهما معاً والعرف يجمع بالتقييد فيقول لابد وأن تعتق المؤمنة إما لأجل أنَّ من اعتق المؤمنة فقد عمل بالمطلق أو لأجل أنَّ المتكلم العرفي قد يستعمل المطلق ويريد منه المطلق لا أنه يستعمل المقيد ويريد منه المطلق ، فلأجل هذا قيل بفكرة التقييد ، فنكتة التقييد لا من باب ان الوصف له مفهوم.

الدليل الثاني:- قد يقال إنه إذا لم يكن للوصف مفهوم يلزم لغوية ذكر القيد ، يعني أنه إذا فرض أن ( اعتق رقبة مؤمنة ليس له مفهوم فلماذا ذكر قيد المؤمنة ، يعني إذا كان يوز عتق أي رقبة ولو غير المؤمنة فذكر قيد المؤمنة سوف يكون لغواً بل يلزم أن يقول من الأوّل ( أعتق رقبة ) ولا يقول ( اعتق رقبة مؤمنة ) ، فمادام قيد مؤمنة ليس له مفهوم فعليك أن تصبّ الحكم على المطلق ، وهكذا في ( أكرم الرجل العالم ) فإنه إذا كان العلم ليس له مفهوم فلماذا تذكر قيد العالم بل عليك أن تقول ( اكرم الرجل ) ولا تقل ( اكرم الرجل العالم ) فصب الحكم على الطبيعي من دون قيد فإنَّ ذكر القيد هنا يصير لغواً وبلا فائدة.

وفيه:- إنَّ هذا وجيه ، يعني لو لم يكن مفهوم يلزم أن يكون ذكر القيد لغواً ، ولكن دفع اللغوية لا يتوقف على ثبوت المفهوم بنحو القية الكلية ، بل يكفي أن يكون ثابتاً بنحو القضية الجزئية ، يعني نسلّم أنه لو كان جميع أفراد الرجل غير العالم إذا كان يجب اكرامه فذكر قيد العالم يكون لغواً ، ولكن هذه اللغوية ترتفع فيما إذا فرضنا أن نصفاً من الرجل غير العالم لا يجب اكرامه والنصف الثاني يجب اكرامه ففي مثل هذه الحالة التقييد بالعالم يكون وجيهاً إذ لو لم يذكر قيد العالم سوف تتصور أنت أنَّ جميع الأفراد يجب اكرامهم والحال أنَّ الجميع لا يجب اكرامهم وإنما يجب اكرام النصف أما النصف الثاني فلا يجب اكرامهم فدفع محذور اللغوية لا يتوقف على أنَّ نثبت المفهوم للوصف بنحو القضية الكلية بل يكفي ثبوت المفهوم للوصف بنحو القضية الجزئية هذا ما أشرنا إليه يسبقاً حيث قلنا إنَّ المفهوم ثابت للوصف بنحو القضية الجزئية وقد أوضحنا ذلك.

الدليل الثالث:- أن يدّعى أنَّ الوجدان العرفي قاضٍ بأن الوصف له مفهوم ، كما إذا قيل ( اكرم الرجل العالم ) أو قيل ( أهن الرجل سيء الخلق ) فهنا نفهم منه المفهوم إذ نفهم أنَّ غير سيء الخلق بجميع افراده لا تهينه مادام ليس سيء الخلق هذا نفهمه بالوجدان العرفي فإذن الوصف له مفهوم.

وفيه:- نحن لا ننكر ثبوت المفهوم أحياناً إذا فرض وجود قرينة ولو كانت تلك القرينة هي مناسبات الحكم والموضوع ، ونقول هنا توجد قرينة وهي أنسيء الخلق لا يتناسب مع الاحترام والتقدير والاكرام أما أي فرد مادام ليس بسيء الخلق فحينئذٍ لا تهنه والاهانة تختص بسيء الخلق ، فهذه قرينة موجودة ولو كانت القرينة هي مناسبات الحكم والموضوع ونحن كلامنا هو في حالة فقدان القرينة ونفس الكلام نقوله في مثال ( أكرم الرجل العالم ) إذا شعرنا بوجود المفهوم فلعل المنشأ أنَّ حيثية العلم وحدها هي التي تتناسب مع الاكرام أو أنَّ الاكرام فقط وفقط يتناسب مع حيثية العلم دون بقية الحيثيات فإذا لم يكن عالماً فمهما كان فإكرامه ليس بلازم ، فإذا كان هناك مفهوم في ( أكرم الرجل العالم ) فعله لأجل مناسبات الحكم والموضوع ، فنحن لا ننكر ثبوت المفهوم للوصف أحياناً إذا كان هناك قرينة ولو كانت تلك القرينة هي مناسبات والموضوع والمفهوم إذا كنا نشعر به في هذين المثالين وما شاكلهما فهو ناشئ من هذه القرينة ولو القرينة الخفية التي نحن قد لا نشعر بها تفصيلاً أعني مثل مناسبات الحكم والموضوع.

وبهذا نختم كلامنا عن مفهوم الوصف ، بل بذلك نختم كلامنا عن بحث المفاهيم فإنَّ هناك مفاهيماً أخرى ذكرت وبحث ولكني لا أرى داعياً إلى بحثها.

 

العام والخاص

هناك أبحاث ذكرها الأصوليون في الكفاية مثلاً في العام الخاص من قبيل ما هي حقيقة العموم وما هي أقسامه من العموم البدلي والمجموعي والاستغراقي ... وأبحاث أخرى من هذا القبيل ، فهذه أبحاث لا داعي إليها أيضاً ، ونحن نحاول أن نأخذ المقدار المهم منها.

البحث الأوّل:- حجية العام المخصّص في الباقي.

المعروف أنَّ العام بعد تخصيصه هو حجة في الباقي.

بيد أنه ربما ينسب إلى بعض التشكيك في ذلك لبعض الشبهات:-

من قبيل:- أنَّ العام إذا خصص فاستعماله يصير مجازاً واستعماله في تمام الباقي كاستعماله في الأقل من تمام الباقي ، فالكل مجاز ولا مرجّح لمجازٍ على مجاز ومجرد كون التسعين التي هي تمام الباقي مثلاً اقرب إلى المائة التي هي جميع أفراد العام هذه أقربية لا تصلح للترجيح فإنها أقربية عددية وليست أقربية عرفية ، هذه شبهة قراناها في المعالم.

ولكن في مقابل هذا:- يمكن أن ندّعي أنَّ السيرة العقلائية منعقدة جزماً على التمسك بالعام بعد التخصيص ولا يمكن التشكيك في مثل هذه السيرة.

ولكن قد يخطر إلى الذهن:- أنه إننا نسلّم بهذه السيرة ولكن كيف ندفع شبة أنَّ العام بعد التخصيص يكون استعماله مجازياً ، وحيث لا مرجّح لمجازٍ على مجاز لا مثبت لكون المراد منه تمام الباقي ؟ فكيف تدفع هذه الشبهة ؟

ومن الواضح أنه يوجد جواب صحيح لكنه لا ينهي التساؤل:- وهو أنه مادام السيرة قد انعقدت على التمسّك بالعام بعد التخصيص فلماذا تعير لهذه الاشكالات أهمية ؟! بل المهم أنه توجد سيرة عقلائية ممضاة ، فهي سيرة موجودة من زمن الأئمة عليهم السلام ، فإنَّ العمومات الصادرة في الكتاب والسنَّة أكثرها إن لم تكن كلّها قد خُصِّصت وهذا العام بعد التخصيص ألم يكن الأصحاب يتمسّكون به ويستفيدون منه ؟! فإذا قلنا هو ليس حجة في الباقي يعني أنهم لم يكونوا يتمسّكون به ، يعني سوف تصير كل هذه العمومات بلا فائدة وهذا باطل جزماً ، فالعقلاء والمتشرعة في زمن المعصومين كانوا يتمسّكون بالعام المخصَّص جزماً وإلا يلزم لغوية كل العمومات ، ومادام المتشرعة يتمسّكون في زمن المعصوم بالعمومات فحينئذٍ تمسَّك بالعام واترك هذه الشبهة.

ويمكن أن نقول في مقام الدفاع:- صحيحٌ أنَّ الاستعمال في تمام الباقي هو مجاز ، ولكن نقول: إنَّ هذا المجاز - أي الاستعمال في تمام الباقي - له مرجّح لا لأنه أقرب إلى المائة بل لقرينةٍ عقلائية أخرى تعيّنه وهي أنَّ نفس إخراج هذا المقدار مع السكوت عن اخراج غيره هو قرينة عقلائية على أنَّ المتكلّم يريد تمام الباقي ، إذ لو لم يرد تمام الباقي لأخرج قسماً ثانياً منه كما أخرج قسماً أوّلاً منه ، فعدم اخراج مجموعة ثانية والاقتصار في الاخراج على عنوان معيّن وهو اخراج الفسّاق فقط من العام نفسه يكون قرينة عرفية على أنه يراد من العام تمام الباقي وإلا لأخرج منه غير الفسّاق كما أخرج الفسّاق ، فإذن هذا صار مرجّحاً لإرادة هذا النحو من المجاز ، فإنَّ هذا بنفسه قرينة على إرادة هذا المجاز وهو إرادة تمام الباقي.