الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

38/04/30

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: تتمة التنبيه الثالث ، التنبيه الرابع تنبيهات

ثالثاً: إنه ذكر أنَّ الدليل على كون الطهارة المسبّبة ليست قربية وليست عبادة هو أنَّ المكلّف لو صلّى غافلاً عن الطهارة ثم التفت وقعت صلاته صحيحة ، ونحن نقول: إنَّ هذا لازم أعم ، فإنه حتى لو بنينا على أنَّ الشرط هو الغسلات التي يشترط فيها قصد القربة باتفاق منّا ومنه يأتي ما أفاده من أنه لو صلّى المكلّف غافلاً عن كونه أتى بالغسلات والمسحات وحينما انتهى التفت إلى أنه أتى بها يعني بنحو القربة كانت صحيحة بلا إشكال والحال هل يحتمل أحد أنه مادمنا حكمنا على الصلاة بالصحة رغم أنه غافل فهذا يدل على أنَّ الغسلات والمسحات ليست قربية ؟! إنَّ هذا ليس مقبولاً وليس بصحيح.

فإذن هذا الحكم بالصحّة لا يصير دليلاً على أنَّ ذلك الشيء الذي غفل عنه المكلّف هو ليس قربياً ، كلا توجد فيه دلالة على هذا الشيء ، وبهذا ننهي حديثنا عن هذا التنبيه.

التنبيه الرابع: هل النهي الغيري يقتضي الفساد ؟ وهل النهي الكراهتي يقتضي الفساد ؟

نريد في هذا التنبيه أن نبحث هاتين القضيتين ، القضية الأولى: هي أنَّ النهي الغيري في مقابل النفسي هل يقتضي الفساد أو لا ؟ ، والقضية الثانية: هي أنَّ النهي الكراهتي مثل لا تصلِّ في الحمّام أو لا تصُم يوم عاشوراء فهذا نهي كراهتي فهل يقتضي الفساد و لا ؟

أما بالنسبة إلى الأوّل: فربما يقال إنه لا يقتضي الفساد باعتبار أنه لا يكشف عن وجود مبغوضية وإنما المبغوضية يكشف عنها النهي النفسي دون النهي الغيري ، ومادام لا يكشف عن مبغوضية فيمكن التقرب ، وبالتالي يقع العمل صحيحاً رغم وجود النهي الغيري ، ومثال النهي الغيري الأمر بإزالة النجاسة عن المسجد لو كان هناك نجاسة فإنه يقتضي النهي عن الضدّ بناء على أنَّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه ، والضدّ هو الصلاة ، فتصير الصلاة منهياً عنها ، وهذا النهي نهي غيري يعني من باب أنَّ ترك الصلاة مقدّمة للإزالة فالنهي هو من باب المقدّمة والغيرية ، فإذا أوقع المكلّف الصلاة نقول إنَّ هذا النهي لا يكشف عن وجود مبغوضية في الصلاة وإنما نُهِيَ عن الصلاة لأجل تحقيق الازالة وإلا فالصلاة بما هي صلاة لا توجد فيها مفسدة ومبغوضية فلا محذور في أن تقع صحيحة . هكذا قد يخطر إلى الذهن بادئ ذي بدء.

ولكن رغم هذا المناسب الحكم بالفساد وذلك لوجهين:

الوجه الأوّل: إنَّ نفس النهي بما هو نهي يمنع من التقرّب ، إذ كيف يتقرّب العبد بشيءٍ يقول المولى أنا أنهاك عنه ولو كان نهياً غيرياً ، فهو يقول له مادام هناك نجاسة في المسجد فيا عبدي لا تصلِّ من باب أنَّ ترك الصلاة مقدّمة للإزالة ، فإذا قال المولى لا تصلِّ فكيف تأتي أنت بالصلاة قربةً له ؟! إنَّ هذا لا يمكن ، فإذن نفس النهي بما هو نهي يمنع من التقرّب لا بما هو دال على المبغوضية حتى تقول إنه هنا لا يدل على المبغوضية ، كلا بل نفس النهي يمنع من التقرّب والقضية وجدانية ، فلا يمكن التقرّب.

الوجه الثاني: إنه مع وجود النهي يمكن أن يقال إنَّ الأمر بالصلاة لا يشمل هذا الفرد ، إذ مع النهي لا يمكن بقاء الأمر على اطلاقه ، فاطلاق الأمر يتقيّد بغير هذا الفرد ، فيعود هذا الفرد بلا أمرٍ وبالتالي لا يمكن التقرّب ، فإنَّ التقرّب يحتاج إلى أمرٍ أو إلى ملاكٍ ، والأمر حسب الفرض ليس بموجودٍ والملاك لا كاشف عنه ، فلا يمكن التقرّب.

إذن لأجل هذين الوجهين يحكم بأنَّ النهي الغيري يقتضي الفساد وإن خالف في ذلك جماعة ، هكذا ينبغي أن يوجه اقتضاء النهي الغيري الفساد في باب العبادة.

لا أن يوجّه بما ذكره السيد الحكيم(قده) في المستمسك[1] حيث قال: إنَّ النهي الغيري يوجب الفساد لأنه يقتضي البعد عن المولى كما ويقتضي استحقاق العقوبة ، وما يبعّد عن المولى كيف يمكن أن يكون مقرّباً إليه ؟! ، وما يوجب استحقاق العقوبة كيف يكون مقرّباً ؟!

وفي مقام التعليق نقول: إنه لو كان يوجب المبعّدية فما أفاده صحيح فإنه كيف يتقرّب بما هو مبعِّد ، ولكن النهي الغيري لا يوجب المبعدّية ، فإن الذي يوجب المبعّدية هو مخالفة التكليف النفسي دون مخالفة التكليف الغيري ، وإلا إذا فرضنا أنَّ المكلّف خالف جملة من النواهي الغيرية لواجبٍ كان يتوقف على تركها فيلزم أن يكون إثمه أكثر وأكبر لأنه قد ارتكب مبعِّدات متعدّدة ، فمثلاً من ترك الحج فهو في الحقيقة قد ترك تهيئة جواز السفر وترك أموراً متعدّدة أخرى فيلزم أنه كلما ازدادت المقدّمات التي تركها يكون التبعيد أكثر وهذا لا يحتمل ، فإنه بمخالفة التكليف الغيري لا يحصل بعد أكثر وإنما يحصل البعد بمخالفة التكليف النفسي ، أما المقدّمات فهي مهما كانت سواء كانت خمسة أو عشرة فبزيادة عدد المقدّمات إذا خولفت لا يوجب ذلك شدّة المبعديّة ، وهذا ما قرأناه تحت عنوان خصائص الوجوب الغيري والنفسي ، فمن خصائص الوجوب النفسي أنَّ مخالفته توجب المبعّدية ، أما التكليف الغيري سواء كان وجوباً أو حرمة مخالفته لا توجب المبعّدية وإلا يلزم أنه إذا كانت المقدّمات أكثر وخالفها المكلّف فسوف أن تكون المبعّدية أكبر ، وهكذا لا يوجب التكليف الغيري استحقاق العقوبة وإنما تكون العقوبة مستحقّة على مخالفة التكليف النفسي دونه ، وإلا يلزم إذا كانت المقدّمات كثيرة أنه يستحق عقوبة أكثر فيقال له هذه عقوبة على التكليف النفسي وهذه عقوبة ثانية على التكليف الغيري الأوّل وهذه عقوبة ثالثة على التكليف الغيري الثاني ثم الثالث .. وهكذا وهذا لا يمكن الالتزام به ، بل عقلائياً تكون العقوبة على مخالفة التكليف النفسي ، فالمكلّف لا يستحق العقوبة على مخالفة التكليف الغيري ، فعلى هذا الأساس ما ذكره غير مقبول فإن مخالفة التكليف الغيري لا يوجب بعداً ولا يوجب استحقاق عقوبة حتى يأتي ما ذكره.

على أنَّه لو سلمنا ما ذكره بقوله من إنَّ مخالفة التكليف الغيري يوجب استحقاق العقوبة فلماذا يمنع من التقرّب ؟! إنَّ الذي يمنع من التقرّب هو المبعِّد ، فما ذكره أوّلاً أنه يوجب المبعِّدية صحيح فإنه إذا أوجب المبعِّدية فلا يمكن أن تتقرّب بما يبعّدك ، أما استحقاق العقوبة بما هو هو لا يوجب امتناع التقرّب لولا ارجاعه إلى المبعِّدية ، فمن دون إرجاع استحقاق العقوبة إلى المبعِّدية لا معنى لأن يكون مانعاً من التقرّب.

هذ كلّه بالنسبة إلى النهي الغيري ، وقد اتضح أنه يقتضي الفساد للوجهين اللذين أشرنا إليهما لا إلى غير ذلك.

وأما بالنسبة إلى النهي الكراهتي فهل يقتضي الفساد او لا يقتضي الفساد ؟

الجواب: إنَّ النهي الكراهتي تارةً يكون بمعنى أنه ذلك النهي الناشئ من قلّة الثواب والدال على قلّة الثواب يعني هو ارشاد إلى قلّة الثواب ، وأخرى يكون نهياً كراهتياً ولكن ليس ارشادياً وإنما يدل على حزازةٍ ومبغوضيةٍ غايته تكون المبغوضية بدرجةٍ مخفّفة ، فإذا كان النهي الكراهتي بالنحو الأوّل فهذا لا يدل على الفساد بل بالعكس أي على الصحة غايته يكون الثواب قليلاً والمبغوضية ليست موجودة حتى يقع فاسداً ويمتنع التقرّب وإنما قلّة ثواب ، وأما إذا كان النهي الكراهتي لأجل المبغوضية فحينئذٍ يمتنع التقرّب وإن كانت المبغوضية مخفّفة فالعبادة تقع فاسدة حينئذٍ مادمنا قد فرضنا وجود مبغوضية ولو كانت مخفّفة.

ولكني أقول: إنه عادةً يكون النهي الكراهتي عن العبادة هو بالمعنى الأوّل ، فمثلاً النهي الكراهتي عن الصلاة في الحمّام أو النهي الكراهتي عن صوم يوم عاشوراء وما كان من هذا القبيل كلّها نواهٍ ارشادية ، والدليل على ذلك أنه لو أتى المكلف بها فسوف لا نحكم بفسادها ، فالصلاة في الحمّام لا يحتمل أحد فسادها ، وكذلك وصوم يوم عاشوراء لا يحتمل أحد فساده بناءً على أنه لا يحتمل أحدٌ فساده ، نعم لو حكمنا بأنه مبغوض واقعاً فنحكم آنذاك بفساده.

والنتيجة: هي أنَّ النهي الكراهتي لو كان ناشئاً من قلّة الفساد فهو لا يقتضي الفساد ، وأما إذا كان ناشئاً من المبغوضية ولو المخفّفة فهو يقتضي الفساد إذ لا يمكن التقرّب ، لكن عادةً النهي الكراهتي يكون من القبيل الأوّل ، أما إذا فرض أنه كان يوجد عندنا مصداقٌ للثاني فسوف نحكم باقتضائه للفساد.


[1] المستمسك في شرح العروة الوثقى، الحكيم، ج5، ص281، في مبحث إباحة الساتر، ط مكتبة السيد المرعشي.