الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

38/05/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: التنبيه الأوّل - تنبيهات – المفاهيم.

التقريب الخامس:- ما ذكره الشيخ النائيني(قده)[1] وحاصله:- إنَّ تقييد الجزاء - يعني وجوب الاكرام مثلاً - بالشرط الواحد يختلف عن تقييده بأكثر من شرط واحد - يعني بأحد شرطين - فهما من حيث السنخ والماهية مختلفان هذا التقييد عن ذاك التقييد ، ومقتضى الاطلاق عند الشك في أنَّ الجزاء متقيد بشرط واحد أو بشرطين أنَّ المراد هو تقييد الجزاء بالشرط الواحد وليس بأحد شرطين.

وهو كما ترى كلام مركّب من مقدمتين صغرى وكبرى ، الصغرى هي أنَّ تقييد الجزاء بالشرط الواحد يختلف عن تقييده بأحد شرطين ، وأنا إذا أردت أن أعبّر فكأنه يريد أن يقول إنَّ الشرطية تختلف والسببية تختلف بين ما إذا كان السبب واحداً وبين ما إذا كان السبب متعدداً ، فالعلية تختلف والارتباط يختلف ، فارتباط الجزاء بالرط الواحد يغاير ارتباط الجزاء بأحد السببين ، فنفس الارتباط يختلف ونفس السببية تختلف ، هذه هي الصغرى ، وأما الكبرى فهي أنَّ الاطلاق يعيّن الشرطية الأولى والتقيد الأوّل - وهو أنَّ الجزاء متقيد بشرط واحد وليس بأحد شرطين - في مقابل التقييد الثاني ، ولكنه لم يبيّن لماذا هذا ؟

وكأنه يريد أن يقول:- إنَّ تقييد الجزاء بأحد شرطين فيه مؤونة ثبوتية أكثر ، فإذا كان فيه مؤونة ثبوتية أكثر فعدم المؤونة الاثباتية دليل على عدم المؤونة الثبوتية ، يعني يكون دليلاً على أنَّ المقصود هو التقييد بالنحو الأوّل - يعني بالشرط الواحد - ، هذا توضيح ما أفاده(قده).

ويردّه:- إنَّ الشرطية والسببية لا تختلف باختلاف كون الشرط واحداً أو متعدداً ، فنحو الشرطية وسنخها واحد ولا يختلف ، نعم الاختلاف يكون في طرف السببية فطرف السببية قد يكون واحداً وقد يكون أكثر من واحد لا أنَّ السببية تختلف ، فإذا فرض أنه كان عندنا مدفأة كهربائية فوف تؤثر في حرارة الغرفة فإنَّ الغرفة سوف تصير حارة ، فهل نفس التأثير والسببية تختلف فيما إذا فرضنا أن المدفأة كانت واحدة وبين ما إذا فرضنا أنهما كانتا اثنتان ؟ فهل نفس التأثير يختلف أو أنه يبقى واحداً وإنما الاختلاف هو في طرف التأثير فطرف التأثير تارةً يكون واحداً وأخرى يكون أكثر من واحد ؟ فالسببية نتمكن أن نقول هي واحدة لا تختلف بتعدّد السبب أو بتعدّد الشرط بل سنخها وحقيقتها وماهيتها واحدة لا أنَّ ماهية الشرطية تختلف بين ما إذا كان الشرط واحداً وبين ما إذا كان متعدّداً ، كلا وإنما الاختلاف يكون في طف الشرطية لا في نفسها.

ثم لو تنزلنا وقلنا إنَّ الشرطية تختلف حقيقةً ففي الفلسفة أثبتوا في مثل هكذا مورد أنَّ الشرطية والسببية تختلف بتعدّد الشرط وبوحدته ، فسلّمنا أنَّ الشرطية تختلف بتعدد الشرط وبوحدته ولكن حينما نريد التمسّك بالاطلاق فلابد وأن نفترض أنَّ اختلاف السببية اختلاف عرفي وليس اختلافاً دقّياً ، لأنَّ مقدّمات الحكمة والاطلاق قضية عرفية وليست قضية دقّية ، فنسلّم لك في الفلسفة وفي الفيزياء- إن صح التعبير - أنَّ نحو الشرطية يختلف ولكن هذا اختلاف دقي وليس اختلافاً عرفياً والاطلاق ومقدّمات الحكمة هي قضايا وقواعد عرفية لا دقّية والعرف لا يطبّق هذه القواعد إلا إذا كان الاختلاف اختلافاً عرفياً ولا يكفي الاختلاف الدّقي الفلسفي .

فإذن ما أفاده قابل للمناقشة.

التقريب السادس:- التمسّك بفكرة الاطلاق المقامي ذلك بأنَّ يقال:- إنَّ المتكلم حيث إنه في مقام البيان ولم يعطف بكلمة ( أو ) أي لم يقل ( إذا جاءك زيد أو كان فقيراً فأكرمه ) دل ذلك على أنَّ الشرط واحد لأنه في مقام بيان الشرائط وقد سكت عن العطف بـ( أو ) فيدل على أنَّ الشرط واحد وليس بمتعدّد ، وبذلك ثبتت العلّية الانحصارية في هذا الشرط.

وقبل أن نناقش نسأل ونقول:- لماذا قلنا إنَّ هذا إطلاق مقامي وليس إطلاقاً لفظياً ؟

الجواب:- إنَّ الاطلاق اللفظي يفترض فيه وجود لفظٍ يدل على مفهوم وذلك المفهوم له حصّتان فإذا لم يقيّد بإحدى الحصتين يفهم أنَّ المقصود هو المفهوم الوسيع ، مثل لفظ ( رقبة ) فهو يدل على مفهوم الرقبة ولها حصّة مؤمنة وحصّة كافرة وحيث لم تقيّد بالمؤمنة فيدل ذلك على إرادة مطلق الرقبة ، وهذا ما يعبّر عنه بالاطلاق اللفظي لأنَّ الفظ مطلق أو نعبّر عنه بالاطلاق المفهومي ، وأما إذا فرض أنه لا يوجد عندنا مفهوم نتمسّك بإطلاقه فلا يوجد مفهوم قابل للتوسعة والتضييق فإذا أردنا أن نتمّسك بالاطلاق فهذا يقال له إطلاقٌ مقامي من قبيل ( ألا أحكي لكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله )[2] وأخذ الامام عليه السلام يبيّن ذلك ولكنه لم يبيّن قضية المضمضة مثلاً أو لم يبيّن شيئاً آخر فنقول إنَّ مقتضى الاطلاق عدم وجوب هذا الذي لم يبيّنه ، وهذا اطلاق مقامي وليس لفظياً لأنه لا يوجد لفظ حتى تتمسّك به ولا يوجد مفهوم صالح لأن يتمسّك به وإنما يوجد إطلاق مقامي ، فنقول هو في مقام بيان الأجزاء والشرائط وحيث إنه لم يذكر هذا فهو دلّ على عدم شرطيته ، وهنا أيضاً كذلك فالمتكلّم حينما قال ( إذا جاء زيد فأكرمه ) فهو لم يقل ( إذا جاء زيد أو كان هاشمياً فأكرمه ) فهنا هذا الاطلاق ليس لفظياً إذ لا يوجد لفظ وسيع قابل للتوسيع والتضييق حتى نتمسّك بإطلاقه ، فلا يمكن التمسّك بلفظ ( إذا ) أو لفظ ( كان ) أو لفظ ( جاءك ) ، فلا يمكن التمسّك بمفهوم هذه الألفاظ فإنَّ هذه المفاهيم لا نريد أن نضيّقها ، فـ ( إذا كان مريضاً ) ليس قيداً لمفهوم ( جاءك ) فإن هذا مضحك للثكلى ، وليس هو قيد لمفهوم ( كان ) وليس قيداً لمفهوم ( فقير ) وإنما قل هو في مقام بيان الشرائط ولم يذكر هذا الشرط وهذا اطلاق مقامي ، فتعال نتمسّك بالاطلاق المقامي.

وجوابه:- إنه تام من حيث الكبرى ، يعني نسلّم أنَّ المولى إذا كان في مقام بيان الشرائط ولم يذكر أن كونه مريضاً أو فقيراً من جملة الشرائط واقتصر على المجيء دلّ ذلك على الانحصارية ، فالكبرى صحيحة إذا كان في مقام بيان الشرائط فسكوته يدل على أن الشرط فقط هو هذا ، ولكن الكلام في الصغرى ، فهل المتكلّم عادةً هو في صدد بيان أي شيءٍ هو شرط وأي شيءٍ هو ليس بشرط ؟ ليس من المعلوم إنه في مقام البيان من هذه الناحية ، فإنَّ الصغرى ليست محرزة ، إلا اللهم أنت كنت في مقام تريد أن تبيّن ذلك ولكن عادةً اثبات هذا صعب جداً ، فإذا كنت مطمئناً من أنَّ المتكلم عادةً يكون هو في مقام البيان من ناحية كلّ الشرائط لا من ناحية المجيء فقط فالأمر كما تقول فنتمسّك بالاطلاق المقامي ، إلا أنه لم يثبت أنَّ المتكلّم عادةً يكون في مقام البيان من ناحية كلّ الشرائط ، بل لعلّ بقيّة الشرائط غائبة عنه.

ومن خلال هذا كلّه اتضح أنَّ التقريب الصحيح لإثبات العلّية الانحصارية لإثبات المفهوم هو التمّسك إما بالتقريب الأوّل أو بالتقريب الثاني ، يعني إما بأن نقول الجملة الشرطية موضوعة للعلّية الانحصارية بشهادة التبادر ، أو نقول هي موضوعة للتوقف ، والاشكال الذي أورد بأنَّ الاستعمال سيكون مجازياً في حالة عدم انحصار العلّة ونحن لا نشعر به ، فقد اجبنا عنه بما تقدم ولا نكرر.

تنبيهات:-

التنبيه الأول:- إذا كان الجزاء في الشرطية سالبة كلّية فهل المفهوم يكون موجبةً جزئية أن يكون موجبة كلّية بناءً على ثبوت المفهوم للشرطية ؟ مثل ( إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجسه شيء )[3] فـ ( لا ينجسه شيء ) سالبة كلية يعني إذا كان عندنا ماء بمقدار كرّ لا يتنجس بالبول ولا بالدم ولا بالميتة ولا بالمتنجّس ولا بغير ذلك فهو بنحو السالبة الكلّية ، وماذا يصير مفهومه ؟ إنَّ مفهومه يصير موجيةً ولكن هل هي موجة كلّية يعني إذا لم يبلغ قدر الكرّ وأصابه متنجّس مثلاً فهل يتنجس أو لا ؟ فإذا قلنا إنَّ مفهوم هذه السالبة الكلّية موجبة كلّية يعني يصير المعنى ( إذا لم يبلغ الماء قدر كرٍّ فينجسه كلّ شيء ) وواحد من الشيء هذا المتنجّس وسوف يثبت أنَّ المتنجّس ينجّس بمقتضى الرواية ، أما إذا قلنا إنَّ المفهوم موجبة جزئية يعني بتعبيرٍ آخر ( إذا لم يبلغ الماء قدر كرٍّ فليس لا ينجسه أيّ شيء وإنما يتنجّس في الجملة لا بالجملة ) ، وحيث إنَّ ( في الجملة ) مجمل فالقدر المتيقن منه هو الأعيان النجسة ، وحيث إنَّ القدر المتيقن هو عين النجاسة فلا يمكن أن نثبت بهذه الرواية أنَّ المتنجّس ينجّس الماء القليل . هذه ثمرة لهذا البحث.

ونذكر مثالاً آخر:- وهو إنه يوجد عندنا في باب الصلاة أنَّه يلزم على المرأة أن تغطّي رأسها وبدنها ، ولكن ما هو الحكم في القدمين فهل يجوز اظهارهما في الصلاة فهل توجد رواية تثبت ذلك ؟ إنه لا توجد رواية تثبت أنه يلزم ستر القدمين إلا رواية واحدة ولكن من الصعب التمسّك بها ، وهي معتبرة عليّ بن جعفر ، ونصّها:- ( سأل أخاه موسى بن جعفر عليه السلام عن المرأة ليس لها إلا ملحفة واحدة كيف تصلّي ؟ قال:- تلتف بها وتغطي رأسها وتصلّي فإن خرجت رجلها وليس تقدر على غير ذلك فلا بأس )[4] ومفهومها سوف يصير ( أنها إذا كانت تقدر ففيه بأس ) ، ولكن هل فيه بأس حتى بلحاظ القدم ظهراً وبطناً أو أنه فيه بأس بلحاظ الساق ؟ إنَّ القدر المتيقّن منه هو الساق والفخذ أما أنه حتى كفّ القدم فيه بأس فلا ، يعني لو كانت بنحو الموجبة الكلّية يعني فيه بأس بلحاظ كلّ أجراء الرِجل بما في ذلك كفّ القدم فسوف يثبت أنّ كفّ القدم يجب ستره إذا تمكنت من ذلك ، وأما إذا قلنا إنَّ المفهوم هو موجبة جزئية يعني فيه بأس في الجملة والقدر منه الفخذ والساق أما كفّ الرجل فليس قدراً متيقناً فلا مثبت لوجوب ستره.


[1] أجود التقريرات، الخوئي، ج1، ص419.
[2] وسائل الشيعة، العلامة الشيخ حرّ العاملي، ج1، ص391، أبواب الوضوء، ب15، ح9، ط آل البیت.
[3] التنقيح في شرح العروة الوثقى، السيد أبوالقاسم الخوئي - الشيخ ميرزا علي الغروي، ج2، ص61.
[4] وسائل الشيعة، الشیخ الحر العاملي، ج4، ص405، أبواب لباس المصلي، ب28، ح2، ط آل البيت.