الموضوع: جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه.
ورابعاً:- إنه بناءً على تعلق الأحكام بالوجودات الخارجية يلزم أن لا يوجد عصيان فالعصاة لا نقول لهم عصاة لأنه لم يصلِّ فإذا لم يصلِّ فصلاة خارجية ليست موجودة ، وإذا لم تكن الصلاة الخارجية موجودة فلا أمر ، فإذن هو ليس بعاصٍ ، وهل تلتزم بهذا ؟ إنه لا يمكن الالتزام بهذا.
خامساً:- توجد بعض العناوين من حيث المعنون هي واحد ولكن من حيث العنوان هي متعدّدة ، فعنواناً هي متعدّدة ولكن معنوناً هي واحدة ، من قبيل المذّكى وعدم الميتة ، فنحن عندنا جواز الأكل - ﴿ وكلوا مما ذكيتم ﴾[1] فالمقصود من كلوا في الآية هو الاباحة لا الوجوب - مترتب وثابت للمذكّى أما النجاسة فهي ثابتة لنعوان الميتة فإنَّ الأدلة قد أثبتت النجاسة لعنوان الميتة وعنوان الميتة عنوان وجودي لأنه هو ما زُهِقت روحه لا بسببٍ شرعي ، ففي مثل هذه الحالة نقول لو فرض أن المولى أراد أن يصبّ الحكم على عنوان الميتة لا على عنوان غير المذكى ، فهو يريد أن يصبّ النجاسة على عنوان الميتة لا على عنوان المذكّى ، إنه إذا صبّه على عنوان غير المذكّى فسوف يلزم من ذلك أنًّ كلّ حيوان مشكوك التذكية فالأصل هو عدم التذكية وعليه فسوف يصير نجساً ، فالمولى أراد أن يخفّف على العباد فأراد أن يصبّ النجاسة على الميتة وباستصحاب عدم تحقّق التذكية لا يثبت عنوان الميتة ، فنقول للمكلّف هذا اللحم الذي جُلِب من دولة غير اسلامية لكن نحتمل وجود قصّاب مسلّم فيها قد ذكّاه هذا يحرم أكله لاستصحاب عدم التذكية ولا توجد أمارة حاكمة وهي يد المسلم لأننا أخذناه من الكفّار - ولكن نحتمل أنه قد ذكّاه المسلّم - ، فمن حيث حرمة الأكل نحكم بالحرمة ، ولكنه ليس بنجس ، فالنجاسة منصبّة على عنوان الميتة لا على عنوان غير المذكّى ، بينما حرمة الأكل منصبّة على عنوان غير المذكّى ، فالذي يجلب من بلاد الكفر مع احتمال أنه قد ذكّاه شخص مسلم لا يجوز أكله لاستصحاب عدم التذكية ولكن لا ينجِّس إذا أصاب ملابسي لعدم ثبوت كونه ميتة لأنَّ الميتة عنوان وجودي ولا يمكن باستصحاب عدم التذكية اثبات أنه ميتة إلا بنحو الأصل المثبت ، وهذا كلّه صار واضحاً.
فإذا كانت الأحكام تنصبّ على الخارج ولا تنصبّ على الصور الذهنية فالخارج لا توجد فيه ميتة وغير مذكّى بل غير المذكى هو الميتة والميتة هو غير المذكى ، فلا يوجد بينهما اختلاف في عالم الخارج فلا يوجد وجودان وجود للميتة ووجودٌ لغير المذكى ، بل نفس هذا الحيوان الذي جلب من دولة غير اسلامية نقول هو ليس بمذكّى بالاستصحاب وفي نفس الوقت ربما نقول هو ميتة أو لا نقول ذلك فهذه قضية ثانية ، فبالتالي لا يوجد وجودان في الخارج حتى تنصبّ النجاسة على الميتة بينما حرمة الأكل تنصبّ على عدم المذكى ، فخارجاً لا يوجد شيآن وهذا يدلّ على أنَّ الأحكام تتعلّق بالصور الذهنية فإنه توجد صورتان ذهنيتان صورة ذهنية لغير المذكّى وصوة ذهنية للميتة فتتعلّق النجاسة بالصورة الذهنية للميتة والحرمة تتعلق بتلك الصورة الذهنية الأخرى ، إنَّ هذا يمكن تصوّره بناءً على تعلّق الأحكام بالعناوين والصور الذهنية ، أما بناء على تعلّق الاحكام بالمعنونات الخارجية فخارجاً لا يوجد شيآن أحدهما ميتة والآخر غير مذكّى حتى نصبّ على أحدهما عنوان النجاسة ونصب على الآخر حكم حرمة الأكل فإنَّ هذا الشيء غير ممكن والحال أنه لا إشكال في إمكانه ، فثبوت الإمكان منبّهٌ قويّ على أنَّ الأحكام تتعلّق بالعناوين دون المعنونات - أي بالصور الذهنية دون الخارج - ، ولا يخفى لطفه.
ولعلّه بالتأمل نحصل على منبّهات أخرى ولكن يكفينا هذا المقدار.
إن قلت:- إذا كانت الأحكام تتعلق بالصور الذهنية فيلزم من ذلك أنَّ المكلّف لو جلس في الغرفة وحده وتصوّر الصلاة ورأى بها الخارج أنه قد تحقق المطلوب لأنَّ الوجوب متعلّق بالصورة الذهنية وهو قد جلس وتصور فتحقّق المطلوب ، فإذن لا حاجة إلى أن يقوم ويتوضأ ويصلّي خارجاً لأنك تقول إنَّ الأحكام متعلّقة بالصور الذهنية بما هي عين الخارج ، فأنا أتصوّر الصلاة وأرى بها الصلاة الخارجية ، فهل تقول إنَّ الامتثال قد تحقق ؟! كلا لم يتحقق الامتثال ، وهذا ردٌّ عليك أي هذا منبِّهٌ وجداني على العكس ، أي على أنَّ الأحكام لا تتعلّق بالصور الذهنية وإنما تتعلّق بالخارج.
قلت:- نحن حينما نقول الأحكام تتعلّق بالصور الذهنية أيّ صورة ذهنية نقصد ؟ ليس المقصود الصورة الذهنية عند المكلف - يعني أنا وأنت - فإنَّ الحكم هو قد صدر من المولى ، فالذي يتصوّر ليس هو المكلّف وإنما هو المولى ، والمولى قبل أن يصدر الحكم هو قد تصوّر الصلاة وإلا لا يمكن أن يصدر الحكم قبل أن تصوّر الصلاة ، فالتصوّر المطلوب هو من المولى وليس من العبد حتى تقول إنَّ العبد قد حقّق الصورة الذهنية ، فالتصوّر اللازم هو من المولى لأنَّ المولى هو المشرِّع وهو الذي يصدر الحكم فهو الذي يحتاج إلى التصوّر والصورة موجوده عنده قبل أن يصدر الحكم ، فإذن ما معنى إصدار الحكم من المولى بعد فرض وجود الصورة ؟ إنه لابدَّ وأن يكون مقصود المولى هو أنَّ هذه الصورة حققها أيها المكلف في عالم الخارج ، إنَّ هذا ينبغي أن يكون هو المقصود ، فالمطلوب هو تحقيق الصورة الذهنية خارجاً ، ومعه لا يلزم محذور كفاية التصوّر الذهني إذ المطلوب هو تحقيق الصورة الذهنية خارجاً.
إن قلت:- إذا نظر إلى الصورة بما هي عين الخارج فسوف يسري الحكم إلى الخارج شئت أم أبيت ولا يبقى مستقراً على الصورة الذهنية لأننا لاحظنا الحكم منصّباً على الصورة الذهنية بما هي عين الخارج ، وما دمنا قد لاحظنا الصورة بما هي عين الخارج فسوف يسري الحكم إلى الخارج فعادت المشكلة ، فبالتالي أنت سوف تلتزم بتعلّق الأحكام الشرعية بالموجودات الخارجية لكن بحسب النتيجة والنهاية وإن كان بادئ ذي بدءٍ أنت تقول الحكم يتعلّق بالصوة الذهنية لا بالخارج لكن بالتالي مادمت تقول إنَّ الحكم يتعلّق بالصورة الذهنية بما هي ملحوظة عين الخارج فسوف يسري الحكم إلى الخارج ، فصار منصبّاً ومتوجها إلى الخارج فعادت المشكلة ، وصحّ بذلك رأي صاحب الكفاية(قده) من أنَّ الأحكام تتعلَّق بالوجودات الخارجية.
قلت:- إنَّ النظر إلى الصورة بما هي عين الخارج مصححٌ لصبّ الحكم على الصورة؛ إذ لا يصحّ عقلائياً صبُّ الحكم على الصورة بما هي صورة والذي يصحّح ذلك هو النظر إلى الصورة بما هي عين الخارج ، فالنظر إليها كذلك مصحّح لصبّ الحكم عليها لكن من دون أن يسري الحكم إلى الخارج وإلا يأتي ما ذكرناه قبل قليل من أنه لو كان يسري إلى الخارج فنسأل أنَّ تلك الصلاة هي موجودة أو غير موجودة ؟ فإن لم تكن موجودة فعلى أيّ شيءٍ يقف الحكم وينصبّ ؟!! ، وإذا كانت موجودة فسوف يلزم من ذلك طلب تحصيل الحاصل . إذن لابدّ وأن تكون النظرة إلى الصورة بما هي عين الخارج دورها دور المصحّح لتعلّق الحكم بالصورة من دون أن يستوجب ذلك سريان الحكم إلى الخارج وإلا يأتي ما ذكرناه.
ومن خلال هذا كلّه اتضح أنَّ الأحكام تتعلَّق بالصور الذهنية بما هي عين الخارج ، خلافاً للشيخ الخراساني ، ويترتّب على هذا أنه لا يلزم من ذلك اجتماع الأمر ولا النهي في شيءٍ واحد؛ إذ دائماً الأمر بالصلاة يتعلّق بصورة الصلاة بما هي عين الخارج ، والنهي يتعلَّق بصورة الغصب ما هي عين الخارج ، والصورتان متغايرتان وليست واحدة عين الأخرى ، فأين يلزم اجتماع الأمر والنهي ؟! إنه لا يلزم اجتماعهما.