الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

37/12/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- تتمة التنبيه السادس ، الوجوب التخييري.

الفرضية الثانية:- وحاصلها:- إنه إذا كان الملاك ثبوتاً واحداً مثلاً في الاطعام والصيام والعتق الملاك كان عند الله تعالى واحداً ، فحتماً مادام الملاك واحداً فحينئذٍ هذا الملاك الواحد مؤثره وموجده ، وما هي علّته ؟ هو الجامع الذاتي بين الأفراد وليس كلّ فردٍ فرد ، ولماذا ؟ لأنه إذا كان الغرض واحداً كيف يؤثر فيه الكثير فإنّ هذا يعني صدور الواحد من الكثير وقد قرأنا في بدائيات الفلسفة أنّ الواحد لا يصدر إلا من واحد ولا يصدر من الكثير - ولماذا ؟ ليس محلّه الآن ، فمادام الغرض والملاك واحداً فحتماً المؤثر والموجد ليس كلّ فردٍ فرد بل المؤثر هو الجامع الذاتي الماهوي - الذي هو واحد - بين هذه الأفراد كي يتلاءم ذلك مع قاعدة الواحد ، وإذا كان الجامع الذاتي هو المؤثر فيلزم أن يكون هو الواجب؛ إذ هو المؤثر في الملاك ، فيلزم أن يكون هو الواجب شرعاً ، وبالتالي تكون الأفراد مصاديق لذلك الواجب الواحد ، وبالتالي يكون التخيير بين هذه الأفراد عقلياً ، لأنّ الواجب هو ذلك الواحد وهذه مصاديق لذلك الواحد ، فالعقل بعد اطلاعه على أنّ هذه مصاديق لهذا الواحد يخيّر فيما بينها ، مثل ما أقول لك أعطني قلم فالمطلوب هو قلم ولكن توجد أفراد كثيرة للقلم فالعقل يقول أنت مخيّر بين هذه الأفراد ، فالعقل يحكم بالتخيير بينها وهذا يسمى تخييراً عقلياً ، وكذلك لو قلت لك أجلب لي الماء ، أو اطهوا لنا الطعام ، فإنا طلبت الجامع وهذا له أفراد كثيرة فالعقل يخيّر بينها فيقول إنّ الآمر لم يعيّن الجامع في ضمن واحدٍ بل أراد الجامع والجامع يتحقق بهذه الأفراد فأنا العقل أحكم بالتخيير بين هذه الأفراد.

إذن إذا كان الغرض واحداً - الملاك واحداً - فحتماً هذا الملاك الواحد يكون موجده وعلته هو الجامع الذاتي الماهوي بين الأفراد طبقاً لقاعدة الواحد ، وإذا كان الجامع الماهوي لذلك الواحد هو العلّة فيلزم أن يكون هو مصبّ الوجوب لأنه هو الذي علّة للملاك ، وإذا كان هو مصبّ الوجوب حيث إنّ له أفراداً تحصّله فالتخيير بين الأفراد يصير عقلياً ، إنه حتى لو فرض أنّ الشرع قال إذا أفطرت في شهر رمضان فيجب عليك إمّا الاطعام أو الصيام شهرين أو ... ، فالشارع قد صرّح بذلك فنحن نقول هذا تخييرٌ شرعي ، ولكن صاحب هذه الفرضية يقول صحيحٌ أنّ الشارع ذكر هذه الثلاثة ولكن مادام الملاك واحداً والمؤثر هو الجامع الذاتي الماهوي والجامع الذاتي واحدٌ وهذه مصاديق لذلك الواحد فحتماً كلّ تخييرٍ شرعي سرف يرجع إلى التخيير العقلي ، فصاحب هذه الفرضية يقول إنَّ مرجع التخيير الشرعي إلى التخيير العقلي ، والنكتة هي هذه ، ولكن هذه تأتي إذا كان هناك غرض واحد لمجموع هذه الأمور وليس كلّ واحدٍ فيه غرضٌ ، بل الغرض واحداً وحتماً هذا الغرض الواحد موجده الجامع الماهوي ، وإذا كان الجامع الماهوي هو الموجد فحتماً هو الواجب ، وإذا كان هو الواجب فهذه سوف تصير مصاديقاً للواجب ، وإذا صارت مصاديقاً للواجب فالتخيير بينها سوف يكون عقلياً . إن قلت:- إنّ الشارع ذكر ذلك في الرواية فقال إن أفطرت متعمّداً فيجب عليك الاطعام أو الصيام شهرين متتابعين أو ..... ، فنقول:- صحيحٌ أنّ الشارع ذكرها بلسان التخيير الشرعي ولكن سوف نصدر قاعدة جديدة وهي أنّ كل تخيير شرعي - بناء على هذه الفرضية - يرجع إلى التخيير العقلي.

ولكن ابقى أؤكد أنّ هذه الفرضية تأتي إذا كان الملاك واحداً.

من ضمّ هذه الفرضية إلى الفرضية السابقة سوف نفهم أنّ رأي صاحب الكفاية(قده) في باب الوجوب التخييري هو إن كان الملاك متعدّداً وكان هناك تضاد بين الملاكات فكلّ فردٍ واجب بوجوب مشروط - يعني مرجع الوجوب التخييري إلى وجوبات مشروطة بترك الآخر - ، وأما إذا كان الملاك واحداً فحينئذٍ يصير الواجب هو الجامع الماهوي والتخيير بين الأفراد يصير تخييراً عقلياً ، وبالتالي يرجع التخيير الشرعي بين الأفراد إلى التخيير العقلي[1] .

ويرد عليه:-

أوّلاً:- إنّ قاعدة الواحد يوجد كلام فيها وهل هي تامة أو ليست بتامة ولكن هذا بحثه في الفلسفة ، ولكن لو تمّت فهي تتمّ في الواحد الشخصي لا الواحد النوعي ، فمرّةً توجد عندنا هذه الحرارة الخاصّة لهذه النار ، ومرّةً نأخذ أصل الحرارة ، فإذا أخذنا أصل الحرارة فهي واحدٌ لكنه واحدٌ نوعي ، أما إذا أخذنا هذه الحرارة الخاصّة فهي واحد بالوحدة الشخصية ، فالواحد بالوحدة الشخصية يمكن أن يقال إنَّ قاعدة الواحد فيه تامة ، فصحيحٌ أنّ هذه الحرارة لا يمكن أن تصدر إلا من واحد كهذه النار أو هذه المدفأة ، أما الواحد النوعي - أصل الحرارة - فيمكن أن يصدر من الشمس مرّةً ومن النار مرّة ومن المدفأة الغازية مرّة ثالثة ..... وهكذا ، فيمكن أن تصدر من أمورٍ متعددة ولا تتنافى مع قاعدة الواحد ، فإن قاعدة الواحد تامّة في الواحد بالوحدة الشخصية دون الوحدة النوعية ، وهذا من الواضحات.

وفي مقامنا نقول:- حينما يكون الغرض غرضاً واحداً فوحدته وحدة نوعية وليست وحدة شخصية - كما لو كان الغرض هو حفظ المكلّف أو المجتمع الاسلامي من الانحراف فهذا واحدٌ بالوحدة النوعية - ، ومادامت هي وحدة نوعية فيمكن حينئذٍ أن يصدر من المتعدّد.

فإذن ما ذكرته لو يتمّ -إن سلّمنا قاعدة الواحد - إنما يتم فيما إذا فرض أنّ الوحدة كانت شخصية.


[1] كفاية الأصول، الآخوند، ص140- 141.