الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

38/05/03

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:التنبيه الخامس تنبيهات

اللباس المشكوك:-

ثم إنَّ الشيخ النائيني(قده)[1] [2] ذكر أنه لو كان لدينا لباس مشكوك أنه حرير أو ليس بحرير والمكلف ليس بمضطر إلى لبسه ، أو شككنا أنه من أجزاء حيوان مأكول اللحم أو من حيوان لا يؤكل لحمه كما لو علمنا أنَّ هذا الحزام من جلد حيوان ولكن شككنا أنه من حيوان مأكول اللحم أو لا ، أو كان يوجد خاتم وشككنا أنه من نحاس أو من ذهب ، ففي مثل هذه الحالة هل نتمكن أن نجري أصل الحلّية ونقول ( كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام ) وبذلك يثبت أنَّ هذا الحيوان حلالٌ أكله وحينئذٍ لا بأس بلبس جلده ؟ ، وهكذا أيضاً القماش المشكوك أنه حرير أو لا حلالٌ لبسه لهذه القاعدة ، وكذلك الحال في الذهب.

والسؤال:هل يجدي تطبيق هذه القاعدة الأصل أو لا ؟

أجاب وقال:إنه يمكن أن يقال إنَّ هذا لا يكفي ، لأنَّ الحلّية هنا حلّية ظاهرية وليست حلّية واقعية ويلزم في الملبوس في باب الصلاة أن يكون من حيوانٍ حلال أكله واقعاً ، يعني من جنس البقر أو الجمل وغيرهما ، فالحلّية الظاهرية إذن لا تكفي لأنها لا تثبت أنَّ هذا الحيوان حلال واقعاً ، وكذا إذا شككنا أنَّ هذا ذهب أو ليس بذهب فهذه القاعدة أقصى ما تثبته أن هذا حلال ظاهراً أما أنه ليس بذهب وبالتالي هو حلال واقعاً فهذا لا يثبت إذ لعلّه يكون ذهباً لكن قاعدة ( كل شيء لك حلال ) تثبت أنَّ هذا حلال ظاهراً ، وهكذا لو شككنا أنَّ هذا القماش حرير أو لا فهذه القاعدة لا تثبت لنا أنَّ هذا حلال واقعاً وبالتالي هو ليس بحرير بل تثبت لنا أنَّ هذا حلال ظاهراً.

والخلاصة:هي أنَّ أصل الحلّية أقصى ما يثبته الحلّية الظاهرية دون الحلّية الواقعية ، والشرط في صحّة الصلاة هو أن يكون اللباس من الحلال الواقعي إمّا بأنه ليس بحريرٍ أو ليس بذهبٍ أو ليس من غير مأكول اللحم فإنَّ هذا هو المقصود.

يبقى أنه لك أن تسأل وتقول:كيف نثبت أنَّ العناوين المأخوذة في جواز الصلاة المأخوذ فيها هو ما كان حلالاً واقعاً ويجوز أكل لحمه واقعاً ولا يكفي جوازه ظاهراً ويجوز لبسه واقعاً لا أنه يجوز ظاهراً ؟

والجواب:إنَّ الدليل حينما يأخذ عنوناً كما لو قال ( لا يجوز الصلاة إلا فيما يحلّ أكل لحمه ) فهو حينما يأخذ الحلّية فظاهرها الحلال الواقعي وإرادة ما يعمّ الحلال الظاهري هو الذي يحتاج إلى دليل ، لأنَّ الحلال الظاهري ليس حلالاً وإنما هو حلال بحكم الشرع ، وظاهر الحلّية هو الحلّية الواقعية ، فعلى هذا الأساس حينما يكون الموضوع هو الحلال الواقعي من باب الأخذ بظاهر العنوان فإنَّ ظاهر العنوان المأخوذ في الدليل هو دائماً ذلك ، فإذن يكون المدار على ما يكون حلالاً واقعاً ، وأصالة الحلّية تثبت الحلّية مادمت لا تعرف الحرمة والتي هي حلّية ظاهرية وليست حلّية واقعية ، فإذن هي لا تجدي شيئاً.

والذي نقوله في مقام التعليق:إنه لو بنيا على أنَّ أصل الحلّية أصلاً تنزيلياً وهذا ليس رداً على الشيخ النائيني(قده) وإنما بيان قضيّة علمية مثل أصل الحلّية ، يعني نزّلت فيه الحلّية الظاهرية منزلة الحلّية الواقعية وهو (قده) قد يمثل للأصل التنزيلي بأصل الحلّية ، فـ( كلّ شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام ) يعني أنَّ كل مشكوك هو منزّل منزلة الحلال واقعاً إلى أن تعرف أنه حرام واقعاً ، فإذا قلنا بأنَّ هذا هو المستفاد منها فيصير أصلاًً تنزيلياً ، وإذا صار أصلاً تنزيلياً فحينئذٍ سوف نرتّب عليه آثار الحلال الواقعي وسوف يثبت أنَّ لحم هذا الحيوان المأخوذ منه هذا الحزام هو بمنزلة الحلال واقعاً ، يعني أن الشارع يقول لي قل هذا حلال واقعاً وبمنزلة الحلال واقعاً ، وعليه فلا معنى للتوقف فإنه حتى لو كان المستند هو أصالة الحلّية فأنت طبق عليه آثار الحلّية الواقعية فألبس الحزام ولا مشكلة فيه ، وهكذا الحال لو شككنا أن هذا حرير أو ليس بحرير فأصل الحلّية يقول لي حلالٌ لبسه واقعاً ، فإذا كان لبسه حلال واقعاً فسوف أرتب عليه آثار الحلّية الواقعية وأنه يجوز لبسه واقعاً ، وعنوان كونه ليس بحرير ليس مهماً والمهم هو أن يكون حلالاً واقعاً ، فإذا قال الشارع هذا حلال لبسه واقعاً كفى ذلك ، فحتى في الصلاة يقول لك حلال لبسه واقعاً ، لأنَّ أصل الحلّية يثبت الحلّية حتى في الصلاة ، وهكذا مشكوك أنه ذهب أو فضة فأصل الحلّية يقول لي هذا حلال واقعاً فرتّب عليه آثار الحلّية الواقعية وعنوان أنه ليس بذهب ليس مهماً بل المهم أنه حلال واقعاً فتثبت بذلك الحلّية الواقعية.

إذن بناءً على أنه أصل تنزيلي سوف نرتّب عليه آثار الحلال الواقعي وبالتالي يجوز لبسه ولا مشكلة فيه.

نعم توجد مشكلة بالسبة إلى الجلد ، فإنَّ اللحم يبقى حلالاً أما الجلد فلا يمكن تطبيق أصل الحلّية عليه لأنه لا يؤكل.

ولكن المهم هو اللحم ، فإذا كان اللحم مأكولاً فالجلد حينئذٍ يجوز لبسه أثناء الصلاة ، فأصل الحلّ لا نطبقه على الجلد وإنما نطبقه على اللحم وبذلك تثبت الحلّية الواقعية للجلد ، فلا مشكلة في لبسه.

ونضيف شيئاً:وهو أنه إذا حصل تأمل في أصل الحلّية وقلنا بأنه ليس تنزيلياً يوجد عندنا أصل ثانٍ يمكن الاستعانة به وهو أصل البراءة عن المانعية ، لأننا نشك أنَّ هذا حرير أو لا وذهباً أو لا ، فإن كان حريراً أو ذهباً فهذا يكون مانعاً من الصلاة ، وهكذا في جلد الحيوان غير مأكول اللحم ، وحينئذٍ نقول: إنَّ المانعية انحلالية ، يعني حينما قال الشرع لا تجوز الصلاة فيما لا يحلّ أكل لحمه يعني أنَّ لبس ما لا يؤكل لحمه مانع وهذه المانعية انحلالية بعدد الأفراد ، فهي في عالم الجعل واحدة ولكن في عالم الفعلية تصير مانعية بعدد أفراد اللحم ، فنشك حينئذٍ في أنَّ هذا فرد من أفراد المانعية أو ليس بفرد وشكنا هذا يلازم في حدوث مانعية جديدة وأنه هل حدثت مانعية جديدة أو لا فنجري أصل البراءة من هذه المانعية الجديدة ، فنشير إلى هذا الجلد ونقول هل هو من حيوان لا يحل أكل لحمه أو لا ؟ فإذا كان مما لا يحلّ أكل لحمه فهذا معناه أنه حدثت مانعية جديدة فنجري البراءة عن هذه المانعية الجديدة المشكوكة وحينئذٍ تجوز الصلاة فيه لأننا نشك في أنَّ الصلاة هل قيّدت بعدم هذا المانع أو لا فإن كان هذا مانعاً فالصلاة تصير مقيّدة بعدمه ، فهنا يوجد شك في أنَّ الصلاة مقيّدة بعدمه أو ليست مقيّدة بعدمه فنجري أصالة البراءة من تقيّد الصلاة بعدمه ، فيثبت بالتالي جواز الصلاة فيه.

وهذا نظير الخمر ، فإنَّ الخمر حرام ، فلو فرض أننا وجدنا إناءً فيه سائل وشككنا أنه خمر أو لا فماذا نفعل في مثل هذه الحالة ؟ إنَّ هذا شك في شبهةٍ موضوعية وشكٌّ في حدوث محرّمٍ جديد ، فإذا كان أفراد الخمر مائة فسوف تصير مائة حرمة فعليّة ، فإذا ازادت واحداً فسوف تصير مائة وواحد ، فتنحلّ تلك الحرمة على العنوان الواحد إلى حرمات متعدّدة بعدد الأفراد فنجري أصل البراءة عن الحرمة الجديدة ، ولذلك لو شككنا في أنَّ هذا خمر أو لا فنقول إنَّ هذه شبهة موضوعية فنجري أصل البراءة ولا مانع من ذلك.

لا أن يقول قائل:إنَّ الحرمة هي منصبّة على الخمر وأنا يحرم عليَّ شرب الخمر والاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني والفراغ اليقيني يحصل بان أترك المشكوك ؟

والجواب ما ذكرناه:وهو أنَّ تلك الحرمة الثابتة على الخمر في عالم الجعل هي حرمة واحدة بلا إشكال لكنها تنحل في عالم الخارج بعدد أفراد الموضوع ، فلو فرضنا أنَّ هذا خمر فله حرمة ، وإذا كان ذاك خمر فله حرمة.

ولو قلت:ما هو دليلك على أنه توجد حرمات متعدّدة بعدد الأفراد ؟

قلت:إنك أيضاً تعترف بذلك وجداناً ، فلو فرض أنَّ شخصاً شرب الخمر فسوف نعاقبه على ذلك ، فلو شربه مرة أخرى بعد ساعة أو ساعتين فسوف نعاقبه مرة أخرى ، فلو كانت الحرمة واحدة لماذا نعاقبه مرة ثانية ؟! إنَّ هذا يدل على أنه ارتكب حرمة ثانية ... وهكذا ، فإذن تتعدّد الحرمات بتعدّد الموضوع ، وهذا شيء وحداني عقلائي.

فإذن كما نقول في مثال الخمر نقول بالانحلال في مسألة الحرير ، فإذا كانت أفراد الحرير مائة فتوجد مائة مانعية ، يعني لا تصلِّ صلاةً في هذا الفرد من الحرير ولا تصلِّ صلاةً في هذا الفرد الثاني ... وهكذا ، فلو جاءنا لباس نشكّ في أنه حرير أو لا فهنا سوف نشك أنه هل الصلاة مقيّدة بأن لا تلبس هذا اللباس أو لا فإن كان حراياً فهي مقيّدة بعدمه وإن لم يكن حريراً فهي ليست مقيّدة بتركه ، فالصلاة جزماً مقيّدة بترك تلك الأفراد من الحرير الجزمية أما هذا اللباس هل هي مقيدة بعدمه أو لا ؟ إنَّ هذا شكّاً في تقييدٍ زائد فنجري البراءة من التقييد الزائد.

وهكذا بالنسبة إلى الذهب وإلى ما لا يؤكل لحمه ، تنحلّ المانعية بعدد أفراد الموضوع خارجاً وعند الشك في أنَّ هذا مانع أو ليس بمانع يحصل شك في تقييد جديد فنجري البراءة عن هذا التقييد الجديد وبذلك تجوز الصلاة ، ولذلك يقول بعض علمائنا بهذا الشيء وهو أنه لو شككت في أن هذا الحزام من حيوان يؤكل لحمه أو لا قالوا بإجراء البراءة والنكتة هي أنَّ المانعية انحلالية فنشك في حدوث مانعية جديدة وبالتالي نشك في تقييد جديد للصلاة فنجري أصل البراءة عن هذا التقييد الجديد وبذلك يحكم بصحة الصلاة.

والشيخ النائيني(قده) من البداية قال أنا أريد أجري أصل البراءة لا أن أجري البراءة عن المانعية ، ولكني من باب الفائدة العلمية بيّنت أصل البراءة ، فإذن كلامنا مع الشيخ النائيني(قده) هو كلام واحد وهو أنَّ أصل الاباحة إذا قلنا بأنه أصل تنزيلي فيمكن اجراؤه ويثبت الحلّية الواقعية ، ولكني ذكرت هذا كفائدةً جانبية بالإضافة إلى ما تقدّم من كلامنا معه.


[1] أجود التقريرات، الخوئي، ص402، 403.
[2] فوائد الأصول، النائيني، ج1، ص467، 468.