الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

38/03/14

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: التنبيه الرابع - تنبيهات مسألة اجتماع الأمر والنهي.

الوجه الثاني:- إنَّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، بتقريب أنَّ النهي لو خالفناه فقد ارتكبنا مفسدة فإنَّ النهي ينشأ عن مفسدة في متعلّقه بينما لو تركنا الواجب تركنا مصلحة فإنَّ الواجب ينشا عن مصلحة ، فيدور الأمر بين مخالفة النهي - ومخالفته تصير بارتكابه فسوف ارتكب مفسدةً - وبين أن أترك امتثال الواجب فتفوتني مصلحة ، ودفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، فإذن الأرجح أن نقدّم النهي بمعنى أننا لا نخالفه وإنما ونخالف الأمر.

وفيه:- إنَّ هذه العبارة البرّاقة لا دليل عليها سوى بريقها ، وإلا فعقلاً أو عقلائياً المناسب أن نوازن بين المفسدة وبين المصلحة ، فلو فرض أني لو ارتكبت هذا الشيء فسوف يتلف مني خمسة دنانير فهذه مفسدة ولكن في المقابل أحصل على صداقة مع شخصٍ نافع أستفيد منه في كثيرٍ من الأمور ، فيدور الأمر بين هذه الخسارة الجزئية وبين تلك الفائدة ، فتقدّم الفائدة وإن كانت توجد خسارة ، فإذا استفدت منه في طريق الحلال فعقلاً وعقلائياً يقدّم جانب الفائدة ، وسيرتنا جارية على ذلك وهو أن نخسر بعض الأمور كما لو صنعنا وليمةً ولكن هذا فيه احترام لهذا الأخ والصديق وغير ذلك فارتكبنا المفسدة في سبيل جلب المصلحة لأنّ المصلحة أهم من هذه المفسدة . فإذن هذه العبارة لا دليل على صحّة مضمونها بل المناسب ما أشرنا إليه.

الوجه الثالث:- وهو الاستقراء ، يعنى أننا لو أجرينا عملية استقراء لوجدنا أنَّ الشرع المقدّس في موارد دوران الأمر بين ارتكاب المفسدة أو الحصول على المصلحة يدفع المفسدة لا أنه يرتكب المفسدة كي يحصل على المصلحة ، ونمثّل لك بمثالين:-

الأوّل:- أيام الاستظهار للمرأة ، يعني إذا تجاوز الدم العادة ، فمثلاً لو كانت عادتها سبعة أيام ولكن الدم تجاوزها إلى الثامن والتاسع فيقال هذه أيام الاستظهار ، فهي تنتظر إلى أن تلاحظ هل يتجاوز الدم العشرة أو لا ، فإن لم يتجاوزها ففي مثل هذه الحالة تحكم على الجميع بأنه حيض ، وإذا تجاوز العشرة فتحكم بأنَّ مقدار العادة حيض والزائد استحاضة ، ويعبّر عن هذه الأيام بأيام الاستظهار ، يعني تستظهر فيها حال الدم ، وفي أيام الاستظهار الحكم أنها تترك الصلاة ولا تفعل محرّمات الحائض ، فلا تدخل المسجد وغير ذلك من المحرّمات وهذا معناه أنَّ الشارع رجّح وقدّم دفع المفسدة على جلب المصلحة.

الثاني:- إذا كان يوجد للمكلف ماءان وتنجّس أحدهما ففي مثل هذه الحالة أحدهما يكون نجساً والآخر يكون طاهراً فماذا يصنع في مثل هذه الحالة ؟ إذا أراد أن يتوضأ فيحتمل أنَّ الماء الذي يتوضأ به نجس وبالتالي لا يتحقّق الوضوء - و لا تقل لي أنه يطهّر بالثاني أعضاء وضوئه ، فنقول لعلّ الثاني هو النجس وسوف ينجّس الأعضاء - فعلى هذا الساس الأمر دائر بين أن تتنجّس الاعضاء ولا يحصل الوضوء أيضاً وبين أن يحصل الوضوء شكلٍ صحيح بأن يكون الأوّل نجس والثاني طاهر وبواسطته تطهر الأعضاء ويحصل الوضوء بالصبّ - فيطهّر به الأعضاء أوّلاً إذا أراد أن يحتاط ثم يتوضأ - ، فيوجد احتمالان هنا ، وهنا قال الشارع يهريقهما ويتيمم ، وهذا معناه أنه قدَّم جانب المفسدة ، فهو قدّمها بهذا المعنى أي لا تتوضأ يعني لا ترتكب الوضوء خوفاً من ارتكاب المفسدة ، فيظهر أنه متى ما دار الأمر بين ارتكاب المفسدة أو جلب المصلحة فالشارع يريد من المكلّف أن يدفع المفسدة عن نفسه.

وجوابه واضح:- حيث يقال:- إنَّ الاستقراء لا يمكن أن يثبت بمثالين ، بل الاستقراء الحجّة هو الاستقراء التام وهو متعذّر عادةً ، نعم إذا صار استقراء ليس بتام وإنما استقراء ناقص ولكن غالبي فبإلغاء الخصوصية فربما تغلى الخصوصية عرفاً في النظر العقلائي - حيث كان المورد يساعد على إلغاء الخصوصية - فيحصل اطمئنان فنكتفي ، من قبيل أن نعطي علاج الأسبرين إلى شخص يشتكي ألم رأسه فنلاحظ أنَّ ألمه قد ذهب وهكذا شخص ثاني وثالث .... وعاشر من أجواء مختلفة ففي مثل هذه الحالة نلغي الخصوصية لأنهم من أجواء مختلفة وقد شفوا بأجمعهم فهنا الاستقراء الناقص قد يحصّل لنا الاطمئنان ويكون حجّة ، لكن ليس في موردين كما هو في محل كلامنا ، خصوصاً وأنَّ هذه الأمثلة إلغاء الخصوصية فيها شيء صعب.

الوجه الرابع:- ما ذكره غير واحدٍ ومنهم السيد الخوئي(قده)[1] وحاصله:- إنه لو كان عندنا حكمان أحدهما ترخيصي والآخر إلزامي وأحدهما يقول كل الجبن أوّل الشهر والثاني يقول لا تسرق أو لا تغصب والمكلّف أراد أن يعمل بالمستحب فرأى عند صديقه جبناً وأراد أن يأكل منه امتثالاً لقول المولى فهنا هل يُقبل منه هذا المعنى ؟ كلا ، وإنما العرف والعقلاء يحملون قول المولى ( يستحب أكل الجبن ) على العنوان الأوّلي أو الاقتضائي ويحملون الثاني - وهو لا تغصب - على الحكم الثانوي الفعلي إن صحّ التعبير ، فحكمك الفعلي هو أن لا تغصب ، فمتى ما اجتمع الغصب وأكل الجبن فحرمة الغصب هو حكمك الفعلي وذاك حكم اقتضائي ، يعني إذا لم يكن غصبٌ فهو فيه اقتضاء الاستحباب أما إذا اجتمعا فالحكم الفعلي يصير هو لا تغصب ، ونفس هذه القاعدة نطبّقها في مقامنا.


[1] محاضرات في الأصول، الفياض، ج3، ص414.