الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
38/01/15
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- النواهي.
وأما الرأي الثاني أعني أنّ النهي موضوع للزجر عن الفعل:- فأشكل عليه السيد الخوئي(قده) بعد تراجعه عنه وسبب تراجعه عن هذا الرأي الثاني وانتقاله إلى الرأي الثالث هو هذا الاشكال حيث قال:- لا يمكن أن تكون صيغة النهي مثلاً موضوعة للزجر عن الفعل؛ إذ نفس صدورها من المولى وقول المولى ( لا تسرق ) و ( لا تظلم ) ... وهكذا هو زجرٌ عن الفعل زجرٌ عن الظلم زجرٌ عن السرقة فكيف تكون موضوعةً للزجر ؟!
يبقى شيء يحتاج إلى توضيح:- وهو أنه كيف أنَّ نفس صدور الصيغة هي مصداقٌ للزجر وتوجب الزجر ؟ وهو قد وضح ذلك حيث قال:- والوجه في ذلك هو أنّ المقصود من الزجر ليس هو الزجر الخارجي والحقيقي فإنّ الزجر الخارجي والحقيقي يتحقّق بأسبابه الحقيقية من قبيل أن أسحب وأجرّ بقوّة هذا الشخص الذي يسرق مع الضرب مثلاً ، هذا هو الزجر الحقيقي وهو يتحقق بسببه الحقيقي وهو السحب والجرّ الخارجي - مع الضرب أو من دون الضرب - ، وأصحاب الرأي الثاني حينما يقولون إنَّ صيغة النهي موضوعة للزجر فليس المقصود الزجر الحقيقي فإنّ الزجر الحقيقي له أسبابه الحقيقية بل المقصود الزجر الاعتباري ، ومن الواضح أنّ الزجر الاعتباري يصدق ويتحقّق بنفس صدور الصيغة ، فحينما أقول له لا تسرق لا تظلم لا تستغل فهذا هو اعتباراً زجرٌ وزجرٌ اعتباري ، ونفس صدورها مصداقٌ للزجر الاعتباري ، ومادام صدورها مصداق للزجر الاعتباري فكيف تكون موضوعة للزجر الاعتباري ؟
هذا بالنسبة إلى مناقشة الرأي الثاني.
وفيه:- أيّ مانع في أن يكون صدور الصيغة أو المادّة مصداق للزجر الاعتباري وفي نفس الوقت تكون موضوعة للزجر الاعتباري فإنه لا مانع من ذلك ، فليكن الأمر كذلك ، من قبيل أقول بصوت مرتفع ( اضرب ) فنفس قولي اضرب بصوتٍ عالٍ يدل على الطلب والتحريك وفي نفس الوقت نقول هي موضوعة للطلب والتحريك ولا مانع من ذلك.
والأجدر في مناقشة الرأي الثاني أن يقال:- إنّ صيغة النهي قد نستعملها في موارد لا معنى لكون المقصود هو الزجر ، من قبيل ﴿ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطانا ربنا ولا تحمل علينا إصراً ﴾ ، فهذا نهيٌ فهل أنا أزجر الله تعالى ؟! ، وكذلك ( إلهي لا تعاملني بعدلك وعاملني بجودك وكرمك ولطفك ورحمتك ) ، فحينما أقول ( إلهي لا تعاملني ) فهذا نهيٌ وهل هو زجر ؟ كلا فإن هذا غير صحيح ، والأنسب أن نقول المقصود هو طلب الترك كما قال صاحب الكفاية(قده) لكن الداعي إلى طلب الترك مرّة يكون هو الزجر ومرّة يكون هو الدعاء ومرّة يكون غير ذلك ...... كما قرأنا في البلاغة ، هذه دواعٍ لطلب الترك ، فالزجر ليس هو المعنى الموضوع له بل هو داعٍ ، فإذا قلت لا تسرق فهذا طلبٌ لترك السرقة والداعي هو الزجر ، أما في قولي ربنا لا يؤاخذنا إن نسينا فهنا المقصود هو طلب الترك أيضاً لكن الداعي هو الدعاء والالتماس وما شاكل ذلك ، فالأجدر في مناقشة الرأي الثاني ما أشرنا إليه.
وأما الرأي الثالث - وهو أنّ النهي موضوع لاعتبار الحرمة والمحرومية والحرمان والأمر لاعتبار شغل الذمة - فيرد عليه:- إنّ الأمر والنهي يصدران حتى من الأطفال الذين لا يعرفون للاعتبار معنىً ، بل الاعتبار يعرفه الكبير أما الطفل الصغير حينما يقول لأبيه لا تضربني فهل هو يعتبر ؟ إنّ الاعتبار هنا ليس له معنىً ، ولا أريد أن أقول إنَّ الاعتبار يحتاج إلى درسٍ وعمقٍ ، ولكن قصدي أنّ الاعتبار معنىً مستواه عالياً ومن البعيد أن يستوعب الطفل الصغير هذه القضية فيصدر منه النهي والحال لا معنى للاعتبار في حقّه إذ هو بعيد عن قضايا الاعتبار.
هذا مضافاً إلى أننا نحن في مثالنا نفسه وهو ﴿ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا ﴾ أو ( ربنا لا تعاملنا بعدلك ) فهل أنا اعتبر في ذمّة الله عزّ جلّ وفي الساحة الالهية ذلك ؟! إنّ هذا لا معنى له أصلاً.
فالمناسب من خلال هذا كلّه هو ما أفاده صاحب الكفاية من أنّ النهي موضوع لطلب الترك ، ولكن نحن نتمم له ونقول إنّ الدواعي مختلفة فقد يكون الزجر داعياً وقد يكون الدعاء داعياً لا أنها موضوعة لنفس الزجر كما قال أصحاب الرأي الثاني ، وأما أصحاب الرأي الثالث فقد قلنا أصلاً هو بعيدٌ في حدِّ نفسه.
النقطة الثانية:- نشعر بالوجدان بوجود فارق بين الأمر والنهي فحينما ، نقول اشرب الماء يكفي في الامتثال أن يشرب الشخص مرّة واحدة أما إذا قلت له لا تشرب الماء فلابد وأن يترك كل المياه ، هذه قضية وجدانية عقلائية ليست قابلة للتأمل والتوقف ، ولكن تعال إلى النكتة ، فلماذا في الأمر يكفي إيجاد الفعل مرّة واحدة وشرب إناء واحد أما في النهي فيلزم أن تترك كلّ الأواني وكلّ المياه فما هي النكتة الفارقة المفرّقة ؟
ذكر صاحب الكفاية(قده)[1] أنّ الفارق قضية ونكتة عقلية:- وهي أنّ المطلوب في الأمر إيجاد الطبيعة كطبيعة الشرب بينما المطلوب في النهي عدم الطبيعة وهذه قضية وجدانية لا تحتاج إلى برهان ، ثم نضمّ مقدّمةً عقلية وهي أنّ وجود الطبيعة يتحقق بوجود بعض أفرادها بينما عدم الطبيعة لا يتحقق إلا بعدم جميع أفرادها ، من هنا صار من اللازم في باب النواهي إعدام جميع الأفراد لأنّ المطلوب هو عدم الطبيعة وهي لا تنعدم إلا بترك جميع الأفراد ، بخلافه في الأمر فإنه حيث إنّ المطلوب وجود الطبيعة ووجودها يتحقّق ببعض الأفراد فيكفي بعض الأفراد في تحقق الامتثال.
وأشكل عليه جملة من الأعلام كالشيخ الأصفهاني[2] والسيد الخوئي[3] [4] والسيد الخميني[5] فقالوا:- إنّ الطبيعة توجد بوجود أفرادها ، فتوجد ضمن الفرد الأوّل وتوجد ضمن الفرد الثاني وتوجد ضمن الفرد الثالث ..... وهكذا ، فهي لها وجودات بعدد الأفراد لا أنها توجد بوجود فردٍ واحد وإنما بجميع الأفراد ، وإذا تمت هذه المقدّمة فحينئذٍ نقول المولى حينما طلب الطبيعة حيث قال اشرب الماء هل طلب وجودها ضمن فردٍ واحد أو أنه طلب وجودها ضمن جميع الأفراد ولا شق ثالث في البين ؟ فإن كان المولى يريد وجودها ضمن فردٍ واحدٍ فنسلّم أنه يكفي في تحقّقها وجود الفرد الواحد لكن في عدمها أيضاً يلزم أن نقول مادام لوحظت في ضمن الفرد الواحد فعدمها يتحقّق بعدم ذلك الفرد الواحد فلا فرق بين طلب وجودها أو طلب عدمها ، وإذا لاحظ المولى وجودها حينما طلب وجودها وقال اشرب الماء ضمن جميع الأفراد فحينئذٍ نسلّم أن عدمها لا يتحقّق إلا بعدم جميع الأفراد ولكن وجودها أيضاً يتوقف على جميع الأفراد ، فما ذكرته يا صاحب الكفاية ليس بتام.
نعم هو يتمّ بناءً على رأي الهمداني - عزيز المحاسن أو غريز المحاسن - الذي كان يقول إن الطبيعي ليس يوجد بوجود أفراده بل هو يتحقق بقطع النظر عن أفراده وأنَّ نسبة الطبيعي إلى الأفراد كنسبة الأب الواحد إلى الأبناء المتعدّدين لا كنسبة الآباء إلى الأبناء فكلّ أبٍ عنده ابن وكلّ ابن له أب ، وعلى رأي المشهور يقولون إنَّ النسبة هي نسبة الآباء للأبناء والأبناء إلى الآباء ، وأما على رأي الهمداني فيقول كلا بل هو واحد - معلّقٌ في عالم المثُل أو غير ذلك فهو موجود هناك وهو واحدٌ - فيتحقق بوجود واحد من أفراده كالأب بالنسبة إلى الأبناء المتعدّدين فهو فتتحقق أبوّته بوجود ابنٍ واحد ، فإذا تبنينا رأي الهمداني يكون ما ذكرته يا صاحب الكفاية تاماً لأنّ ذلك الواحد يمكن أن يتحقق بوجود واحدٍ من الأفراد فعنوان الأب يتحقّق بوجد واحدٍ من الأبناء ، أما إذا بنينا على رأي الشهور وأنت يا صاحب الكفاية أيضاً تبني عليه ففي هذه الحالة الطبيعي إذا لاحظناه في فردٍ واحدٍ فكما أنّ وجوده يتحقّق بذلك الواحد عدمه أيضاً يتحقّق بذلك الواحد ، وإذا لاحظناه ضمن جميع الأفراد فكما أنّ عدمه يتوقّف على عدم جميع الأفراد وجوده أيضاً يتوقّف على جميع هذه الأفراد.