الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

38/04/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: هل النهي عن المعاملة يقتضي الفساد ؟

ويردّه: إنَّ ما أفاده شيء تام من حيث الكبرى ، بمعنى أنَّ من شرائط صحة المعاملة كون المتعاقدين لهما السلطنة على الفعل وإلا فالذي ليس له سلطنة ومُحجَّر عليه كالصبي والمجنون فالمعاملة تكون باطلة ، وهذا صحيح من حيث الكبرى ، فلا توجد عندنا مناقشة من حيث الكبرى ، إلا أن الكلام من حيث الصغرى فإنه ذكر أنَّ نفس النهي يدل على سلب السلطنة ، ونحن نقول: إنه لا سلطنة تكليفاً أو لا وضعاً ، فإذا كان المقصود هو أنه ليس بمسلّط تكليفاً فهذا صحيح لأنَّ نفس النهي يدل على الحرمة ، يعني يدل على سلب السلطنة تكليفاً لكن ليس من شرائط صحة المعاملة السلطنة تكليفاً ، نعم من شرائط اباحتها ثبوت السلطنة التكليفية وليس من شرائط صحتها ذلك بل من شرائط اباحتها.

فإذن إذا كان مقصوده أنَّ النهي يدل على سلب السلطنة تكليفاً فهذا تام ، وأما إذا مقصوده أنَّ النهي عن الملكية يدل على سلب السلطنة وضعاً فهذا لا مثبت له ، وأنّا لك بإثباته ؟! كلا فإنَّ النهي لم يثبت أنه يدل على سلب السلطنة وضعاً ، بل أقصى ما يدل عليه هو أنه يحرم عليك النقل والانتقال يعني حرمة تكليفية ، فأنت لست بمسلّطٍ تكليفاً لا أنه أصلاً لا سلطنة لك وضعاً كغير المالك أو الصبي مثلاً إذا أراد أن ينقل لا سلطنة له وضعاً ، فكون المكلّف بعد النهي من هذا القبيل أوّل الكلام إذ لا مثبت له.

والخلاصة: نقول إنَّ النهي وإن دلّ على سلب السلطنة تكليفاً لكنه لا يدل على سلبها وضعاً والشرط في صحّة البيع ثبوت السلطنة الوضعية لا ثبوت السلطنة التكليفية.

التقريب الثالث: صحيحة زرارة الواردة في العبد الذي يزوج نفسه من دون إذن سيده فإنَّ بعض العامة حكم بعدم صحة العقد حتى لو أجاز المولى بينما الامام الباقر عليه السلام قال: ( إنه لم يعصِ الله وإنما عصى سيده فإذا أجازه فهو له جائز )[1] .

وتقريب دلالتها على الفساد أن يقال: إنها دلت على أنَّ العصيان لو كان لله تعالى فالعقد يكون باطلاً حينئذٍ لوكان في مورد الرواية العصيان هو للمولى وليس عصياناً لله تعالى فإذا عصى المولى فإذا أجاز المولى جاز ، فإذن دلالة الرواية على الفساد واضحة لو كان النهي من قبل الله عزّ وجلّ.

وفيه: إننا نحتمل أن يكون المقصود ولا نحتاج إلى الجزم بل يكفينا الاحتمال بدرجة وجيهة بحيث يسلب الظهور من قوله ( إنه لم يعصِ الله ) يعني أنه لم يعصه بارتكاب عقدٍ ليس بمشرّع في الاسلام من قبيل الزواج بالخامسة أو الزواج في العدّة أو الزواج بأخت الزوجة أو الزواج بالأم وهكذا فإنَّ هذا ليس مشرّعاً في الاسلام ، فالمقصود من ( إنه لم يعصِ الله ) يعني أنه لم يرتكب عقداً ليس بمشروعٍ في حدّ نفسه وإنما ارتكب عقداً مشروعاً في الاسلام ولكنه من دون اجازة المولى ، فغاية ما يفهم أنَّ الموجب للبطلان هو ارتكاب عقد ليس بمشروعٍ في حدّ نفسه أما ارتكاب العقد الذي يكون مشروعاً لكنه محرّم كما إذا نهى الوالد عن عقد ابنه وكان يتأذى من ذلك لو قلنا أن اطاعة الوالد واجبة مادام يتأذى ومخالفته محرّمة ولا يلزم على الولد الحرج فحينئذٍ لا يجوز العقد ، فإذا قال لي والدي تتزوج بفلانة فمرّة يكون النهي ارشادياً فهذا لا مشكلة فيه ، ومرّة سوف يتأذّى الوالد وهو لا يجوز إذ المطلوب هو الاحسان إلى الوالدين وهنا الاحسان لا يصدق إذا كانت المعاشرة مع الايذاء ، ولكن فرضنا أنَّ هذا الابن يقول يا أبي صحيح أنت تتأذى ولكني أنا في حرجٍ فنقول له لا بأس بذلك ، وهكذا صلة الرحم أو قطيعة الرحم فإنَّ الصلة واجبة والقطيعة محرّمة ولكن إذا سببّت الحرج فهي مرتفعة ، وهكذا كلّ شيءٍ يسبّب الحرج من الصوم أو الحج أو غير ذلك إذا سبّب الحرج يعني يورث للمكلف المشقة الشديدة كأن يخاف إذا ذهب إلى الحج فهنا يسقط الحج ، فقاعدة لا حرج حاكمة على جميع الأحكام ، ولو قلت: كيف يكون الحكم في الصلاة ؟ قلت: إنَّ الصلاة إذا كانت حرجة عليك فهي أيضاً تسقط بهذه المرتبة ولكن هناك مرتبة ثانية لها كالصلاة بالاشارة فإنَّ الصلاة لها مراتب.

فإذا نهى الوالد فحينئذٍ سوف يصير الامتثال لازماً والعقد هو عقد مشروع هنا فصحيحة زرارة لا تدل على البطلان بل هي تدل على البطلان إذا كان العصان لله تعالى بارتكاب عقد ليس بمشروع في حدّ نفسه كالزواج بأخت الزوجة أو بالخامسة ، أما بما كان مشروعاً ولكنه كان منهياً عنه بالنهي الإلهي كما لو أراد الولد أن يتزوج من امرأة ووالده يتأذّى فهنا هذا العقد مشروع غايته أنه هناك نهي من الله عزّ وجلّ حيث يوجب هذا الزواج ايذاء الوالد فهنا الرواية لا تدل على بطلان ذلك.

والخلاصة: إنَّ هذه الرواية أقصى ما تدل بمفهومها أنه إذا كان قد عصى الله تعالى بارتكاب عقدٍ ليس بمشرّعٍ في حدّ نفسه يكون باطلاً ، وهذا كلّنا متفقون عليه ، أما ما كان مشرّعاً لو ارتكبه لا تدلّ على بطلانه رغم كونه حراماً.

وعندنا شاهد على أنَّ المقصود من المعصية هذا المعنى يعني ارتكاب عقد ليس بمشرّع في حدّ نفسه حيث توجد قرينة على كون المراد هو هذا ، وهي أنه عليه السلام قال: ( إنه لم يعص الله وإنما عصى سيّده ) ، ومن المعلوم أنه إذا عصى سيده فقد عصى الله تعالى فهو بالتالي عاصٍ لله عزّ وجلّ وبالتالي هذا العقد منهي عنه لأن عصيان المولى عصان لله فمن المناسب أن تقول الرواية عصى الله والحال أنها قالت ( لم يعصِ الله ) فلو كان المقصود من المعصية يعني مخالفة نهي الله عزّ وجلّ بارتكاب بما هو محرّم تكليفاً فمن المناسب اثبات معصية الله لا نفيها ، فالنفي يدل على أنَّ المقصود من العصية المنظورة في الرواية هو المعصية بارتكاب عقدٍ ليس مشرّعاً في حدّ نفسه ، وإلا إذا كان المقصود هو العصيان التكليفي فهو ثابت بلحاظ المولى وثابت بلحاظ الله فإنَّ من عصى المولى فهو قد عصى الله أيضاً.

إن قلت: إنَّ اطلاق المعصية على هذا المعنى وهو ارتكاب الشيء غير المشروع هو اطلاق ليس بمألوف وإنما المألوف من اطلاق المعصية هي المخالفة تكليفية ، فإذن هذا يصير قرينة على المقصود من العصية هنا هي المعصية التكليفية لأنها هي المألوفة وبذلك تتم دلالة الرواية على ما نريد.

قلت: عندنا قرينة على أن كلمة المعصية تطلق على هذا المعنى ، ففي نفس هذه الرواية استعملت كلمة المعصية في نفس هذا المعنى لأنها قالت: ( وإنما عصى سيده ) والحال أنَّ العبد لم يعصِ السيّد فإنَّ السيد لم يقل له لا تتزوج بفلانة وإنما العبد تزوّج من دون إذنٍ وتجويزٍ مسبق ، فإذن استعملت الرواية كلمة ( وإنما عصى سيّده ) في حقّ هذا العبد الذي لم يخالف نهياً وإنما تزوّج من دون إذن مولاه ، فيثبت من خلال ذلك أنَّ فعل عقدٍ من دون إذنٍ وشرعنةٍ مسبقة هو في نفسه معصية ، فعلى هذا الأساس استعملت المعصية في نفس الرواية في غير مخالفة النهي ، يعني أنها استعملت في العقد الذي لم تثبت شرعيته ، فهذا المعنى الذي تقول إنه غير المألوف تبيّن أنَّ الرواية تقصده.

والخلاصة: إنَّ الرواية لا يمكن التمسّك بها لإثبات أنَّ النهي عن المعاملة يقتضي الفساد.

ومن خلال هذا كلّه ننتهي إلى هذه النتيجة: وهي أنه لا يمكن أن ندّعي أنَّ النهي عن المعاملة يقتضي الصحة كما كان يقوله أصحاب الرأي الأوّل المنسوب إلى تقريرات الشيخ ، كما لا يمكن أن نقول إنَّ النهي عن المعاملة يقتضي الفساد كما ذهب إليه غير واحد ، والصحيح أنه لا مثبت لاقتضائه الصحّة ولا مثبت لاقتضائه الفساد ، فإذن النهي عن المعاملة لا يقتضي الفساد كما لا يقتضي الصحّة ، والدليل هو عدم الدليل على اقتضائه للصحّة أو الفساد ، وعدم الدليل كافٍ في أن يكون دليلاً على عدم ثبوت الاثنين.


[1] وسائل الشيعة، العاملي، ج21، ص114، ابواب نكاح العبيد والاماء، ب24، ح1، آل البيت.