الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
38/03/13
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: التنبيه الرابع - تنبيهات مسألة اجتماع الأمر والنهي.
وذكر الشيخ النائيني(قده) عدّة بيانات لتوجيه أنَّ الشمولية أقوى من البدلية رغم أنَّ الاثنين من مقدّمات الحكمة ، ونحن نذكر بيانين منها:-
البيان الأوّل:- إنَّ دليل لا تغصب الدال على الشمولية يدل على أحكام متعدّدة ، أي لا تغصب هذا الغصب ولا تغصب ذاك الغصب ولا تغصب ذاك الغصب ، فلو فرض أن أفراد الغصب التي يمكن تحققها عشرة فيوجد عشر أحكام ، بينما تعالى إلى الأمر مثل صلِّ الدال على البدلية فهو لا يدل على أحكام متعدّدة بل يدل على حكمٍ واحد متعلّق بالطبيعة - طبيعة الصلاة - فانا أريد صلاة - حكم واحد - ولكن حيث إنَّ الصلاة التي هي متعلّق الأمر لم تقيد بقيد في هذا المكان أو بذاك المكان أو بهذا الوصف أو بذاك الوصف فنستفيد أنَّ هذا الحكم الواحد هو وسيع يشمل طبيعي الصلاة من دون قيد.
فلحدّ الآن أثبت لنا الشيخ النائيني(قده) أنه في جانب النهي أحكام متعدّدة نستفيدها من لا تغصب أما في الأمر فيوجد حكم واحد متعلّق بالطبيعة ولكن الطبيعة وسيعة ، هذا شيء قد قالة.
وقال شيئاً ثانياً:- وهو أنه إذا دار الأمر بين تقديم هذا على ذاك أو بالعكس فحينئذٍ لو قدّمنا الأمر على النهي وقلنا صلِّ حتى في المغصوب وأنه مادام الغصب غصباً صلاتياً فيجوز لأجل كونه صلاتي ، وهذا معناه أنا طرحنا حكماً من الأحكام التي يدل عليها لا تغصب ، لأنَّ لا تغصب يدل على أحكام متعدّدة مثل لا تغصب بالأكل لا تغصب بالشرب لا تغصب بالنوم ..... وهكذا وواحد منها الصلاتي ، وهذا لا تغصب بالصلاة الذي هو أحد تلك الأحكام العشرة مثلاً سوف يسقط ويبقى حينئذٍ تسعة أحكام ، بينما لو عكسنا الأمر وقدّمنا لا تغصب على صلِّ فسوف لا تصير النتيجة أن ذلك الحكم الواحد الذي دلَّ عليه صلِِّ لا يلزم إلغاؤه بل يلزم تضييق دائرته وأنه تجب عليك صلاة ولكن نقيّدها في غير المغصوب.
إذن لحد الآن ثبت أنه لو قدمنا الأمر - صلِّ - فسوف يلزم إلغاء حكم واحد من الأحكام التي يدل عليها لا تغصب لأنَّ حكماً واحداً سوف نطرحه وهو أنه إذا كان في الصلاة فاطرحه ، يعني لا بأس أن تغصب مادمت في الصلاة ، بينما لو قدّمنا لا تغصب على صلِّ لا يلزم إلغاء ذلك الحكم الواحد الذي دل عليه صلِّ بل يلزم تضييق دائرة متعلّقه.
ثم ضمّ مقدّمة ثالثة:- وهي أنه كلّما دار الأمر بين إلغاء حكم من الأحكام وبين تضييق دائرة الحكم الآخر فالتضييق أولى لأنه ليس فيه إلغاء حكم بخلاف إلغاء حكم . إذن في مثل هذه الحالة نقدّم لا تغصب على صلِّ لأنه من تقديم لا تغصب غاية ما يلزم هو تضييق دائرة الأمر - الحكم الواحد - ، ولا نعكس لأنه لو عكسنا فسوف يلزم إلغاء حكمٍ ، وكلّما دار الأمر بين إلغاء حكمٍ من أحكام الله عزّ وجلّ وببين تضييق دائرة متعلّق الحكم الواحد فضيّق دائرة الحكم الواحد ولا تغلي حكماً من الأحكام[1] .
ويرد عليه:-
أولاً:- إنَّ هذا في الحقيقة قلك أنه تضييق دائرة متعلّق الحكم أولى من إلغاء حكم بلا دليل ، فالدليل هو الظهور فإذا فرضنا أنه حصل ظهور ففي مثل هذه الحالة نقول قد تولد ظهور وهو حجّة ممضاة من قبل الشارع أما أنه لا يوجد ظهور وإنما هذه قضايا استحسانية وأنه مجرّد يلزم من ذلك تضييق والتضييق أولى من إلغاء حكم فهذا ليس إلا كلام خطابي.
ثانياً:- إنه يمكن أن نقول إنه كما أنَّ هناك أحكام متعدّدة في جانب لا تغصب توجد أحكام متعدّدة في جانب صلِّ أيضاً ، فصلِّ صحيحٌ هو متعلّق بالطبيعة ولكن مادام متعلقاً بالطبيعة فعلى هذا الأساس يدل على ترخيصات متعدّدة ، يعني صلِّ في المسجد وصلِّ في البيت وصلِّ في الحمام .... وصلِّ في المغصوب ، فمقتضى الاطلاق أيضاً الترخيص في الاتيان بالصلاة في جميع الأمكنة ، فأيضاً سوف تصير أحكاماً متعدّدة ، وبالتالي إذا قدمنا لا تغصب سوف يلزم إلغاء حكماً واحداً من الأحكام التي دلّ عليها صلِّ.
وإذا قلت:- إنَّ صلِّ يدل على وجوب أصل الصلاة أما أنه صلِّ في المسجد وصلِّ في ذاك المكان ومرخّصٌ في هذا المكان ومرخّصٌ في ذاك المكان .... فهذه ليست هي المدلول المباشري لصلِّ بل هذا أشبه بالمدلول الالتزامي العرفي.
قلت:- إنَّ نفس الكلام يأتي في لا تغصب ، فإنَّ لا تغصب يدل على النهي عن الغصب أما أنه لا تغصب بالأكل ولا تغصب بالشرب فهذه أيضاً ليست هي المدلول المباشري وإنما هي لوازم عرفية.
إذن إذا أردنا أن نلاحظ المدلول المباشري المطابقي فكليهما يدلان على حكمٍ واحد ، فلا تغصب يدلّ على حرمة الغصب لا على أحكام متعدّدة وصلِّ أيضاً يدل على حكم واحد لا على أحكام متعدّدة ، وإذا لاحظنا المدلول الالتزامي العرفي فكليهما يدلّ على أحكام متعدّدة ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية.
البيان الثاني:- إنَّ النهي - يعني لا تغصب -بنفسه يدلّ على حرمة جميع أفراد الغصب بلا حاجة إلى الاستعانة بشيءٍ وهو أنَّ ملاك الحرمة موجود في جميع الأفراد ، فنحن لا نحتاج إلى هذا أو غيره بل هو يدلّ على النهي والردع عن كلّ فردٍ من أفراد الغصب ، فحينما يقول لك لا تغصب فمعناه أنه لا تغصب بالأكل وبالشرب و...... ، فهو بنفسه فيه هذه الدلالة ولا نحتاج إلى الاستعانة بمقدّمةٍ أخرى ، وهذا بخلاف صلِّ فإنه لا يدلّ على الرخصة في تطبيق الصلاة في جميع الأمكنة إلا أن نحرز أنَّ الملاك في جميع الأمكنة واحد ولا يختلف مكان عن مكان من حيث الملاك أما نفس الأمر فليس فيه دلالة على تساوي الأمكنة لأنَّ أقصى ما يدل عليه صلِّ هو مطلوبية الصلاة أما أنَّ أفراد الصلاة بلحاظ الأمكنة متساوية من حيث الملاك فهذا لا يدلّ عليه ، ولأجل أن يثبت التخيير بين الأفراد من حيث الأمكنة لابدَّ من احراز أنَّ الملاك واحد في الجميع ، ومن المعلوم أنه مع وجود لا تغصب الذي يردع عن الغصب كيف نستفيد أنَّ جميع الأمكنة في باب صلِّ هي سيّان والمكلّف مرخّصٌ بالصلاة في جميعها بما في ذلك المكان الغصبي ؟!! ، كلا نحن لا نحرز ذلك ، فعلى هذا الأساس يلزم أن نقدّم لا تغصب على صلِّ لأنَّ لا تغصب يدلّ بنفسه -بذاته - على الردع عن الصلاة في جميع أفراد الغصب ، وهذا بخلاف صلِّ فإنه بنفسه لا يدلّ على ذلك إذ هو يدلّ على حكمٍ واحد متعلّقٍ بطبيعة الصلاة وأما من حيث الأمكنة فلابد من إحراز أنَّ الملاك واحد ، ومع وجود لا تغصب كيف نحرز أنَّ الملاك واحد بما في ذلك الاتيان بالصلاة في المكان الغصبي ، فيكف نقول هذا أيضاً الملاك موجود فيه ؟! ، إنه لا يمكن ذلك بعد وجود ذلك النهي.
ويردّه:-
أولاً:- يمكن أن نقول:- هناك مثبتٌ في جانب صلِّ لكون جميع الصلاة في جميع الأمكنة هي متساوية ومرخّص فيها فإنه توجد نكتة لذلك ، وهي أنه لو كان المكان الغصبي لا تجوز فيه الصلاة لقيّد المولى ولقال صلِّ صلاةً مقيّدةً بالمكان غير المغصوب ، فعدم إشارته وعدم بيانه وسكوته عن ذلك يدل على أنَّ جميع الأمكنة متساوية من هذه الناحية ويجوز لك الاتيان بالصلاة في جميع الأمكنة.
إذن المحرز لتساوي الأفراد موجودٌ وهو عدم تقييد المتعلّق ، فإنَّ عدم التقييد هو بنفسه محرز لوحدة الأفراد من هذه الناحية وإلا لقيّد ، فالمحرز لا ينحصر بالملاك وإنما يمكن أن نحرز وحدة الملاك من ناحية عدم تقييد المتعلّق ، أو تقول إنَّ عدم تقييد المتعلّق يكشف عن وحدة الملاك في الجميع.
ثانياً:- إذا فرض أنَّ المحرز ليس بموجود في جانب صلِّ فهو أيضاً ليس بموجودٍ في جانب لا تغصب ، فإنَّ لا تغصب بالدلالة المطابقية هو يدلّ على النهي عن طبيعة الغصب لا أنه بالمباشرة وبالمطابقة يدلّ على أحكامٍ متعدّدة ، يعني ابتداءً وبالمطابقة هو لا يدلّ على أنه لا تغصب بالأكل ولا تغصب بالشرب ولا تغصب بالنوم ..... وأحدها لا تعصب بالصلاة ، كلا هو بالمباشرة لا يدلّ على ذلك بل يدلّ بالمباشرة على حرمة طبيعة الغصب ، فإذن إذا صار البناء على أن نشير وفق هذه الدّقة بلحاظ صلِّ يلزم أن نطبّق نفس الكلام من ناحية لا تغصب لأنه يدلّ على نهيٍ واحد وهو نهيٌ عن الطبيعة كما قلنا لا أنه ابتداءً يدلّ على أحكامٍ متعدّدة بعدد الأفراد فيلزم إحراز وحدة الملاك ، وكيف نحرز وحدة الملاك مع وجود الأمر بالصلاة الذي هو مطلق ؟!!
إذن الوجه الأوّل لتقديم النهي على الأمر - وهو أنَّ النهي أقوى من جانب الأمر بالبيانين اللذين ذكرهما الشيخ النائيني(قده) - قد اتضح اندفاعه.