الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
38/04/17
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- هل النهي يقتضي الفساد ؟
قلت:- هذا وجيه إذا فرض أنه لا أمر ولم يكن إلى جنبه - أي إلى جنب عدم الأمر - نهي ، فإنه في مثل هذه الحالة يحتمل المحبوبيّة والملاك فيؤتى بالعمل برجاء وجود المحبوبية والملاك ، أما إذا كان إلى جانب عدم الأمر يوجد نهي فمادام يوجد نهي فسوف يكون هذا النهي موجباً للجزم بعدم وجود الملاك إذ لو كان الملاك موجوداً فلماذا النهي ؟! إذن وجود النهي إلى جنب عدم الأمر يكشف لنا بنحو الجزم أن لا ملاك ، ومع عدم الملاك فلا يمكن أن يقع العمل صحيحاً ، لأنَّ صحة العمل موقوفة إما على وجود أمرٍ أو على وجود الملاك ، والأمر ليس بموجود ، والملاك لا مثبت له بل يجزم بعدمه.
التقريب الثاني:- إنه مع وجود النهي عن العبادة يستكشف وجود المفسدة ومع وجود المفسدة يستكشف عدم وجود المصلحة ومع عدم وجود المصلحة لا يمكن أن يقع العمل صحيحاً فإنَّ الصحة تحتاج إلى وجود مصلحة والمفروض عدم وجود تلك المصلحة.
والفارق بين هذا التقريب وبين سابقه هو أنهما من حيث الروح واحد ولكن الطريق إلى هذه الروح مختلف ، فكلاهما يقول إنَّ الصحة موقوفة على الأمر أو الملاك ومع عدمهما فلا صحة أما كيف نثبت عدم الملاك ؟ هنا اختلف التقريبان ، فالأوّل كان يقول إنه لا ملاك لفرض عدم وجود الأمر زائداً وجود النهي ، فإنَّ عدم الأمر إذا انضم إليه وجود النهي يُجزم بعدم وجود المصلحة وبالتالي لا يمكن الحكم بالصحة ، أما التقريب الثاني فهو يستعين بشكلٍ آخر فيقول إنه مادام هناك نهي فهناك مفسدة ، ومادام هناك مفسدة فلا مصلحة ، ومعه يقع العمل باطلاً لعدم المصلحة.
إذن روح التقريبين واحدة إلا أنَّ الطريق في الوصول إلى عدم المصلحة مختلف.
إن قلت:- إنَّ وجود المفسدة لا يكشف عن عدم المصلحة إذ لعلّ المصلحة موجودة أيضاً إلى جنب المفسدة كما نلمس ذلك بالوجدان في الكثير من قضايانا ، فإنَّ بعض الأعمال نقع في حيرة منها فهل نفعلها أولا نفعلها فمن زاوية هي فيها مصلحة ومن زاوية أخرى فيها مفسدة ، كما لو فرض أني أردت أن أشتري بيتاً فمن زاوية هو فيه مصلحة لأجل أنه بيت بناءه جيد ومواصفاته جيدة فإذن شراءه تكون فيه مصلحة ، ومن جهةٍ أخرى فيه مفسدة وهي أن جيرانه سيئون ، أو أريد أن أسافر فهذا السفر فيه مصلحة من جانب وفيه مفسدة من جانب آخر ، فعلى هذا الأساس وجود المفسدة لا يلازم عدم المصلحة ، فلا يمكن جعل ثبوت - وجود - المفسدة المنكشفة بالنهي دالاً وكاشفاً عن عدم المصلحة حتى يقال لا يمكن أن قع العمل صحيحاً ، كلا بل من المحتمل وجود المصلحة والمفسدة معاً ، وعلى هذا الأساس لا يتم هذا التقريب.
قلت:- صحيح إنه يمكن أن نفترض وجود مصلحة إلى جنب المفسدة ولكن الاحتمالات الواقعية لا تخلو من ثلاثة:
فإما أن تكون المفسدة هي الغالبة يعني بدرجة عشرة والمصلحة بدجة ثمانية ، وفي مثل هذه الحالة تذهب ثمانية في مقابل ثمانية بالكسر والانكسار ويبقى اثنان في جانب المفسدة ، فصار هذا العمل ذا مفسدة خالصة بدرجة اثنين والمصلحة صارت في حكم العدم لتعارضها بما يساويها من المفسدة ، فإذن صارت بالتالي هناك مفسدة خالصة ، ومن المناسب حينئذٍ وقوع العمل باطلاً لفرض أنَّ المصلحة في حكم العدم والعبادة إنما تقع صحيحة إذا كان فيها مصلحة حقيقة لا مصلحة في حكم العدم فإن المصلحة في حكم العدم لا تنفع شيئاً.
وإما أن يفترض العكس ، يعني أنَّ المصلحة بدرجة عشرة والمفسدة بدرجة ثمانية ، فهنا أيضاً يذهب ثمانية في مقابل ثمانية ويبقى اثنان في جانب المصلحة ، وهنا من المناسب للمولى أن يثبت الأمر لا أنه يثبت النهي ، والمفرض أنه أثبت النهي ، فإثباته للنهي يدلّ على أنّ هذه الفرضية باطلة وليست موجودة.
وإما أن تكونا معاً بمقدار ثمانية ، أي بينهما تساوٍ ، والمناسب في مثل هذه الحالة أنه لا أمر ولا نهي وإنما يوجد تخيير أو اباحة.
إذن سوف تصير النتيجة هي أن ثبوت النهي يكشف عن وجود مفسدة خالصة إما مع عدم وجود مصلحة رأساً أو هي موجودة ولكنها في حكم العدم ، وعلى كلا التقديرين لا يمكن أن يقع العمل صحيحاً .
وهذا أيضاً تقريب جيد لإثبات فساد العبادة بسبب النهي ، وقد قلت إنَّ روح التقريبين واحدة لكن الاختلاف في الطريق.
التقريب الثالث:- أن يقال: إنه مع النهي ينكشف أنَّ هذه العبادة مبغوضة ومادامت مبغوضة فلا يمكن التقرب وشرط صحة العبادة التقرّب ، هكذا قل.
أو قل بصيغة أخرى أو بروح أخرى:- إنه مع النهي العقل يقبّح هذا العمل لأنه ينطبق عليه عنوان مخالفة المولى صاحب الحق ، مثل عنوان مخالفة الأب فنفس مخالفة الأب هي قبيحة فكيف بمخالفة الله عزّ وجلّ ؟! ، وحينئذٍ نقول: إنه مع صدور النهي العقل يحكم بقبح صدور هذا العمل المنهي عنه ، ومادام قبيحاً فلا يمكن التقرّب.
وهل هذا البيان هو نفس البيان السابق لهذا التقريب لكن اللفظ آخر أو أنّ الروح مختلفة ؟ ففي الأوّل كنا نتمسّك بعنصر المبغوضية فالنهي كاشف عن المبغوضية ومع المبغوضية لا يمكن التقرّب ، بينما هنا لا نتمسّك بعنصر المبغوضية بل ذهبنا إلى مصطلحات علميّة وقلنا إنه مع النهي العقل يقبّح صدور الفعل فصدوره يصير حينئذٍ صدوراً قبيحاً لأنَّ المولى ينهاك عنه فالعقل يحكم بالقبح ومع حكم العقل بالقبح فحينئذٍ لا يمكن قصد التقرّب.
وبهذا اتضح الفارق بين هذا التقريب وبين التقريبين السابقين ، فإن التقريبين السابقين لم يستعينا بفكرة قصد القربة وأنه مع النهي سوف لا يمكن الاتيان بقصد القربة ، بل كان هذا الشي مسكوت عنه وإنما كان يلاحظ أنه لا مصلحة فيه وصحة العمل فرع وجود الأمر أو المصلحة ، أما كيف نستكشف عدم المصلحة ؟ قلنا نستكشفه من تقريبين ، أما هنا فنحن نغضّ النظر عن مسألة المصلحة والمفسدة وإنما نتمسّك بأنَّ التقرّب سوف لا يمكن إما لأجل المبغوضية أو لأجل حكم العقل بقبح صدور هذا الفعل من المكلّف ، وقلنا هل هذان لفظان لروحٍ واحدة أو أنَّ روح أحدهما غير الأخرى ؟