الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

38/04/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- هل النهي يقتضي الفساد ؟

وقد يشكل على التقريب الثالث:- بأنه يبتني على قاعدة أن المبعِّد لا يمكن أن يكون مقرِّباً ، يعني أنَّ هذا الشيء المنهي عنه هو مبعِّد ومبغوض للمولى ومادام مبعِّداً فلا يمكن أن يكون مقرِّباً ، وبتعبير آخر: المقرّبية والمبعّديّة لا يمكن اجتماعهما ، فمتى ما كان الشيء مبعِّداً لا يمكن حصول المقرِّبية والتقرّب ، فهو يبتني على هذه القاعدة ، وصاحب الاشكال هكذا يريد أن يقول: إنَّ المقرّبية والمبعدّية إذا كانت تحصل بنفس الفعل الخارجي يعني أنَّ الفعل الخارجي يكون هو مقرّباً وهو مبعّداً فإذا قلنا بهذا - أي أنَّ المقرّبية والمبعّدية تحصل بالفعل الخارجي - فما ذكر يكون تاماً ، فإن ما يكون مقرّباً في الخارج لا يمكن أن يكون مبعِّداً ، نظير أن أقدم لك حلوى وأنت تكرهها فهذا في الحقيقة مبعّد ، فلا يمكن أن يكون مقرّباً ، إنَّ نفس هذا الفعل هو مبعّد فلا يمكن أن يكون مقرّباً ، أما إذا قلنا إن المقرّبية والمبعّدية لا ترتبط بالفعل الخارجي وليست من شؤون الأفعال الخارجية وإنما هي من شؤون الداعي والهدف القلبي فيمكن اجتماع المقرّبية والمبعّدية.

والصحيح هو الثاني ، يعني أنَّ المدار في المقرّبية والمبعّدية هو الداعي ، ولذلك لو فرض أني قتلت ابن المولى باعتقادي أنه عدوه فهذا الداعي مادام حسناً فسوف يكون مقرباً حينئذٍ رغم أنَّ الفعل الخارجي مبغوضاً فالمقرّبية تحصل حينئذٍ ، والعكس بالعكس كما لو تخيلت أن هذا الشخص يحبّه المولى فأردت أن أؤذي المولى فقتلته ولكن تبيّن أنه عدوّ له فالمولى لا يمدحني حينئذٍ بل يعاقبني ويقول إنَّ هدفك كان هو ايذائي فهدفك كان سيئاً ، ولو قلت له أنا ساعدت لأنه تبيّن أنه عدوّك فالذي قُتل هو عدوّك ، فسوف لا يقبل مني هذا بل يقول إنَّ هدفك كان هو ايذائي فيعاقبني على ذلك.

إذن هذا يعني أن المقرّبية والمبعّدية تحصل من خلال الهدف والداعي القلبي ، فإذا كان كذلك فيمكن أن نفترض أن يجتمع داعيان في القلب أحدهما مقرّباً والآخر مبعّداً فإنه لا مانع من ذلك ، من قبيل إني أحبّ الصلاة ، فأصل الصلاة عندي داعٍ لامتثاله لأنه مثلاً امتثال لأمر المولى ولكن في نفس الوقت أصلي في المغصوب ، والمولى لا يريد الصلاة في المغصوب ، فهذا الداعي الذي دعاني إلى الصلاة في المغصوب هو داعٍ شيطاني في القلب في نفس الوقت الذي يوجد عندي فيه داعٍ إلهي ، فإذن لا محذور في ذلك.

وخلاصة الاشكال الذي يراد أن يسجل:- هو أنك استدللت وقلت في التقريب الثالث إنه مع النهي يكون الشيء مبغوضاً ومادام مبغوضاً فلا يمكن أن تحصل المقرّبية ، والاشكال يقول: إنّ هذا وجيه إذا قلنا إنَّ المبعّدية والمقرّبية تحصل بالفعل الخارجي ، فإذا كان كذلك فكلامك وجيه فإنَّ الفعل الخارج يتّصف بأحد الوصفين فإما أن يحبّه المولى أو يبغضه ، فلا يمكن أن يكون ما يحبّه يكون مبغوضاً له أو ما هو مبغوض له يكون محبوباً له فإنَّ هذا غير ممكن فلا يجتمعان ، ولكن إذا قلنا إنَّ المقرّبية والمبعّدة هي قضايا ترتبط بعالم الداعي والقلب وليس بعالم الفعل الخارجي فمن الممكن أن يجتمع داعيان في القلب داعٍ إلهي وداعٍ شيطاني كما مثلنا ببعض الناس الذين يغصبون بعض البيوت فتراه يصلّي في البيت المغصوب فهذا داعٍ شيطاني يجعله يصلّي في البيت المغصوب ولكن في نفس الوقت عنده داعٍ إلهي إلى أصل الصلاة ، فبالتالي اجتمع الداعيان ولا مانع من ذلك.

وقبل الاجابة عن الاشكال أشير إلى قضية ينبغي الالتفات إليها:- وهي من خصائص الاسلام وهي أنَّ الاسلام ينظر دائماً إلى القلب إلى الداعي ﴿ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ﴾ ، ﴿ إنما نطعمكم لوجه الله ﴾ فالمدار على النية ، وهذه من خصائص الاسلام ، فالله تعالى ينظر إلى ما في قلبك وما في قلبي ولا أستطيع أن أقول أنا جيد وأنت ليس بجيد أو بالعكس بل المدار على ما في القلب ، والعمل الصالح الذي تؤكد عليه الآيات الكريمة ﴿ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ ما هو العمل ؟ الاسلام يفسّره بشكلٍ وغير الاسلام يفسّره بشكلٍ آخر ، فالإسلام يفسّر العمل الصالح بأنه كلّ عمل أتي به لله تعالى ، فمادام لله عزّ وجلّ والنيّة طيبة فحينئذٍ يكون هذا عملاً صالحاً ، فربما يكون عملاً صغيراً ولكن المقصود هو الله عزّ وجلّ فيكون عند الله كبيراً ، ولكن في بعض الأحيان قد أبني مستشفىً أو مسجداً وأصرف الكثير من المال على ذلك ولكن كان الهدف ليس هو الله تعالى بل شيئاً آخر فهذا لا يساوي شيئاً ( خذ أجرك ممن عملت له ) ، فالمقرّبية والمبعّدية من شؤون الداعي القلبي ، أما غير الاسلام فاصلاً المدار في كون الشيء حسناً أو قبيحاً هو على العمل الخارجي من دون النظر إلى الهدف القلبي ، فمن يبني مستشفىً مثلاً يكون عندهم من أحسن الناس ، فهم ينظرون إلى الصورة الخارجية ولا ينظرون إلى الداعي ، فلا يوجد عندهم نظر إلى ما في القلب وإنما المدار على العمل الخارجي ، فأنت مادامت أتيت لي بحلوى فهذا العمل يصير عملاً صالحاً عندهم ، أما أنَّ هدفك ما هو فهم لا ينظرون إليه ، أما أنَّ هذا هو أخي في الدين أو أخي في الاسلام والمعاونة مطلوبة لله تعالى فهذا ليس بمنظورٍ إليه عندهم والشيء المهم الذي عندهم هو أنَّ مصلحتي ما هو مقدارها ، فما هو المقدار الذي يدخل في مصلحتي هو جيد وحسن والذي لا يدخل في مصلحتي وإن كان هدفك حسناً فهذا عمل سيء ، فالمقرّبية والمبعّدية في غير الاسلام هي على الفعل الخارجي ، أما الاسلام فهو ينظر إلى القلب.

والجواب:- إنه قد يجتمع داعيان كما ذكرت ، ولكن الذي نقوله: هو إنه إذا كان الشيء مبغوضاً للمولى فلا يمكن أن يكون الاتيان به اتياناً به بداعٍ إلهي مادمت قد عملت أنه مبغوض للمولى ، فإتياني به لا يمكن أن يكون بداعٍ إلهي وإنما هو بداعٍ شيطاني ، ونأتي إلى مقامنا نقول: أني مادمت أعلم بأنَّ هذا العمل العبادي كالصلاة مثلاً هي منهي عنها فبالتالي هي مبغوضة للمولى فإتياني بها سوف لا يكون بداعٍ إلهي ، ومادام لم يؤت به بداعٍ إلهي فالمقرّبية لا تكون حاصلة سواء قلنا إنه يمكن أن يجتمع داعٍ إلهي في زاوية ثانية من القلب فإنَّ هذا لا يؤثر شيئاً فإنَّ المهم هو أنه مادام المتعلق أعرف أنه مبغوض - والمعرفة أيضاً لها مدخلية يعني مادمت أنا المكلّف أعلم أنَّ هذا مبغوض للمولى - فلا يمكن أن يكون الداعي الذي دعاني إلى تحقيق هذا العمل داعياً إلهياً ، فبالتالي يقع باطلاً.

فإذن لا يؤثر ما ذكر من أنه يمكن أن يجتمع أحياناً داعياً شيطانياً إلى جنب الداعي الإلهي أو بالعكس فإنَّ هذا لا يؤثر ، نعم إذا لم يعلم أنه مبغوض ويتصوّر أنه محبوب فيمكن أن يكون الداعي إليه ، ولكن مادمت تعلم بالنهي وتعلم أنَّ النهي يكشف عن المبغوضية فالداعي لا يمكن أن يكون داعياً إلهياً فيقع باطلاً.

وبهذا انتهينا عن النهي عن العبادة.

النهي عن المعاملة:-

النهي عن المعامل له أنحاء ثلاث:-

النحو الأوّل:- أن يكون النهي عن المعاملة بمعنى السبب ، ونقصد بالسبب الايجاب والقبول أي العقد ، والعقد المبغوض مثل ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ﴾ ، و ( ذروا ) وإن كان هو فعل أمر لكنه صورةً هو أمرٌ أما روحاً فهو نهي ، والمنهي عنه هو البيع بمعنى العقد الذي هو بعت واشتريت ، وإلا نفس المسبّب الذي هو الملكية فليست مبغوضة ، بل دع الملكية تحصل من دون بيعٍ وشراء فهذه الملكية لا تشغلك عن صلاة الجمعة ، أما البيع والشراء - بعت واشتريت - فهو يشغلك عن صلاة الجمعة ، فالمبغوض هو السبب دون السبَّب.

النحو الثاني:- أن يكون المبغوض هو المسبَّب دون السبب ، من قبيل بيع المصحف للكافر فإنه منهيٌّ عنه ، أو بيع العبد المسلم للكافر فإنه منهيٌّ عنه ، فالمنهيُّ عنه والمبغوض هو الملكية - المسبّب - ، فنفس ملكية الكافر للمصحف هي اهانة للقرآن الكريم ولا مدخلية لبعت واشتريت ، وهكذا نفس ملكية الكافر للعبد المسلم هي نحو علوٍّ للكفر على الاسلام وهذا مبغوضٌ سواء كان ذلك ببعت واشترت أو بشيءٍ آخر .

النحو الثالث:- أن يكون النهي نهياً عن بعض آثار المسبَّب ، أي عن بعض آثار الملكية ، من قبيل النهي عن التصرّف في الثمن أو المثمن ، فإنَّ من آثار الملكية جواز التصرّف في الثمن أو المثمن فإذا نهي عن التصرّف في الثمن أو المثمن فهذا ليس نهياً عن السبب ولا نهاً عن المسبَّب وإنما هو نهي عن بعض الآثار المرتبطة بالمسبَّب.

ونحن نتكلّم أوّلاً في النحو الأوّل ، ثم الثالث ، أما الثاني فبما أن الكلام فيه طويل فسوف نتكلّم فيه آخراً.

أما إذا كان النهي عن السبَّب:- فهل النهي عن السبَّب يقتضي الفساد ؟ كلا ، إذ غاية ما يدلّ عليه هو مبغوضية إيجاد السبب - العقد - ولكن هذا لا يستلزم النهي عن تأثير السبب بعد إيجاده ، بل لعلّ تأثير السبب بعد إيجاده يكون محبوباً ، من قبيل السكّين ، فأنت لا تصنع السكّين لأنك حينما تصنعها فسوف يقتتل بها الناس فيما بينهم ، فالمبغوض هو إيجاد السكين ، أما تأثير السكّين في القتل وفي اخراج الدم فذاك ليس مبغوضاً ، بل من حُسنِ السكّين أن تكون قاطعة وقاتلة ، فالمبغوض هو السبب وبغض السبب لا يلازم بغض المسبَّب أو تأثير السبب ، كلا بل يبقى التأثير ليس مبغوضاً ، فهنا أيضا نقول: إنَّ المبغوض هو ايجاد العقد - بعت واشتريت - لأنه يشغلك عن صلاة الجمعة وهذا لا يلازم مبغوضية المسبَّب ، بل لعلّ المسبَّب لا يكون مبغوضاً ، يعني لو أوجدت السبب فحينئذٍ يكون ذلك سبباً لتحقق الملكية فلذلك يقال إن النهي عن المعاملة بمعنى السبب لا يقتضي الفساد ، والنكتة في ذلك هي ما أشرنا إليه من أنه أقصى ما هناك هو أنَّ النهي يكشف عن مبغوضية السبب ومبغوضية السبب لا تلازم مبغوضية التسبُّب أو المسبَّب بل لعلّها تناسب حسن ذلك.