الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

37/12/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الوجوب التخييري.

ويرد عليه:- إنّ الذي ذكره الشيخ الأصفهاني في بيان حقيقة الوجوب التخييري تارةً نقبل انه مطلب عقلائي عرفي يتقبّله العقلاء والعرف وليس شيئاً غريباً عليهم ، وأخرى نفترض أنه لا يرى العقلاء ذلك - بعد الالتفات إلى أنّ الوجوب التخييري هو قضية عقلائية وليست خاصّة بالشرع الآن العقلاء والعرف يقول لك جئني إما بهذا أو بذاك أو بذاك الآخر فهذا وجوب تخييري موجود عند العقلاء - ، فهذه حقيقة الوجوب التخييري التي ذكرها الأصفهاني إما أن تتلاءم مع ما يفهمه العرف من حقيقة الوجوب التخييري وإما أن لا تتلاءم ، فإن تلاءمت وكانت فرضية مقبولة لدى العقلاء فنفس تقبّل العقلاء لها يكفي بلا حاجة إلى اثبات تلك الأمور الثلاثة ، فإنّ الوجوب التخييري كما قلنا قضيّة عرفية فإذا كان ما فرضه الأصفهاني شيئاً عرفياً كفى ذلك في ثبوت هذه الفرضية بلا حاجة آنذاك إلى اثبات هذه الأمور الثلاثة ، وأما إذا افترضنا أنّ هذه الفرضية ليست عرفية فالعرف والعقلاء لا يرون أنّ حقيقة الوجوب التخييري ما ذكر كفى هذا المقدار في الردّ على الشيخ الأصفهاني(قده) سواء أثبت تلك الأمور الثلاثة أو لم يتمكن من اثباتها ، فإثباتها وعدم اثباتها ليس بالمهم بل المهم هو أنّ الفرضية التي ذكرها ليست عرفية عقلائية –وهي أنّ حقيقة الوجوب التخييري قضيّة مركوزة في أذهان العرف والعقلاء وليست غريبة عليهم -.

ثم إنّ السيد الخوئي(قده) أشكل بإشكال آخر على الشيخ الأصفهاني وحاصله:- أنت قلت أنّ الوجوب التخييري عبارة عن وجوب كلّ فردٍ بالوجوب التعييني ولكن يسقط عند الاتيان بالفرد الآخر ، ولازم هذا إذا فرض أنّ المكلف لم يأتِ بشيء من الأفراد الثلاثة فلازمه أنه يستحق ثلاث عقوبات لأنه توجد ثلاث وجوبات تعيينية ولم يحصل المسقط إذ لم يأتِ بشيءٍ منها حتى يسقط الوجوب التعييني للوجوب الآخر ، فثلاث وجوبات تعيينية موجودة بلا وجود مسقطٍ لها فيلزم أن يستحق المكلّف ثلاث عقوبات وهذا لا يلتزم به عاقل ، وهل أنت تلتزم بذلك ؟!! ، وهذا دليل ومنبّه وجداني على بطلان هذه الفرضية لأنه يلزم منها هذا اللازم الذي لا يمكن الالتزام به.

ونحن نجيب ونقول:- بإمكان الشيخ الأصفهاني أن يقول:- صحيحٌ أنها وجوبات ثلاث تعيينية موجودة ولكن هي ناشئة من ملاك واحدٍ أو من ملاكات متعدّدة متضادّة ، فإذا كانت ناشئة من ملاكٍ واحدٍ فلم يلزم التفويت إلا لملاك واحد فبالتالي لا موجب حينئذٍ لاستحقاق عقوبات متعدّدة , وإذا كانت ناشئة من ملاكات متضادّة فحيث لا يمكن تحصيلها جميعاً فأيضاً يكون ذلك بمثابة ترك ملاكٍ واحدٍ فيستحق عقوبة واحدة.

والأجدر أن يشكل على الشيخ الاصفهاني بأن نقول :- إنّ ثبوت وجوب تعييني لهذا الفرد مع سقوطه بالإتيان بالفرد الآخر يشتمل على نحوٍ من التهافت عرفاً وعقلائياً ، إذ كيف يكون الوجوب تعيينياً في هذا الفرد ولكن يسقط بالإتيان بالفرد الآخر - بعد فرض كون تعيينياً - ؟!! إن سقوطه بالفرد الآخر يدلّ على أنّ وجوبه ليس على سبيل التعيين ، ، فما تقوله ليس مقبولاً عقلائياً بل هو مرفوض عقلائياً ، فكيف يكون وجوب هذا الفرد وجوباً تعيينياً ومع ذلك يسقط بالإتيان بالفرد الآخر ؟! إنّ هذا تهافت عقلائي وعرفي وهو مرفوض أشدّ الرفض ؟!! ، فالسقوط بالفرد الآخر يدلّ على أن هذا الفرد وجوبه ليس تعيينياً وإنما هو وجوب غير تعييني - تخييري - ولذلك سقط بالإتيان بالفرد الآخر والجمع بين المطلبين جمع بين المتنافيين . هكذا ينبغي أن يقال في مناقشة الشيخ الأصفهاني.

يبقى شيء:- وهو أنه ما هو السبب الخفي الذي جعل الأصوليون يختلفون في حقيقة الوجوب التخييري فواحدٌ يقول مرجعه إلى وجوبٍ تعييني يسقط بالإتيان بالفرد الآخر ، وثاني يقول بشكل آخر ، وثالث يقول بشكل ثالث فإنه يتبيّن أنّ هناك مشكلة وهم يحالون أن يتغلبوا عليها بهذه الفرضيات التي يطرحونها ؟

ليس من البعيد أنّ المشكلة التي يشعرون بها هي أنه إذا كان واجبا ً- كما أشرنا إلى ذلك في بداية الوجوب التخييري - فكيف يجوز تركه ؟!! أوليس صاحب المعالم(قده) قال[1] إنّ الوجوب مركّبٌ من طلب الفعل مع المنع من الترك ؟!! فإذا فرضنا أنّ الترك يجوز عند الاتيان بالفرد الآخر فهذا معناه أنه ليس بوجوب !! ، هذه الشبهة جعلتهم يفسّرون الوجوب التخييري بشكلٍ يتلاءم مع حقيقة الوجوب التي اشرنا إليها ، فالشيخ الأصفهاني(قده) ليس من البعيد أنه فسّر الوجوب التخييري بالوجوب التعييني حتى يفرّ من هذه المشكلة فقال هو وجوب تعييني ولا يجوز تركه ولكن يسقط بالإتيان بالفرد الآخر وهذا سقوطٌ لا أنه يجوز تركه فالوجوب قد سقط لا أنه يجوز ترك الفرد ، فكأنه يريد أن يتخلّص من هذه المشكلة ، فالمشكلة إذن موجودة في اذهانهم وهي التي تدعوهم إلى طرح هذه الفرضيات التي أشرنا إليها.

ونحن نقول:- ليس من الصحيح أن يقرّر الانسان قراراً ثم بعد ذلك يحاول أن تجعل تصرفاته تنسجم مع هذا القرار ، بل عليه أن يترك ذلك للظروف فقد يكون هناك ظرف يستدعي أن يتصرّف بهذا الشكل ، وقد يستدعي ظرف آخر أن يتصرف بشكلٍ آخر ، والان نأتي إلى موردنا فأنتم لماذا قرّرتم أنّ الوجوب حتماً وأبداً هو فيه منعٌ من الترك[2] حتى تواجهون مشكلة ؟! ، بل من الأوّل نقول ( إنه لا يجوز تركه إذا كان الوجوب وجوبا تعيينياً ) - لأنّ هذا خاص بالوجوب التعييني - ، أما إذا كان الوجوب ليس تعيينياً فيجوز تركه إلى البدل ، فلماذا أنت تجعل حقيقة الوجوب مأخوذ فيها بنحو الجزئية أو اللازم المنع من الترك حتى تقع في هذه المشكلة ، بل من الأوّل دعنا نصلح قرارنا السابق فنقول من البداية أنّ الوجوب أخذ فيه المنع من الترك إذا كان تعيينياً أما إذا لم يكن تعيينياً فحينئذٍ يجوز فيه الترك إلى البدل ، ولا مانع من ذلك ، وحينئذٍ لا توجد مشكلة أصلاً في مثل هذه الحالة حتى نحتاج إلى علاجها.

الفرضية السابعة:- ما قرأناه في معالم الأصول وهو أنّ الوجوب في الواجب التخييري يكون متعلّقاً بما يختاره المكلّف في علم الله عزّ وجلّ ، يعني بالتالي الله عزّ وجلّ يعلم أنك سوف تختار هذا الفرد فالوجوب يكون متعلّقاً بهذا الفرد الذي تختاره والذي يعلمه الله عزّ وجلّ.

ويردّه:- إنّ هذا يعني أنا حوّلنا الوجوب إلى وجوب تعييني وليس تخييرياً ، يعني جعلنا الوجوب منصباً على فردٍ واحدٍ لا على أفرادٍ ثلاث وهذا خلف الفرض ، فنحن قد فرضنا من البداية أنّ الوجوب نسبته إلى الفراد بحدٍّ واحدٍ وبنسبةٍ واحدة ، بينما على هذه الفرضية يكون الوجوب منسوباً إلى فردٍ واحدٍ بعينه وليس إلى أفرادٍ متعدّدة ، فهذا في الحقيقة خروجٌ عن الوجوب التخييري وأخذٌ بالوجوب التعييني وأنه لا يوجد عندنا وجوبٌ تخييري إلا بالشكل في ألفاظ الدليل وإلا ففي الواقع هو وجوبٌ تعييني نسبته إلى الأفراد الثلاثة ليست نسبةً واحدةً بل هو منسوبٌ إلى فردٍ واحدٍ وليس إلى الثلاثة ، وهذا شيء لا يمكن الالتزام به فإنّ الوجوب التخييري هو حقيقة عقلائية عرفيّة موجودة نعيشها ؟!!

الفرضية الثامنة:- ما نقله السيد الشهيد(قده)[3] ، وهو أن يقال:- إنّ الوجوب التخييري يرجع إلى وجوب الجامع ، أي وجوب الأحد ، وهذا الوجوب الثابت للجامع يستلزم وجوبات متعدّدة مشروطة بعدد الأفراد ، فمثلاً في مثال خصال الكفّارة الوجوب منصبّ على الأحد ، وإذا كان منصبّاً على الأحد فهذا سوف يستلزم أنّ كلِّ واحدٍ واجبٌ بشرط عدم الاتيان بالآخر ، فهو وجوبٌ واحدٌ ينحلّ إلى ثلاثة وجوبات مشروطة.

وبناءً على هذا لا يلزم التعدّد في استحقاق العقوبة لأنّ هذه الوجوبات الثلاثة إذا تركها فقد ترك ذاك الوجوب الواحد الذي هو في الجامع ، فروح الوجوب واحدةٌ وهي وجوب الجامع فلا يستحقّ المكلّف عقوبات متعدّدة.

وفيه:- إنّ الوجوب إذا كان منصباً على الجامع فكيف ينحلّ فهل ينحلّ وحده أو أنَّ انحلال من قبل الشارع - يعني الشارع بعد ذلك يجعل وجوبات مشروطة - ؟ فإذا قلت ينحل وحده - يعني أنّ الوجوب الواحد يولّد وجوبات مشروطة - فهذا غير صحيح فإنّ الوجوب هو فعل المولى ولا يمكن أن يحصل وحده ، وإذا كان المقصود هو أنّ المولى يجعل وجبات ثلاثة فهذا لغوٌ فإنه بعد جعله الوجوب على الجامع أيّ معنى لجعل الوجوبات على الأفراد الثلاثة فإنّ الجمع بين المطلبين لغوٌ لا معنى له !!

نعم لا يبعد أن يكون المقصود ليس الانحلال على مستوى الوجوب بحيث تحصل ثلاثة وجوبات مشروطة وإنما المقصود الانحلال على مستوى الحبّ والارادة ، وإذا كان المقصود هو هذا فهو جيّد ، فإنّك إذا كنت تحبّ الجامع يعني أنت تحبّ كلّ فردٍ بشرط ترك الفرد الآخر ، فعلى مستوى الحبِّ والارادة إذا كان المقصود فهذا شيء وجيه - وهل لهذا الانحلال ثمرة أولا ؟انتظرونا وإن شاء الله تعالى فسوف نأتي بثمرة له - ، وإذا كان المقصود الانحلال على مستوى الوجوب الذي هو سنخٌ من الاعتبار الشرعي فلا معنى للانحلال ، لأنه إمّا أن يكون المقصود أنّ ذلك الوجوب الذي هو ثابتٌ للجامع يتولّد منه وجوبات ثلاثة وهذا لا معنى له فإنّ الوجوب لا يولّد وجوباً.

ومن هنا ذكرنا في مبحث مقدّمة الواجب حيث قال الأصوليون ( وجوب المقدّمة مترشّحٌ من وجوب ذي المقدّمة ) أنَّ هذه العبارة ليست صحيحة ، ومعنى مترشّح أنه متولّد من ذاك الوجوب ، ولكن الوجوب هو فعل المولى ولا يتولّد وحده من دون فعل المولى ، فهذا الكلام لا تأتي به فإنه مضحكٌ للثكلى ، ولذلك فكرة الوجوب الترشّحي التي ذكروها في باب المقدّمة ليست صحيحة.

وهنا أريد أن أقول أيضاً:- إذا كان المقصود من جعل الوجوب على الجامع أنه ينحلّ إلى وجوباتٍ ثلاثة يعني أنّ الوجوب الواحد هو الذي يولّد تلك الوجوبات الثلاثة فهذا لا معنى له ، أما إذا كان المولى يصنع ذلك فهذا أيضاً لا معنى له فإنّ المولى بعد جعله الوجوب على الجامع لا معنى لأن يجعل وجوباتٍ ثلاثةٍ على الأفراد . إذن لابدّ وأنه حصلت خيانة في التعبير فهو(قده) يعني روح الوجوب وهي الارادة أو الحبّ لا الوجوب ، وقد قلنا إنَّ هذا تظهر له ثمرة فيما يأتي.


[1] وذكرنا لكلام صاحب المعالم والاستشهاد به لا من باب الحجية بل من باب توضيح الأفكار.
[2] سواء بنحو الجزئية أو بنحو اللازم، فصاحب المعالم جعله بنحو الجزئية، وبناء على أنه بسيط يصير بنحو اللازم، ولكن هذا لا يؤثر.
[3] الحلقة الثالثة، السيد الشهيد، القسم الأول، ص367، الطبعة الأولى.