الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
38/01/22
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- النواهي.
والأجدر أن يقال:- إنَّ تعدّد الحكم نستفيده من قرائن خارجية ، وهذه القرائن تختلف باختلاف الموارد والمقامات والأحكام ، فربما في حكم نستفيد الانحلال بينما في حكم آخر لا نستفيد الانحلال تبعاً للقرائن ، ونتمكن أن نقول الانحلال نستفيده في موردين:-
المورد الأوّل:- بلحاظ الموضوع إذا كان الحكم تحريمياً ، من قبيل يحرم شرب الخمر ، فإنَّ الخمر موضوع وليس بمتعلّق إذ الشرب هو المتعلّق ، ويكون الحكم بلحاظ الخمر انحلالياً ، يعني هذا الفرد من الخمر له حرمة وهذا الفرد الآخر من الخمر له حرمة ثانية .... وهكذا ، وما الذي جعلنا نحكم بتعدّد الحرمات والأحكام ؟ إنها القرينة الخارجية وهي غلبة وجود المفسدة في كلّ فردٍ من أفراد الموضوع فإنّ الشرع حينما نهى عن الخمر وقال لا تشرب الخمر نحن نعتقد ذلك لمفسدةٍ في الخمر ، والمفسدة بنظر العقلاء وفي أحكامهم عادةً تكون في كلّ فردٍ فرد ، فإذا كان في هذا الفرد من الخمر مفسدة فيلزم أن تكون له حرمة مستقلّة ، وإذا كانت توجد مفسدة في الفرد الثاني فيلزم أن تكون له حرمة مستقلّة .... وهكذا في الأفراد الباقية ، فتعدّد الحرمات هو بسبب أنّ الملاك - يعني المفسدة - موجودٌ في كلّ فردٍ باستقلاله فتتعدّد حينئذٍ الحرمات ، هذه قضية عقلائية حكّمناها على النصّ ففهمنا من النصّ الانحلال.
وهكذا لو قال الأب لولده ولدي لا تتماشى مع الفاسق المنحرف ، فهنا نفهم أنّ هذا المنحرف فيه مفسدة إذا مشيت معه فله حرمة ، والفرد الثاني كذلك ، وكذلك الفرد الثالث لأنّ العقلاء يفهمون أنَّ كلّ فردٍ توجد فيه مفسدة فتصير حينئذٍ حرمات متعدّدة.
المورد الثاني:- الموضوع بلحاظ الأمر ، يعني لو قيل أكرم العالم ، فالعالم هو الموضوع هنا أيضاً والعقلاء يفهمون أنَّ كلّ عالم يوجد في إكرامه مصلحة ، فهذا العالم يوجد في إكرامه مصلحة وذاك العالم يوجد في إكرامه مصلحة .... وهكذا فيتعدّد الحكم حينئذٍ فيصير لهذا وجوب ولذاك وجوب وهكذا فتعدّد الوجوبات بعدد أفراد الموضوع ، وما ذاك إلا لأجل أنَّ العقلاء يفهمون المصلحة في كلّ فردٍ باستقلاله أو مفسدة في كلّ فردٍ باستقلاله في باب النهي.
وأما موارد عدم التعدّد:- فأيضاً نستفيد عدم التعدّد من القرائن:-
من قبيل:- عدم التعدّد في الموضوع ، فالموضوع بلحاظ الأمر أحياناً لا نستفيد فيه التعدّد ، مثل اشرب الماء ، فالماء موضوع ولكن لا نستفيد التعدّد وذلك لوجود قرينةٍ عند العقلاء ، وما هي تلك القرينة التي تمنعنا من استفادة التعدّد ؟ وهي أنه كلّ المياه لا يمكن شربها ، ففي مثل هذه الحالة نستفيد عدم التعدّد ، هذه قرينة تصير بلحاظ الموضوع على عدم التعدّد.
وأما بلحاظ المتعلق:- فقد نستفيد التعدّد بلحاظه أيضاً:-
من قبيل:- حرّم الربا ، فإن الربا متعلّق للتحريم ونستفيد بلحاظه التعدّد ، يعني هذا الربا حرام وذاك الربا حرام ... وهكذا بحرمات متعدّدة ، فرغم أنه متعلّق - لأنه يلزم تركه - نستفيد حرمات متعدّدة لوجود مفسدةٍ في كلّ رباً ربا باستقلاله ، فتعدّد المفسدة يجعلنا نستفيد حرمات متعددة.
ويوجد مثال آخر وهو أكر العالم ، فالإكرام متعلّق وليس بموضوع ، وهنا لا نستفيد التعدّد بل المطلوب هو إكرام واحد وليس المطلوب التعدّد ، ولماذا لا نستفيد التعدّد ؟ لأنه يلزم التكليف بما لا يطاق لأنَّ جميع أفراد الاكرام لا يمكن إيجادها ، فحينئذٍ لا نستفيد التعدّد رغم أنه متعلّق.
إذن المتعلّق أحياناً نستفيد تعدّد الحكم بلحاظه ، وأخرى لا نستفيد تعدّد الحكم بلحاظه ، ففي مثال حرم الربا نستفيد ذلك لتعدّد المفسدة ، وأما في مثال أكرم العالم فالإكرام متعلّق ولكن لا نستفيد التعدّد لأجل أنه يتعذّر تحقيق جميع أفراد الاكرام.
فإذن الانحلالية ظهر منشؤها هو تعدّد المفسدة أو تعدّد المصلحة ، والسبب في تعدّد الحكم هو فهم العقلاء تعدّد المصلحة في باب الأمر والمفسدة في باب النهي ، فإذا قيل لا تشرب الخمر فالخمر موضوعٌ فنستفيد التعدّد باعتبار أنّ كلّ فردٍ من الخمر فيه مفسدة ، وإذا قيل أكرم العالم فالعالم موضوعٌ فنستفيد التعدّد باعتبار أنّ كلِّ فردٍ فيه مصلحة ، وإذا قيل حرّم الربا فالربا متعلّق وليس بموضوعٍ ولكن نستفيد التعدّد أيضاً لأنَّ كلِّ فردٍ من أفراد الربا فيه مفسدة ، ففي هذه الموارد التي تتعدّد المفسدة أو تتعدّد المصلحة نستفيد التعدّد وفي غير ذلك - يعني إذا لم يكن تعدّد في المفسدة أو المصلحة - لا نستفيد التعدّد.
هذا هو الميزان الذي يمكن ذكره في هذا المجال.
وقد تسجّل ملاحظتان:-
الملاحظة الأولى:- إنّ هذا ينفع على رأي العدلية ولا ينفع على رأي الاشاعرة ، فإن الأشاعرة لا يقولون بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، فعلى رأيهم لا يمكن تطبيق هذه النكتة وإنما يمكن تطبيقها على رأي العدلية فقط ؟
والجواب:- إنَّ المشكلة إذا كانت قابلة للحلّ على رأينا كفى ذلك ، فمادام يمكننا حلّ المشكلة على رأينا كفى ذلك نكتةً لاستفادة الانحلال ، ولا يستجّل هذا كإشكال على ما نقوله فإنه بالتالي على مبنانا الذي نختاره المشكلة منحلّة ، ومادامت منحلّة كفى ذلك وإن فرض أنها على رأي الأشاعرة لا تكون منحلّة بهذه النكتة ، فلا يتسجّل هذا كإشكال علينا.
الملاحظة الثانية:- أن يقال:- من أين تستكشف أنت أنه يوجد ملاك - مصلحة - وأنها متعدّدة ؟ إنّ الكاشف والطريق لاحراز الملاك هو الأمر ، فحينئذٍ كيف تريد أن تستفيد تعدّد الأمر والوجوب من تعدّد الملاك إن هذا إلا دورٌ واضح ؟
والجواب:- إنَّ الكاشف عن أصل الملاك هو الأمر كما قيل أما الكاشف عن تعدّد الملاك وأنَّ هناك مصلحة في إكرام هذا العالم ومصلحة في إكرام ذاك العالم مصلحة في إكرام ذاك العالم الآخر أو مفسدة في هذا الخمر ومفسدة في ذاك الخمر وهكذا فالكاشف هنا ليس هو الأمر والنهي وإنما المنشأ لذلك هو الفهم العقلائي والنكات العقلائية فإنَّ النكات العقلائية حينما تُضَمُّ إلى النصّ نستفيد من النصّ بعض الأشياء ، فنستفيد تعدّد الملاك ، من قبيل أن يسأل شخص من الامام فيقول له( سيدي أصاب ثوبي دم ؟ فقال:- لا تصلِّ فيه ، اغسله ) هنا نحن نتعدّى إلى كلّ دمٍ بل لعله إلى كلّ نجاسة ، وكيف نتعدّى والحال أنّ الامام نهى عن هذه النجاسة ؟ إنه بضمِّ نكتةٍ عقلائيةٍ وهي أنَّ هذه النجاسة ليست لها خصوصية بل بقية النجاسات يلزم أن تكون كذلك ، إنَّ هذه النكتة العرفية - وهي ارتكاز عدم الفرق بين نجاسة ونجاسة وبين دمٍ ودم - حينما نحكّمها على النصّ نستفيد من النصّ بعض الأمور ، وهنا أيضاً كذلك إذا كشف النصُّ عن وجود مفسدةٍ في شرب الخمر يأتي العقلاء ويقولون إنَّ المفسدة الموجودة في الخمر الذي كشف عنه النهي هي مفسدة موجودة في كلِّ خمرٍ خمر ، فبضمِّ هذا المرتكز والفهم العقلائي إلى النصّ نستفيد آنذاك تعدّد الملاك من دون أن يلزم من ذلك الدور.
وبهذا ننهي حديثنا عن هذا المطلب.