الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

38/06/12

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مفهوم الوصف - المفاهيم.

مفهوم الوصف

لا إشكال في أنَّ اللقب لا مفهوم له ، وإنما وقع الكلام في الوصف وأنه هل له مفهوم أو ليس له مفهوم ؟ ولعلّ المعروف أنه لا مفهوم له خصوصاً إذا لم يعتمد على موصوفٍ فإنه يكون أشبه باللقب.

وما هو الفارق بين الوصف واللقب ؟

والجواب:- إنه ما كان ركناً ومقوّماً للكلام[1] مثل ( قام زيد ) فكلمة ( قام ) وحدها من دون ( زيد ) يكون كلاماً ناقصاً ، وكذلك كلمة ( زيد ) من دون ( قام ) يكون كلاماً ناقصاً ومختلاً أيضاً ، فما كان من هذا القبيل فهو ركنٌ وعمدة في الكلام ، وهذا ما يصطلح عليه باللقب ، أما ما كان ليس ركناً في الكلام فهذا يمكن أن نعبّر عنه بالوصف ، كما لو قلت ( جاء رجل طويل ) ، فكلمة ( طويل ) ليس ركناً وعمدةً فإننا لو حذفناها من الكلام فالكلام سوف يكون تاماً من دونها ، فهذا ليس لقب وإنما هو وصف ، ومن الواضح أنه فيما إذا كان يتضمن معنى الوصفة مثل كلمة ( طويل ) فهو يتضمّن معنى الوصفية ، وليس مقصودنا من معنى الوصفية يعني في النحو فإننا قد لا نعربه في النحو وصفاً بل هو يختلف ، مثل ( جاء الرجل ماشياً ) فكلمة ( ماشياً ) يعرب حالاً ولكنه يدلّ على وصفٍ ، فإذا كان يدل على وصفٍ ولم يكن عمدة في الكلام فهذا يدخل تحت الوصف ، وأما إذا كان عمدةً وركناً في الكلام فهذا لقب ، نعم اللقب أحياناً ربما يتضمّن معنى الوصف ، فهو ركنٌ ولكنه يتضمّن معنى الوصف ، كما لو قيل ( جاء العالم ) فالعالم هو ركن لكنه يتضمن معنى الوصف ، فهذا هل نلحقه باللقب أو ندخله تحت الوصف فهو ركنٌ فهو من هذه الناحية يصير أشبه باللقب ، ومن ناحية أخرى يتضمّن معنى الوصفية فيصير وصفاً ؟ لكنه يقال هو أقرب إلى اللقب مادام يتضمّن معنى الوصفية ، نعم إذا كان معتمداً على موصوفٍ كما لو قلت ( جاء الرجل العالم ) فإنَّ الركن والعمدة في الكلام هو ( الرجل ) و ( العالم ) ليس بركنٍ فيه ويتضمن معنى الوصفية فهذا يعدّ وصفاً.

فإذن نحن نفرّق بين ما إذا قلت ( جاء العالم ) أو قلت ( جاء الرجل العالم ) ، فإذا قلت ( جاء العالم ) فهذا أقرب إلى اللقب لأنّ هذا ركنٌ لم يعتمد على موصوف ، وأما إذا قلت ( جاء الرجل العالم ) فالعالم ليس ركناً في الكلام فيكون من باب الوصف ، فإذن صار الفارق بينهما واضحاً.

وقد انفقت الكلمة على أنَّ اللقب لا مفهوم له والوجدان ببابك ، فحينما تقول ( جاء زيد ) فـ( جاء ) هو ركنٌ يكون لقباً ، و( زيد ) هو ركن فهو لقب ، والاثنان ليس لهما مفهومٌ ، فلا نستفيد من ( جاء زيد ) أنه لم يأكل أو لم ينم ، فهو لم ينفِ الأوصاف الأخرى ، بل أقصى ما يدل عليه هو أنه جاء أما نفي الأوصاف الأخرى فلا دلالة فيه على نفيها ، وكذلك كلمة ( زيد ) لا نفهم منها أن غير زيد لم يجئ ، بل أقصى ما نفهم أنَّ زيداً جاء ، فلا مفهوم لكملة ( جاء ) التي هي الركن الأوّل يعني لا تدل على أنه لم يتحقق من زيدٍ غير المجيء من أكلٍ أو نومٍ أو دراسةٍ ، كما أنه من ذكر كلمة ( زيد ) -التي هي اللقب الثاني - لا نفهم أنَّ المجيء منحصر بزيدٍ وأما غير زيد فلم يجئ ، فلا نستفيد هذا من اللقب الأوّل ولا من اللقب الثاني.

ولا يبعد أن نكتة عدم استفادة المفهوم:- هي أنَّ ( جاء زيد ) أقصى ما فيه هو اثبات شيءٍ لشيء وهو اثبات المجيء لزيد ، واثبات شيءٍ لشيء ليس فيه دلالة على نفي ما عداه عن زيد أو نفي غير زيد عن المجيء.

ولكني استدرك وأقول:- أجل قد تقوم قرينة خاصة على أنَّ المفهوم ثابت حتى في اللقب ، كما لو قيل ( من جاء هذا اليوم إلى المجلس الفلاني ؟ فأقول:- جاء زيد ) فنفهم من ذلك أنَّ غير زيد لم يجئ ، ولكن هذه قرينة خاصة لأنَّ السؤال نفسه يصير قرينة خاصّة على المفهوم ، ولكن هذا دعنا عنه.

إذن حتى اللقب أحياناً قد يدلّ على المفهوم إذا فرض أنه قامت قرينة على ذلك ، ولكن الطابع العام هو أنه لا مفهوم له وهذا شيء وجداني ، وإما إذا كان له مفهوم فكلّ كلامنا سوف يصير له مفهوم ، فإذا قلت ( اليوم أكلت خبزاً ) فلابد أن يصير له مفهوم وهو أنك لم تصنع شيئاً غير الأكل والحال هل أحد يفهم هكذا ؟!! ، وهكذا لا يفهم من ( أكلت الخبز ) أنَّ غير الخبز لم يأكل شيئاً ؟!! ، فإذا كان اللقب له مفهوم فيلزم أن يكون كل كلامٍ صادر من أيّ إنسان الأصل الأوّلي له هو ثبوت المفهوم ، يعني الأصل الأوّلي هو ثبوت المفهوم إلا إذا قامت القرينة على الخلاف ، وهذا مخالفٌ للوجدان ، فاللقب إذن لا مفهوم له بلا إشكال.

أنما الكلام في الوصف:- والوصف كما قلنا على نحوين ، وصفٌ معتمد على موصوف ، ووصف غير معتمد على موصوف ، فإذا قلت ( جاء الرجل العالم ) فهذا معتمد على موصوف ، أما إذا قلت ( جاء العالم ) فهذا لم يعتمد على موصوف ، فإذا لم يكن يعتمداً على موصوف فقد قلنا هو أقرب إلى اللقب بل هو هو ، أما إذا كان معتمداً على موصوفٍ فهنا وقع الكلام في أنه له مفهوم أو ليس له مفهوم وقد قلنا إنَ المعروف أنه ليس له مفهوم.

وينبغي أن يكون المحكّم في هذا المجال هو الوجدان ، نعم الآن أنت تأتي إلى مرحلة أعمق وتقول لماذا يكون المحكّم هو الوجدان ؟ ولكن هذا كلام ومناقشة ما بعد الوقوع ، فبعدما وقع الشيء وحكّم الوجدان هكذا نأتي ونناقش أنه لماذا هو المحكّم ، ولكن نقول:- إنه بعد أن قضى الوجدان بذلك فلا حاجة إلى المناقشة ، فإذا حكم أنه لا نستفيد المفهوم فنأخذ به ولا حاجة إلى المناقشة ، وإذا حكم بأنه له مفهوم فنأخذ به أيضاً ونقول له مفهوم كما في الجملة الشرطية إلا إذا قامت قرينة على عدم وجود المفهوم فيها ، فعليك في باب المفاهيم الأخذ بالوجدان لأنها ظواهر والظواهر تتبع الوجدان ولا تتبع الدليل.

ولكن إذا أردنا أن نُلبِس الوجدان لباس البرهان فنقول:- إنَّ النكتة في أنَّ الوصف لا مفهوم له هي أنَّ الوصف عادة يكون قيداً للموضوع ، فالموضوع بعدما كان وسيعاً فسوف يتضيّق أما الحكم فهو لم يقيّد بقيدٍ وإنما انصبّ على الموضوع الضيّق ، والمفهوم من شؤون تقييد الحكم ، لأنك تريد أتنفي الحكم وليس من شؤون تقييد الموضوع ، فإذا ضيّقنا الموضوع الحكم لم نقيده ، نعم تضيّقت دائرة موضوعه فصار الحكم ضيّقاً بسبب ضيق موضوعه لا أنه قد قيّد وضيّق ، فهو لم يقيّد ولم ويضيّق ، فالموضوع هو الذي ضيّق وحدّد وقيّد ، ومن المعلوم أنه مادام الحكم لم يقيّد وإنما مجرّد انصبّ على الموضوع الضيّق فلا يمكن أن نستفيد المفهوم فإنَّ المفهوم من شؤون تقييد الحكم والمفروض أنَّ الحكم ليس بمقيّد ، نعم لو فرض في موردٍ من الموارد أنَّ الوصف كان قيداً للحكم فهنا يمكن أن يقال بثبوت المفهوم ، ولكنه عادةً هو قيد للموضوع ، فالموضوع يتضيّق من دون أن يقيّد الحكم فلا يستفاد آنذاك المفهوم ، فالنكتة إذن في عدم استفادة المفهوم من الوصف هي ما أشرنا إليه من أنَّ القيد لا يرجع إلى الحكم.

ونلفت النظر إلى شيء:- هو أنه إذا فرض أنَّ الوصف رجع كقيدٍ إلى الحكم فلأجل ثبوت المفهوم نعتبر قيداً ثانياً وهو أنَّ يكون المقيّد هو طبيعي الحكم لا شخص الحكم وإلا كما تقدم أنَّ المفهوم هو انتفاء الطبيعي لا انتفاء شخص الحكم ، فإنَّ انتفاء شخص الحكم ليس بمفهوم وإنما المفهوم هو انتفاء الطبيعي فإنه لابد من إضافة هذا القيد ، وهذا مطلب واضح.

بيد أنه ربما يشكل مشكل كما أشكل السيد الروحاني(قده)[2] بناءً على مبنىً للشيخ النائيني(قده):- فالشيخ النائيني(قده) عنده رأي يقول فيه ( موضوعات الأحكام شرط لها وشروط الأحكام موضوعات لها ) ، فالحج مثلاً وجوبه مشروط بالاستطاعة ، فالاستطاعة موضوع للوجوب ، فهي تصير موضوعاً واقعاً للوجوب ، يعني يصير الوجوب منصبّاً على المستطيع ، فصورةً وشكلاً جعلت الاستطاعة شرطاً ولكن روحاً وواقعاً هي موضوع ، وإذا قيل ( أكرم العالم ) فالموضوع لوجوب الاكرام هو العالم وهو شرطٌ بحسب الحقيقة والواقع لأنَّ المقصود هو أنه ( أكرم إذا كان الشخص عالماً ) فهو بحسب الحقيقة واللّب والواقع شرطٌ وإن كان قد أُخِذَ بالصورة والشكل موضوعاً ، فلذلك هذه قاعدة وجدانية وهي ( أنَّ شرائط الأحكام موضوعات لها وموضوعات الأحكام شرائط موضوعات لها ) ، إنه بناءً على هذه القاعدة أشكل السيد الروحاني(قده) وقال:- إذا كان الموضوع هو شرط للحكم فعلى هذا الأساس أنَّ الوصف وإن كان قيداً للموضوع فحينما تقول ( أكرم الرجل العالم ) فالعالم وإن كان قيداً للموضوع ولكن بالتالي سوف يصير الموضوع ( رجل وعالم ) ، وحيث إنَّ العالم هو موضوع فسوف يصير شرطاً للوجوب - الحكم - ، فصار الوجوب مشروطاً بالعالم ، فإذن كلّ حكم صار مشروطاً بالوصف.

فنحن كنا نقول:- إنه لا مفهوم لأجل أنَّ الوصف يرجع إلى الموضوع ولا يرجع إلى الحكم والذي يثبت المفهوم هو القيد الراجع إلى الحكم ، لكن السيد الروحاني(قده) يقول:- أنا أقول إنَّ كل وصف هو راجع إلى الحكم على مبنى الشيخ النائيني(قده) لأنه يقول ( موضوعات الاحكام شرائط لها ) ، فـ( الرجل العالم ) صار موضوعاً ، وإذا صار موضوعاً فصار شرطاً للحكم فيلزم ثبوت المفهوم.


[1] وبتعبير آخر:- عمدة وفضلة، فالعمدة هو الركن الذي لا يتم الكلام من دنه، أما الفضلة فهو الذي يتم الكلام من دونه.
[2] منتقى الأصول، السيد عبد الصاحب الحكيم، ج3، ص277.