الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
38/03/10
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- تتمة التنبيه الثاني ، التنبيه الثالث - تنبيهات مسألة اجتماع الأمر والنهي.
وفيه:-
أما ما أفاده أوّلاً[1] فيمكن أن يقال:- بل هو يدلّ على الترخيص الفعلي لا أنه يدل على الترخيص من ناحيته؛ إذ لو كان يدل على الترخيص من ناحيته فسوف لا نستفيد منه - أي من صلِّ ومن كلِّ مطلق - لأنه يقول من ناحيتي لا مانع أما إذا وجد مانع من الجهة الأخرى فذاك مطلبٌ آخر ، فهو لا يدل على الترخيص الفعلي بل من ناحيته ، فلا يمكنني أن أأتي بالصلاة في هذا المكان أو في ذاك المكان أو في ذاك المكان الآخر لاحتمال أنه سيأتي في المستقبل ما يدل على المنع إذ المفروض أنَّ غاية ما يدل عليه صلّ أنه من ناحيتي لا مانع أما من ناحية الغير فتلك قضيّة أخرى ، ونحن نحتمل في كلِّ مطلق أنه في غد أو ما بعد غذ أو ما بعده سوف يصدر من المولى مقيّدٌ ، فلا يمكن حينئذٍ العمل بأيّ مطلق من المطلقات إذا لم تدلّ على الترخيص الفعلي ، فيلزم أن نقول هي تدلّ على الترخيص الفعلي حتى يمكن الاستفادة من المطلقات ولا يلزم محذور كونها عاطلة باطلة ، فإنه على ما أفاده السيد الشهيد(قده) يلزم أن تكون المطلقات سوف لا نستفيد منها أبداً مادمنا نحتمل صدور المقيّد من المولى والحال أنَّ الموالي العرفيين يتمسّكون بالمطلقات مادام لم يصدر مقيّد من قبل المولى فهو يعملون بالإطلاق مادام لم يصدر مقيّد من المولى لا أنه يعطّل الاطلاق عن العمل به.
وأما ما أفاده ثانياً[2] فنحن نقول:- إنَّ التنافي بلحاظ عالم المبادئ شيء صحيح ولكن لا داعي إلى نقلها إلى عالم المبادئ بعدما فرض أنه يمكن اثبات المنافاة بلحاظ نفس التكليف - نفس الأمر والنهي - قبل ملاحظة المبادئ ، فلو فرضنا أنا كنا أشعريين فالأشعري لا يقول بوجود مبادئ فالوجوب والحرمة لا ينشأ من مصلحة ومفسدة لأنَّ غاية ما يلزم أن تقول هو قبيح فأقول لك من الذي حكم بأنه قبيح فإنَّ العقل لا يحكم بأنه قبيح ، فهم عطّلوا العقول[3] ، فلو عطّلنا العقول عن الحكم بتبعية الأحكام للمبادئ وقلنا إنَّ الأحكام لا تنشأ من المبادئ مع ذلك يمكن أن نحقّق التنافي قبل الوصول إلى مرحلة المبادئ.
ولا أريد أن أقول ما ذكره السيد الشهيد(قده) غير صحيح ، وإنما هو صحيح ولكن أقول له إنه قبل الوصول إلى ذلك يمكن أن يتحقق التنافي ، فلا تصل النوبة إلى عالم المبادئ ، بل اذهب إلى عالم نفس الحكم وذلك بأن يقال هكذا:- إنَّ الوجوب المنصبّ على الجامع ينحل إلى وجوبات مشروطة بعدد الأفراد ، فحينما يقال صلِّ يعني معناه أنه صلّ في هذا المكان إن لم تأت بالصلاة في ذاك المكان وصلَّ في ذاك المكان الثاني إن لم تأتِ بها في هذا المكان .... وهكذا ، فهذا انحلال في عالم الأمر والوجوب ، فكلّ صلاة هي واجبة في كل مكان وفي كلّ زمان وفي كلّ ملبسٍ ..... بشرط أن لا تأتي بها في المكان الثاني أو بشرط أن لا تأتي في المكان الثالث ... ، وهذا نظيره ما قيل في باب الوجوب التخييري ، فبعضهم قال إنَّ حقيقة الوجوب التخييري هو أنَّ الواجب هو الجامع ووجوب الجامع ينحل إلى وجوبات مشروطة بعدد الأفراد ، فحينما يقول لك اعتق فهذا معناه أنه اعتق هذه الرقبة إذا لم تعتق تلك الرقبة واعتق تلك الرقبة إذا لم تأت بتلك ... وهكذا ، وهذا شيء عرفي وعقلائي.
وإذا قبلنا بهذا فأحد الأفراد هو الصلاة في الحمّام - صلِّ في الحمام إن لم تأت في غيره - ، فقبل أن نذهب إلى عالم المبادئ أمر صلِّ هو يدلّ على وجوب الصلاة في الحمّام إن لم تأتِ بها في مكانٍ آخر ، فإذا كان يوجد أمر بالصلاة في الحمّام إن لم تأتِ بها في مكانٍ آخر فسوف يتنافى هذا مع لا تصلّ في الحمّام بقطع النظر على المبادئ ، يعني حتى على رأي الأشعري يمكن أن نبرز هذه المنافاة.
وأنا لا أريد إنَّ أقول إنَّ المنافاة التي ذكرها السيد الشهيد(قده) ببيانه المتقدم ليست صحيحة ، بل أقول يمكن أن نبيّن المنافاة قبل الوصول إلى مرحلة المبادئ بالشكل الذي أشرنا إليه.
إذن اتفقنا جميعاً[4] على أنَّ المنافاة موجودة غاية الأمر السيد الشهيد(قده) أراد أن يبيّن المنافاة بتوجيهٍ ونحن حاولنا أن نبيّنها بتوجيهٍ آخر كما أنَّ الشيخ النائيني(قده) بينها بتوجيهٍ ، ولكن هذه قضية ثانية ، ولكن نحن اتفقنا على أنَّ المنافاة موجودة بين صلِّ وبين لا تصلِّ - يعني بين الأمر بالطبيعي والنهي عن الحصة - ، وإذا تحققت المنافاة فلازمها التخصيص ، يعني نحصّص أمر صلِّ بالنهي ، يعني تصير النتيجة هي أنه صلِّ في غير الحمّام - أي صلِّ في أيّ مكانٍ إلا في الحمّام - ، فيصير هذا مقيّد لذاك فإنَّ لازم المنافاة هو هذا ، ولعلَّ هذا منبّه على ما أشرنا من الاشكال في كلام السيد الشهيد(قده) على هذا - يعني تسليم فكرة التخصيص - لأنَّه لا نظن أنَّ أحداً لا يقبل بفكرة التخصيص في هذا المورد ، بل التخصيص مسلَّم ، لازم التخصيص المنافاة وإلا إذا لم تكن منافاة فالتخصيص ليس موجوداً ، وهذا يؤكد المناقشة التي أشرنا إليها في مقابل السيد الشهيد(قده) فإنه نقول له:- أنت لابد وأن لا تبني على التخصيص لأنه لا توجد منافاة بين صلِّ وبين لا تصلِّ في الحمّام في عالم الأمر - التكليف - لأنَّ صلِّ يقول ( من ناحيتي ) ، وهذا لا ينافي لا تصلِّ في الحمّام ، فإذا لم تكن منافاة فلا تخصيص ، والحال أنَّ التخصيص مسلَّم بين الجميع بلا إشكال وأنت أيضاً تقول به ، فنفس التخصيص منبّه على أنَّ صلِّ لا يدل على الترخيص من ناحيته فقط ، بل يدلّ على الترخيص الفعلي؛ إذ لو كان يدلّ على الترخيص من ناحيته فالمنافاة سوف ترتفع وبالتالي لا نقول بفكرة التخصيص.
التنبيه الثالث:- ثمرة البحث - يعني ثمرة مبحث اجتماع الأمر والنهي -.
وقبل بيان هذه الثمرة نقدّم مقدّمة لبيان الفارق بين باب التزاحم وباب التعارض فما هو الفارق بينهما:- ومن المناسب أن يبيّن هذا المطلب في باب تعارض الأدلة ولكن لا بأس بالإشارة إليه هنا لحاجتنا إليه ؟
التعارض هو التنافي والتكاذب بين الدليلين في عالم الجعل والتشريع ، فمن زاوية التشريع هذان لا يجتمعان ، كما في المتباينين مثل صلِّ ولا تصلِّ ، فهذان لا يمكن صدورهما في عالم التشريع ، والعاقل لا يمكن أن يصدر منه هذا ، وهكذا لا يمكن أن يقول لك أكرم كلَّ عالمٍ ثم ينهى عن إكرام أيّ فاسق ، فهذان بينهما عموم وخصوص من وجه فأيضاً لا يمكن أن يجتمعا في عالم التشريع ، يقول لك أكرم كلَّ عالمٍ فـ( كل ) بعمومها تشمل حتى الفاسق ، ثم يقول لك بعد فترة يحرم عليك إكرام كلِّ فاسق يعني حتى العالم ، فهذان الاثنان لا يمكن صدورهما من عاقلٍ في عالم التشريع ، فإذا كان لا يمكن صدور الدليلين في عالم التشريع كما في مورد التباين الكلّي أو في مورد العموم والخصوص من وجه فهذا يسمّى باب التعارض ، وفي باب التعارض المرجّح لتقديم أحدهما على الآخر إن كان قوّة في ظهور أحدهما أقوى بالنسبة إلى الآخر فسوف نقدّمه - ولا تلحظ الأهمّية هنا فالأهمّية هنا - أو موافق للعامة فنطرحه أو موافق للكتاب والسنّة فنأخذ به إلى غير ذلك من هذه الأمور ، وإذا فرضنا أنَّ كلّ هذه الأمور مفقودة فحينئذٍ مقتضى القاعدة الأوّلية هو التساقط ونرجع إلى العموم الفوقاني إن كان وإن لم يكن فإلى الأصل العملي.
وأما التزاحم ففي التزاحم لا تكاذب بين الدليلين في عالم التشريع بل بينهما كمال الملائمة إلا أنَّ المكلّف في عالم الخارج تضيق قدرته أحياناً عن امتثالهما معاً ، من قبيل صلّ وأزل النجاسة ، فصلِّ منصبٌّ على موضوعة وليس له ربط مع الازالة ، فالإزالة ليست مصداقاً للصلاة ولا الصلاة هي مصداق للإزالة ، بل كلّ واحدٍ منهما منصبّ على موضوعه الخاص - وهذا بخلافه في أكرم العالم ولا تكرم الفاسق فإنَّ الفاسق قد يكون مصداقاً للعالم وقد يكون العالم مصداقاً للفاسق - ، وكلٍّ واحدٍ غير الآخر ولكن المكلّف اتفاقاً ضاقت قدرته على امتثالهما معاً فلا تكاذب في عالم التشريع وإنما يحصل التنافي في عالم القدرة والامتثال ، وهنا ما هي المرجّحات ؟ إنها الأهمّية ، فأيُّ واحدٍ منهما محتمل أو مجزوم الأهمية سوف نقدّمه ، فنقول مثلاً الازالة فورية بخلاف الصلاة فإنه فيها مجال أو فيها بدل القضاء أو غير ذلك ، فحينئذٍ سوف يصير المرجّح ليس هو قوّة الظهور أو موافقة الكتاب والسنّة أو مخالفة الغير كما كنّا نقول في المتعارضين وإنما الأهمّية.
وبعد اتضاح الفرق بين باب التعارض وباب التزاحم نأتي إلى بيان الثمرة فنقول:- إنَّ ثمرة اجتماع الأمر والنهي هي أنه بناءً على الامتناع[5] - يعني أنَّ المتعلّق للأمر والنهي واحد - فإذن كيف يجتمع فيه الأمر والنهي ؟! فهذا لا يمكن أن يجتمع بهما فهنّ واحد خارجاً - يقول صلِّ وأيضاً لا تغصب - فهما قد توجها إلى شيءٍ واحدٍ فيصير بينهما تعارض.
وأما إذا فرض أننا بنينا على جواز الاجتماع - يعني أنَّ المتعلّق متعدّد - فإذا كان المتعلّق متعدّد خارجاً فلا يحصل تعارض لأنَّ الأمر يكون منصبّاً على هذا المتعلّق والنهي منصبّ على ذاك المتعلّق ، فتعدّد المتعلّق ، فلا وحدة ، فلا يوجد تعارض بينهما ، ولكن مرّةً توجد مندوحة ، ومرّة لا توجد مندوحة يعني يمكن أن تترك هذان وتأتي بالصلاة في مكانٍ آخر غير الغصب ، فإذا فرض أنه كانت هناك مندوحة فحينئذٍ يمكن امتثالهما معاً فلا تعارض ولا تزاحم ، أما إذا لم تكن هناك مندوحة فسوف يقع التزاحم بينهما فيقدّم الأهم.