الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

38/02/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- تنبيهات مسألة اجتماع الأمر والنهي.

تنبيهات مسألة اجتماع الأمر والنهي:-

التنبيه الأوّل:- تحقيق بعض ما يدّعى كونه من مصاديق الاجتماع.

هناك مصاديق قد يدّعى أنها من مصاديق الاجتماع ، ونريد تحقيق الحال فيها بشكلٍ أكبر:-

باب الصلاة في المغصوب:- المعروف أنَّ باب الصلاة في المغصوب هو من موارد اجتماع الأمر والنهي باعتبار أنَّ الصلاة مأمور بها والغصب منهي عنه وهما خارجاً شيء واحد فيلزم حينئذٍ اجتماع الأمر والنهي ، وهذا الكلام نتكلّمه بناءً على رأي صاحب الكفاية(قده) الذي يرى أنَّ الأحكام تتعلّق بالوجود الخارجي فيلزم الاجتماع ، أما على رأينا ورأي من يرى أنَّ الأحكام تتعلّق بالعناوين فلا اجتماع أبداً فإنَّ عنوان الصلاة غير عنوان الغصب فلا اجتماع ، فإذن هذا البحث على مبنى من يقول باجتماع الأمر والنهي في باب الصلاة في المغصوب- يعني يرى تعلق الأحكام بالخارج لا بالعناوين -.

والذي نريد أن نقوله:- هو أنَّ الصلاة هي مجموعة أجزاء وشرائط وأين يلزم الاجتماع هل في كلِّ جزء من تلك الأجزاء و في بعضٍ دون آخر ؟

أوّلاً:- إنَّ من أحد أجزاء الصلاة النيّة أو الشرائط ، وفي هذا هل يلزم اجتماع أمر ونهي ؟ كلا ، فإنَّ النيّة أمرٌ قلبي وداعٍ قلبي في النفس وهذه النيّة هي تصرّف في القلب إن كان تصرف القلب في النفس لا في الدار المغصوبة ، فإذن بلحاظها لا يتحقّق اجتماع أمر ونهي وهذا واضح.

ثانياً:- أن يفترض ذلك في الأذكار - ومقصودي من الأذكار يعني بالمعنى الأعم - ، من قبيل تكبيرة الاحرام أو سورة الحمد وسورة ثانية أو أذكار السجود والركوع فهذه الأذكار يلزم فيها اجتماع أمر ونهي ، ببيان أنَّ من يتكلّم سوف يخرج من فمه ما يوجب التصرّف في الهواء لأنَّ الهواء سوف تحصل فيه تموّجات بسبب كلامه ، فالهواء الملامس لفمه سوف تحصل فيه حركة وتموّج وهذا تصرَّفٌ في الهواء وهذا يعدّ تصرفاً في المغصوب فلا يجوز ، فاجتماع أمرٍ ونهي سوف يلزم في ذلك فباعتبار أنه مصداق للتكبير أو للقراءة يكون واجباً وباعتبار أنّه يكون تصرّفاً في هواء الفضاء المغصوب فيكون محرّماً.

ويردّه:- إن الانسان المالك للدار وإن كان يملك فضائها ولكن يملكه إلى الحدود المتعارفة ، وهذه مسألة ينبغي أن نلتفت إليها ، فهو يملك الفضاء بالمقدار المتعارف كربع كيلومتر أو كيلو متر لا أنه يملكه إلى عنان السماء وإلا يلزم أنه إذا ركب شخص منطاداً ومرّ على الدار من مسافة عالية نقول له يحرم عليك المرور من هنا ، ولا يقول أحد أنَّ هذا تصرف في مال الغير وهو لا يجوز فإنَّ هذا الشيء غير محتمل ، نعم النزول إلى فضائه القريب لا يجوز إلا بإذنه أمّا المرتفع فلا ، فالإنسان وإن كان يملك فضاء داره المملوكة ولكن إلى الحدود المتعارفة وهذا يرجع إلى العرف أما انه يملك ذلك إلا عنان السماء فإنَّ هذا احتماله غير موجود وسيرة العقلاء والمتشرعة على خلاف ذلك ، فهم يتصرَّفون في الفضاء ولا يتوقّفون ، وحتى في الفضاء من جانب الأسفل ، يعني إذا فرضنا أنَّ الدولة تريد أن تحفر تحت داره مسافة كيلو متر أو أكثر فهل يحتاج هذا إلى إذنه ؟ كلا ، فكما أنه لا يحتاج إلى الإذن من جهة العلوّ كذلك من لا يحتاج الاذن جهة الانخفاض ، وهذه مسألة جانبية علمية يجدر الالتفات إليها وهي أنَّ الانسان لا يملك فضاء داره العلوي والسفلي إلى تخوم الأرض أو إلى عنان السماء وإنما يلك ذلك بالحدود المتعارفة - والحدود المتعارفة قد نختلف فيها ولكن هذا ليس بمهم -.

فنحن وإن قبلنا بأنَّ الانسان المالك للدار يملك فضاءها بالحدود المتعارفة لكن لا يملك هواء ذلك الفضاء فإنَّ هذا يحتاج إلى مثبت وهذا لا مثبت له ، بل لعلّ المثبت على العكس ، فلو فرضنا أنَّ إنساناً وضع مفرّغة هواءٍ في داره وهي تسحب الهواء من الجيران فهل يحقّ للجار أن يمنعه ويقول له أنت سحبت هواءنا ؟ فإن أي عاقل يسمع بهذا فسوف يضحك ، ولازمه أيضاً أني لا أتمكن أن أوجّه المروحة بالشكل الذي تؤثر فيه على هواء جاري فيقول لي أنت الآن تتصرف بهواء داري بواسطتها ، إنَّ هذا الكلام ليس عقلائياً ولا يمكن قبول.

إذن الانسان وإن ملك فضاء داره بالمقدار المتعارف لكنه لا يملك هواء ذلك الفضاء ، ومادام لا يملك هواء ذلك الفضاء فالتموّجات التي تحصل من خلال القراءة والذكر لا تكون تصرّفاً محرّماً فإنه تصرّف في لسانه وفي فمه والهواء لا يملكه حتى يكون تصرّفاً في ملك الغير ، ولو تنزّلنا وقلنا أنَّ هواء الفضاء يملكه مالك الدار لكن ليس كلّ تصرّف في ملك الغير هو محرّم وإنما توجد بعض التصرّفات دليل الحرمة منصرف عنها من قبيل أني أمرّ بجانب حائط الغير وفي أثناء مسيري عباءتي لامست سياج هذه الدار فهل يعدّ هذا تصرفاً محرّماً ويأتي متشرّع ويجرّ عباءتي عنه ويقول لكي لا يصير تصرّفاً في ملك الغير فإنَّ هذا مضحكٌ ، فإنه وإن صارت ملامسة للحائط ولكن هذا لا يعدُّ تصرفاً محرّما ، أو لا مست يده حائط الغير أثناء مسيره فمجرّد الملامسة لا يعدُّ تصرفاً محرّماً.

إذن ليس كلّ تصرف في ملك الغير يكون محرّماً ، بل بعض أنحاء التصرّف إما أنها لا تعدُّ تصّرفاً عرفاً أو أنَّ الدليل منصرف عنها ، ومنها التصرّف في هواء الغير بتغيير تموّجاته فهذا إما أنَّ العرف لا يسمّيه تصرّفاً أو يسمّونه تصرفاً ولكن دليل الحرمة وأنه ( لا يحل مال امرئ مسلم ألا إلا بطيبة نفس منه ) منصرف عن مثل هذا ، فإذن من ناحية الأذكار اتضح أنه لا يتحقّق اجتماع أمر ونهي بل هناك أمرٌ بلا نهي.

ثالثاً:- الركوع والسجود القيام ، نقول هذه يلزم فيها اجتماع الأمر والنهي إذ هي بما هي ركوع أو سجود تكون واجبة لأنها من أجزاء الصلاة وباعتبار أنها تصرف في الفضاء المغصوب تكون محرَّمة فإذن يكون محرَّماً ، فحينما اذهب إلى الركوع فهذا مصداق للواجب ومصداق للتصرّف في مال الغير فيلزم فيه اجتماع أمر ونهي وكذلك في السجود والقيام من الركوع إلى السجود أو القيام من السجود إلى القراءة نقول يلزم فيه اجتماع أمر ونهي بهذا البيان.

ويرده:- إن من يركع هو قد تصرف في بدنه حيث حصل انحناء في ظهره فالراكع تصرّف في بدنه بالانحناء والتصرّف في البدن لا إشكال فيه ولا يوجب الحرمة وهو ليس تصرّفاً في ملك الغير حتى يلزم أنه باعتبار أنها ركوع وسجود يصير واجباً ، وباعتبار أنه تصرّف في ملك الغير فيصير حراماً ، هكذا قد يتصوّر كما قلنا ولكن جوابه أنه يتصرّف في بدنه فهيئة بدنه سوف تختلف ولا يلزم من ذلك التصرّف في المغصوب.

إن قلت:- إنه حينما انحنى حصل بذلك تصرّف زائد لأنه شغل مساحة أكبر بسبب الانحناء فيصير هذا تصرّفاً محرّماً بهذا الاعتبار ، وهكذا بالنسبة إلى السجود خصوصاً إذا كان الشخص يمدّ جبهته وتصير مكان المسجد كبير فهذا تصرّف في ملك الغير بدرجةٍ أكبر.

قلت:- المحرّم هو الكون في ملك الغير ، يعني بنفس دخول دار الغير هو تحقّق الغصب وتحقّق الحرام أما التصرّفات الأخرى فلا تعدّ تصرفاً زائداً منهياً عنه ومحرّماً ، فأنا حينما أدخل دار الغير يقال إنَّ كونك ودخولك في دار الغير محرّم هذا صحيح فنفس الكون ونفس التواجد في ملك الغير هو محرّم أما أن أحرّك رأسي إلى الأسفل فهل هذا تصرّف أكثر وصار محرّماً ثانياً وتصرّفاً آخر وحينما ترفع يدك أو رأسك حينما تحرّكه فهل هذه التصرّفات سوف تصير محرّمة بحيث أكون قد ارتكبت محرّمات متعدّدة واستحق عدّة عقوبات ، فالكون حرام وحركة اليد حرام وحركة الرأس حرام ... وهكذا ؟! إنه لا يحتمل أحدٌ ذلك ، فالحرام يتحقّق بنفس الكون أما هذه الأمور ليست أمور محرّمة زائدة على أصل الكون حتى يلزم من ذلك اجتماع أمر ونهي.

إضافة إلى هذا نقول إنَّ الانسان بكيفياته المختلفة في المكان نسبة تصرفه تبقى نسبة واحدة ولا تزداد - وهذا بحسب الدقة - ، باختلاف تصرفاته فلو دخل وجلس يحصل له مقدار من التصرّف وإذا قام ووقف لا يحصل له حينئذٍ تصرّف زائد ، فإنه حتى بالنظرة الدّقية يشغل مقداراً واحداً لا يختلف بتغير الهيئات ، فإذا أردنا أن نتساير مع الدّقة فالأمر كذلك أيضاً إذ لا يحصل بذلك زيادة فإنه على هذا الأساس بركوعه في الحقيقة تصرّف زائد على الكون ، فالكون هو حرام وهذا التصرّف الزائد لا يعدّ تصرّفاً زائداً محرّماً ، إضافةً إلى أنه ليس باختلاف الهيئة لا يختلف مقدار التصرّف زيادة ونقيصة ، بل يبقى التصرّف بمقدارٍ واحد.

وإذا قلت:- إذا فرضنا أنه هوى إلى الركوع فهذا تصرّف زائد ، أو قام من السجدة ، فيلزم حينئذٍ اجتماع الأمر والنهي في الهُويِّ والنهوض التي هي واجبة والمفروض أنها محرّمة باعتبار أنها تصرّف زائد فيلزم من ذلك اجتماع الأمر والنهي في الهُويِّ والنهوض ؟ فنحن قبلنا بذلك في السجود والركوع ولكن في الهوي والقيام فلا.

قلت:- الهُويِّ لا يلزم منه زيادة تصرّف في المغصوب كما ذكرنا ، فالإنسان لو كان جالساً فله مقدار من التصرّف ، وهذا المقدار من التصرّف لا يتغير بهويه بل يبقى واحداً ولا يتغير ، ولو سلّمنا أنه يتغيّر فالهُويُّ ليس واجباً بل الواجب هو الركوع والسجود أما الهُويُّ بنفسه ليس بواجبٍ بل هو مقدّمة للركوع والسجود ولو أمكنك أن تسجد بلا هُوِيّ كنت ممتثلاًً ، وإن امكنك أن تقف للقراءة بلا نهوض كان كافياً ، فالنهوض ليس من واجبات الصلاة حتى يلزم اجتماع الأمر والنهي ، بل إنما يكون فيه نهي فقط لو قلنا أنه تصرّف ولا يوجد فيه أمر ، وهكذا الهُوِيُّ فهو مقدّمة لتحقّق السجود أو مقدّمة لتحقّق الركوع وهو بنفسه ليس واجباً ، ولذا الفقهاء لا يعدّون الهُوِيُّ من واجبات الصلاة وإنما يعدّون الركوع والسجود من الواجبات ، فأنت إذا استطعت من دون هُوِيّ أن تصير راكعاً كفى ذلك ، فعلى هذا الأساس لا يلزم من الهُوِيّ ومن النهوض زيادة تصرّف محّرم إما لأجل أنَّ الانسان هو يشغل في المكان المغصوب هيئة واحدة وشكل واحد لا يزداد ولا يقلّ باختلاف هيئته ، أو لو تنزّلنا نقول إنَّ الهُوِيَّ والنهوض ليس في حدّه من واجبات الصلاة.