الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
38/04/24
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: تنبيهات هل النهي عن المعاملة يقتضي الفساد ؟
التنبيه الأوّل: لا إشكال أنَّ النهي عن العبادة يقتضي الفساد وذكرنا لذلك فيما سبق ثلاثة تقريبات ، التقريب الأوّل: قلنا إنه مع النهي لا اطلاق للأمر لمورد النهي وبالتالي لا يمكن أن يوقع الفعل صحيحاً فإنَّ الصحة تحتاج إلى أمرٍ أو إلى ملاك وكلاهما معدوم ، والتقريب الثاني: هو نفس التقريب الأوّل روحاً لكن الطريق مختلف حيث قلنا إنه مع النهي يكون مبغوضاً أو محكوماً عقلاً بالقبح ومع المبغوضية أو حكم العقل بالقبح لا يمكن حصول المقرّبية.
إذن اتفقنا جميعاً على ذلك وهذا ينبغي أن يعدّ من البديهيات ولا أظن أنَّ فيه مخالفاً ، فالنهي عن العبادة يقتضي الفساد ، نعم إذا كان هناك خلاف فهو في النهي عن المعاملة أما النهي عن العبادة فلا يمكن ذلك فإنه مع النهي كيف تأتي بها بقصد القربة ؟! بل هي فاسدة بلا إشكال.
إذن لا إشكال في أنَّ النهي عن العبادة يقتضي الفساد وهذا ممّا لا كلام فيه ، وإنما الكلام هل يمكن أن نتصوّر مصداقاً لهذه الكبرى ؟ يعني نأتي بعبادة هي منهي عنها حتى نقول إنَّ هذا النهي هل يقتضي فساد هذه العبادة ؟
يمكن أن يقال: إنه لا تتصوّر صغرى لهذه الكبرى ، فهذه كبرى أصولية بلا صغرى ومصداق ، والوجه في ذلك: هو أنَّ ما تأتي به أيها المكلّف لعنوان عبادة ، مثل الحائض فإنها منهيّة عن الصلاة أيام الحيض فهذه المرأة حينما تقف وتقول أصلّي و.... فهي هل تنوي القربة أو لا تنويها ؟ أما نيّة القربة فهي غير ممكنة لها إذ كيف تنوي القربة وهي تعلم أنه يوجد نهي فلا يتصوّر في حقها أنها تقصد القربة ، وإذا فرضنا أنك تقول هي لا تقصد القربة فهذه عبادة فإذن كيف يتوجّه النهي التكليفي إلى العبادة ونحن نريد نهياً تكيفياً يتوجه إلى العبادة وهو ليس موجوداً لأنه إذا كانت تقصد القربة فهذا ليس ممكناً مع علمها بالنهي وإذا لم تقصد القربة فهذه ليست عبادة فأين إذن نتصوّر النهي عن العبادة حتى نقول هو يقتضي الفساد ؟! إنه لا يتصوّر ذلك ، اللهم إلا أن تحمل النهي على الارشاد فتقول إنَّ النهي عن العبادة في حقّ الحائض هو ارشاد إلى أنه لا يمكنكِ أن تأتي بعبادة صحيحة ، أما النهي تكليفي فلا يمكن أن يتصوّر والنكتة هي التي أشرنا إليها سابقاً وهي أنَّ القربة لا يمكن أن تقصدها إلا إذا كانت جاهلة ، فيلزم أن يكون حال الجاهلة أسواء من حال العالمة ، وهذا أيضاً ليس بمحتمل لأنَّ العالمة لا تتمكن أن تقصد القربة فلا يوجد نهي أما الجاهلة فهي تقصد القربة فيكون النهي موجوداً في حقها فيلزم أسوأية حال الجاهل من العالم وهذا شيء مضحك للثكلى ، فإذا أرادت هذه المرأة أن تقصد القربة حتى تصير هذه عبادة فهو غير ممكن لها ، وأما إذا لم تقصد القربة فأصلاً هذه ليست عبادة ، فأين النهي عن العبادة ؟! إنه لا يمكن ، فهذه الكبرى بلا صغرى.
ومن هنا حاول صاحب الكفاية(قده) أن يتخلّص من هذا الاشكال بهذا البيان حيث قال: إنَّ المقصود من العبادة ليس هو المعنى المعروف وهو ما يحتاج إلى قصد القربة ، وإنما المقصود من العبادة أحد شيئين ، فإما أن يكون المقصود هو العبادة اللولائية يعني لو كان هناك أمر قد توجه إلى الصلاة فهو أمرٌ بنحو القربة وبنحو العبادية وإن كانت هي ليس عبادة بالفعل لكن لو كان الله تعالى قد أمر بها في أيام الحيص لكان يأمر بها بنحو القربة والعبادية.
أو نقول: إنَّ المقصود من العبادة ما كان في ذاته عبادة بلا حاجة إلى أمرٍ أو قصد قربة بل عباديته ذاتية ، مثل السجود وربما يضاف إليه الركوع ، فإنَّ السجود في حدّ ذاته عبادة ولا يحتاج إلى أمرٍ عبادي ولا يحتاج إلى قصد القربة بل هو في حدّ ذاته عبادة ، ولعله من هنا لا يجوز السجود لغير الله عزّ وجلّ.
فهو(قده) فسّر العبادة بأحد ذهين التفسيرين ، ومن جاء بعده أيضاً يفسّرون العبادة بأحد هذين التفسيرين جرياً على خطاه.
هذا ولكن يمكن أن يقال: أما بلحاظ التفسير الأوّل يعني أن العبادة اللولائية أي لو أمر بها كان أمرها أمراً عبادياً يلزم أنه لو أتت الحائض بالصلاة بلا قصد القربة مثلاً من باب تعليمها الغير فقالت للغير إنَّ كيفية الصلاة هي هكذا: ( أصلي هذه الصلاة أربع ركعات مثلاً صلاة الظهر قلابة إلى الله تعالى وكبّرت وقرأت إلى أن انتهت من الصلاة ) فيلزم أن تكون هذه الصلاة محرّمة ، لأننا نشير إليها ونقول هذه الصلاة لو كان الله تعالى قد أمر بها فأمرها أمر عبادي فإنَّ القضية الشرطية تصدق عليها ، فإذا كانت كذلك يلزم توجه النهي إليها لأنَّ المفروض أنَّ المرأة حائض ، فيلزم أن تكون هذه الصلاة منهياً عنها ، يعني أنها فعلت حراماً ، وهل يلتزم بذلك ؟! إنه لا يحتمل أن يلتزم فقيه بذلك.
إذن على تفسير صاحب الكفاية(قده) للعبادة بالعبادة اللولائية يلزم أنه لو صدرت الصلاة من الحائض بقصد تعليم الآخرين أو بقصدٍ آخر غير قصد العبادية أن تكون محرّمة لما أشرنا إليه.
وأما بالنسبة إلى تفسيرها الثاني: هو أنَّ القصود من العبادة هو العبادة الذاتية فيمكن أن يقال: إنه لا يوجد مصداق لهذا إلا نادراً ، يعني لابد وأن ينحصر النهي عن العبادة بالسجود ونضيف إليه الركوع ، وسوف يوجد لهذه القاعدة مصداق واحد أو مصداقان ، فأنت لا تقل ( لو نهي عن العبادة ) وإنما قل ( لو نهي عن السجود أو الركوع ).
ولكن بقطع النظر عن ذلك فإنَّ هذا لا يتم حتى بالنسبة إلى السجود لأنّ السجود مادامت عبادته ذاتية يعني هو يقع عبادة حتى إذا لم تقصد به القربة وحتى إذا لم يكن أمرٌ بل عباديته ذاتية فيلزم مع توجّه النهي إليه أن يقع صحيحاً عبادةً لأنَّ عباديته ذاتية لا تتوقّف على الأمر أو على قصد القربة ، وهذا عكس ما تريده يا صاحب الكفاية ، أوليس أنت تريد أن تثبت الفساد ؟! أما هنا فسوف يحصل عكس ما تريد ، فأنت حيما فسّرت العبادة بالعبادة الذاتية فلازمه أنَّ النهي عن العبادة لا يبقي الفساد إذ ما كانت عباديته ذاتية لا تزول عنه العبادية لأنها ذاتية مثل الزوجية مع الأربعة ، فالعبادية ثابتة له ، فإنه حتى وإن لم يمكن قصد القربة وحتى وإن لم يكن هناك أمرٌ يلزم وقوعه صحيحاً وليس فاسداً وهذا عكس ما تريده ، فأنت تريد أن تثبت أنَّ النهي يقتضي الفساد بينما النهي هنا لا يقتضي الفساد بل تبقى الصحّة ثابتة.
إذن اتضح من خلال هذا كلّه أنَّ هذه الكبرى التي نأخذها نحن في علم الأصول إما هي بلا مصداق رأساً أو نحملها على النهي الارشادي وليس على النهي المولوي التكليفي ، والحال أنَّ كلامنا في النهي عن العبادة بلحاظ النهي التكليفي أما النهي الارشادي فكلّنا متفقون على أنه يرشد إلى الفساد وهذا خارج عن محلّ الكلام.
والخلاصة: إنَّ هذه الكبرى لا مصداق لها ، وهو شيء لا يخفى لطفه.
التنبيه الثاني: ذكرنا فيما سبق أنَّ النهي يقتضي الفساد لا أقل في باب العبادة لو تصوّرنا له صغرى ، والذي نريد أن نقوله: هو أنَّ نسبة الفساد إلى النهي وأنَّ النهي يقتضي الفساد هي نسبة مجازية ، وهل النهي يقتضي الفساد ؟! كلا ، بل حقيقةً هو لا يقتضي الفساد ، فإنَّ النهي لو حصل فسوف يتضيّق اطلاق الأمر ، فإطلاق الأمر سوف لا يشمل هذا المورد الذي فيه نهي عن العبادة فلا يوجد أمر ، وإذا لم يكن هناك أمر فالفساد يكون حينئذٍ بسبب عدم الأمر وليس بسبب النهي ، نعم النهي صار مانعاً من وجود الأمر ، والذي صار سبباً للفساد في الحقيقة هو عدم الأمر ، فنسبة الفساد إلى النهي في قولهم ( إنَّ النهي يقتضي الفساد ) نسبة مجازية ، وهذا ليس بمهم وإنما هو بيان حال لا أكثر .
إن قلت: هذا وجيه بناءً على التقريب الأوّل والثاني لاقتضاء النهي العبادة للفساد دونه على التقريب الثالث ، فإنه فيما سبق ذكرنا ثلاثة تقريبات التقريبان الأوّلان كانا يبتنيان على أنه مع النهي لا يوجد أمر وبالتالي لا مصلحة فيقع العمل فاسداً لأنَّ المصحّح إما الأمر وإما المصلحة وكلاهما معدوم ، فعلى البيانين الأوّلين هذا تام فنقول إنَّ موجب الفساد هو عدم الأمر لا وجود النهي وإنما وجود النهي هو سبب لعدم الأمر وضيقه لا أنه هو الموجب للفساد ، ولكن التقريب الثالث كان هو أنه إذا كان يوجد نهي فقصد التقرّب لا يمكن تحققه ، فبناءً على هذا يمكن أن يقال إنَّ الموجب للفساد هو نفس النهي لأنَّ نفس النهي أوجب عدم القدرة على قصد التقرّب ، فبالتالي هذا الاشكال لا يتم على التقريب الثالث ، إذ على التقريب الثالث النهي بنفسه يكون مانعاً من التقرّب ومن وقوع العمل صحيحاً ، فإذن هذا الكلام وهو أنَّ النسبة مجازية يتم على التقريبين الأوّلين دونه على التقريب الثالث.
قلت: بل هو يتم على التقريب الثالث أيضاً ، لأنه على التقريب الثالث نسلّم أنَّ قصد القربة لا يمكن ولكن بالتالي لا يوجد أمر ، فلا يوجد أمر ولا قصد القربة ، وحيث إنَّ رتبة عدم الأمر أسبق فينتسب الفساد بالتالي إلى الأمر وإن كان صورةً ننسبه إلى عدم القربة لكنه بالتالي منتسب إلى عدم الأمر ، فمن المناسب أن نقول الفساد تحقّق لعدم الأمر لا لعدم القربة التي سببها النهي فإنَّ النهي لم يقتضِ ابتداءً الفساد وإنما اقتضى شيئين الأوّل ضيق دائرة الأمر والثاني عدم امكان قصد التقرّب ، وبالتالي حيث إنَّ رتبة الأوّل الذي هو عدم الأمر أسبق فمن المناسب أن ينتسب الفساد إليه.
فإذن الصلاة صحيحٌ أنها فاسدة بسبب عدم القربة على التقريب الثالث ، لكن حيث إنَّ عدم القربة مسبوقاً بشيءٍ متقدّم رتبةً وهو عدم الأمر فبالتالي يكون الفساد لعدم الأمر لا لأجل وجود النهي ، وهذه قضية ليست مهمة وإنما هي بيان واقع فقط.