الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
37/12/03
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- تتمة التنبيه السادس ، الوجوب التخييري.
وأبقى أكرر أقول:- إنه كان من الجدير للشيخ النائيني(قده) أن يستغني عن المقدّمة الأولى والثانية الثالثة ، فإنّ هذه ليست مقدّمات لإثبات فكرو الترتب ، بل هي دفع إشكالات على فكرة الترتّب ، والمناسب أن يذكرها بعد ذلك بلسان دفع إشكال أو بلسان إن قلت قلت ، والمهم منها هي المقدّمة الرابعة وهي الأساس وبضمنها جزء من المقدّمة الخامسة ، فلو كان يقتصر على هذا المقدار ويقول في اثبات إمكان الترتّب:- إنّ أمر أزل - يعني الأمر بالأهم - يقتضي إيجاد الازالة وهذا لا يرفضه صلّ ، لأنه بتحقيق الازالة ينتفي موضوع صلّ ، لأنّ موضوع صلِّ هو إذا لم تشتغل بالازالة ، والحكم لا يدعو إلى تحقيق موضوعه ، وهكذا ذاك لا ينافي هذا بالبيان الذي ذكرناه ، فلو كان يذكر هذا لكان أولى مما ذكره من المقدّمات.
ونحن فيما سبق في بداية دخولنا في مبحث الترتّب ذكرت بياناً لإثبات إمكان فكرة الترتّب:- هو في روحه يرجع إلى ما أفاده الشيخ النائيني(قده) ولكنه بيانٌ للبّ ما ذكره مع بعض الاضافات والتنقيحات وحاصله:- إنّ المنافاة بين صلّ وأزل تتصوّر من أحد نواحٍ ثلاث - منشأ التنافي لا يخلو من أحد أمور ثلاثة - :-
إما أن نقول:- إن نفس اجتماع نفس الأمرين بما هما أمرين - صلّ وأزل - هو مستحيل ، وأجبنا عنه:- بأنّ نفس اجتماع الأمر بالضدّين لا محذور فيه إذا لم يؤدِّ إلى طلب الجمع بين الضدّين .
وإذا كان المحذور كما ذهب إليه الشيخ الأعظم وصاحب الكفاية من أنّ اجتماعهما يؤدي إلى طلب الجمع بين الضدّين - هكذا قال الأنصاري والخراساني في ردّ كاشف الغطاء -:- فإذا كان هذا هو المنشأ ، فجوابه:- إنه لو فرض أنه أمكن تحقق الضدّين هل يقعان معاً على صفة المطلوبية ؟ كلا ثم كلا ، بل المطلوب فقط يكون هو الازالة دون الصلاة ، لأنّ الصلاة مطلوبة على تقدير عدم الازالة ، أما على تقدير الازالة فلم تطلب منه الصلاة ، فهذا الأساس الأمران حينما يجتمعان لا يدعوان إلى طلب الجمع بين الضّدين ، والمنبّه الوجداني ما أشرت إليه من أنه لو فرض - من باب فرض المحال - تحقق الصلاة والازالة هل يقعان على صفة المطلوبية ؟ كلا بل المطلوب فقط وفقط هو الازالة ، فهذا يدلّ على أنّ المطلوب ليس هو الجمع بين الضدّين وإلا لوقعا على صفة المطلوبية.
والاحتمال الثالث أن نقول إنَّ التنافي بينهما من ناحية المحرّكية:- يعني أمز أزل يحرّك لنفسه ويقول أيضاً لا تصلٍّ ، وصلِّ يقول صلِّ ولا تُزِل ، فكلّ واحدٍ منهما يحرّك نحو متعلّقه ويرفض الحركة نحو متعلّق الآخر ، فإذا كان المقصود هو التنافي في عالم المحركية فالجواب:- إنه لا يوجد تنافٍ في عالم المحرّكية كما بيّنا ، لأنّ أمر أزِل وإن كان يقول اشتغل بالازالة وهذا المقدار لا يرفضه صلِّ ولو اشتغلت بالازالة فالصلاة ليست مطلوبة فرفض الصلاة يصير في محلّه حيث أُتِيَ بالازالة ، ورفض الصلاة على تقدير الاتيان بالازالة شيءٌ لا يرفضه صلِّ ، فصلِّ يقول صلّ إذا لم تُزِل أما إذا أزلت فلا تصلِّ ، فأنت إذا أردت أن تشتغل بالازالة فاشتغل بها ولا تصلِّ ، فإذن أزِل يدعو إلى الازالة ويرفض صلِّ بتبع تحريكه نحو الازالة وهذا شيء لا يرفضه صلّ ، وصلّ يدعو إلى الصلاة إذا لم يشتغل بالإزالة وهذا شيء أيضاً لا يرفضه أزِل ، فلا منافاة بين الأمرين.
هذا ما بيّناه فيما سبق ولكن جعلنا له شقوقاً وتحقيقاً وتهذيباً وإضافاتٍ ولكن الروح هي نفس ما ذكره(قده).
وبهذا ننهي حديثنا عن فكرة الترتّب وندخل في مبحث الواجب أو الوجوب التخييري .
الواجب أو الوجوب التخييري.
والسؤال:- ما هي النكتة التي دعت الأصوليّون إلى بحث حقيقة الوجوب التخييري ، فهل هناك مشكلة يحاولون معالجتها ؟
والجواب:- نعم توجد مشكلة ، وهي أنه كيف أنه واجب والحال أنك مختار في تركه فإنّ حيثية الوجوب تتنافى مع حيثية جواز الترك فكيف يجتمعان ؟! ، فهذا قد يوجب مشكلةً فأرادوا أن يعالجوا هذه المشكلة مثلاً.
أو أنّ الوجوب يحتاج إلى إرادة ، والارادة كيف تتعلّق بالأمر المردّد المبهم ، فإنّ الارادة النفسية لا تتعلّق إلا بالأمر المعيّن أما المبهم المردّد فكيف تتعلّق به ؟ ، لعلّه نتيجة هذا الاشكال طرحوا هذا البحث.
وعلى أيّ حال هناك فرضيات متعدّدة لبيان حقيقة الواجب التخييري أو الوجوب التخييري:-
الفرضية الأولى:- إنّ مرجع التخييري إلى وجوبين مشروطين ، فالإطعام يجب إن تركت الصيام شهرين متتابعين ، والصيام شهرين متتابعين واجب إن تركت الإطعام ، فمرجع الوجوب التخييري إلى وجوبين ولكن كلّ وجوبٍ مشروطٍ بترك الآخر ، وبناء على هذا لا مشكلة ، لا أنّ التخيير داخلٌ في الوجوب حتى يقال كيف يجتمع الوجوب مع التخيير ، وإنما كلّ واحدٍ واجب في حالةٍ وهي إذا تركت الآخر ، فهناك وجوبان مشروطان.
وقال صاحب الكفاية(قده)[1] :- إنّ هذه الفرضية جيّدة ولكنها تتوقّف على شيء ، وهو أن نفترض وجود ملاكين حتى يصير وجوبين ، كما نفترض أنه يوجد بين الملاكين تضاد ، يعني إذا تحقّّق أحد الملاكين فالملاك الآخر لا يمكن أن يتحقّق ، فإذا افترضنا هكذا فيمكن للمولى أن يوجّب هذا لملاكه لكن بشرط أن لا يفعل ذاك لأنه إذا فعل ذاك فملاكة سوف يضاد هذا فلا يمكن أن يتحقق هذا حينئذٍ ، فيلزم أن يأتي بواحدٍ فقط بشرط ترك ذاك للتضاد بين ملاكيهما.
فإذن صاحب الكفاية قبل هذه الفرضية ولكن أدخل عليها تعديلاً حيث قال هي تتم إذا فرضنا أنه يوجد ملاكان - في هذا الواجب ملاك وفي ذاك الواجب ملاك - وبين الملاكين تضاد؛ إذ لو لم يكن بينهما تضاد لكان من المناسب أن يأمر بهما معاً لا بأحدهما بشرط ترك الآخر ، هذا ما ذكره(قده) وأيّده جمعٌ على ذلك.
بيد أنه يمكن أن يقال:- إنه لا تتوقّف تمامية هذه الفرضية على وجود ملاكين متضادّين ، بل يمكن أن نتصوّر ملاكاً واحداً ومع ذلك تكون هذه الفرضية صحية ، وذلك بأن نفترض أنّ هذا الملاك الواحد إما أن يحقّق بهذا وحده أو بذاك وحده لا بالاثنين معاً ، إنما الذي يحقّقه بشكلٍ كاملٍ إما هذا وحده أو ذاك وحده ، وفي مثل هذه الحالة سوف يأمر بكلّ واحدٍ منهما مشروطاً بترك الآخر ، لأنه من دون ترك الآخر لا يتحقّق الملاك كاملاً ، فالملاك كاملاً إنما يتحقّق بهذا وحده أو بذاك وحده.
فإذن لا تتوقّف هذه الفرضية على أنه لابد من وجود ملاكين متضادّين ، بل ملاكٌ واحدٌ بهذا النحو الذي فرضناه - أي بهذا القيد وهو أنه لا يمكن أن يتحقّق بهما وإنما هذا الملاك يمكن أن أن يتحقّق إما بهذا وحده أو بذاك وحده - ففي هذا الحالة لابدّ وأن يأمر المولى ويقول إما أن تأتي بالإطعام وإما بالصيام ، لأنّ المحقِّق لهذا الملاك الواحد إما هذا وحده أو ذاك وحده.
بيد أنه أشكل على أصل هذه الفرضية[2] ببعض الاشكالات:-
الاشكال الأوّل:- ما ذكره السيد الخوئي(قده)[3] وحاصله:- إنّ لازم وجود وجوبين مشروطين هو أنه في حالة تركهما معاً لازمه أن يستحقّ المكلف عقوبتين ، لأن شرط وجوب كلّ واحدٍ قد تحقّق ، فإنّ شرط تحقّق الأوّل هو ترك الثاني وترك الثاني قد تحقّق فوجب الأوّل ، وشرط وجوب الثاني وهو ترك الأوّل وقد ترك الأوّل ، فكلاهما صار واجباً ، فيلزم إذن استحقاق عقابين ، والحال هل يلتزم فقيه أو أصولي بذلك ؟!! إنه لا يستحق إلا عقاباً واحداً لا أنّ العقوبة تتعدّد.
ويردّه:- إنّ هذين الوجوبين إمّا أن يكونا ناشئين من ملاكٍ واحدٍ كما اقترحنا ولكن بالشكل الذي أشرنا إليه ، أو أنهما نشئا من ملاكين كما صوّره صاحب الكفاية(قده) ، فإن فرضنا أنّ الملاك واحدٌ فالعقوبة حينئذٍ سوف تصير واحدة ، فإنّ العقاب على مخالفة الوجوب من باب تفويت الملاك ، وحيث إنّ الملاك واحدٌ فلا موجب لتعدّد العقوبة مادام كلا الوجوبين في روحهما يرجعان إلى ملاكٍ واحد ، فثبوت العقاب الواحد يصير وجيهاً ، وإذا قلنا بما ذكره صاحب الكفاية(قده) من أنه يوجد ملاكان فنجيب ونقول:- حيث إنّ هذين الملاكين متضادّان - فإنه لا يمكن تحقيقهما معاً - فهو بالتالي لم يفوّت إلا ملاكاً واحداً ، فالمولى لا يمكن أن يعاقبه إلا عقوبة واحدة لأننا فرضنا أنَّ المكلف لا يستطيع أن يحقّق كلا الملاكين ، فبالتالي يلزم أن تكون العقوبة واحدة . إذن على كلا التقديرين من المناسب أن تكون العقوبة واحدة.
الاشكال الثاني:- وهو أيضاً للسيد الخوئي(قده)[4] وحاصله:- إنّ لازم هذه الفرضية أنّ المكلّف لو أتى بكلا الفردين معاً - يعني أتى بالصيام وأتى بالإطعام - يلزم في مثل هذه الحالة عدم تحقّق شيءٍ من الملاكين ، لأنّ تحقق الملاك بكلِّ واحدٍ هو مشروط بترك الآخر والمفروض أنه أتى بالآخر ، فحينئذٍ يلزم أن نقول إما بتأثير أحد الملاكين دون الملاك الثاني وهذا يلزم منه الترجيح بلا مرجّح ، أو أنه يتحقّق هذا الملاك بكلا الواجبين وهذا خلف فرض التضاد بينهما إذ قلنا يوجد بينهما تضاد ، فالملاك لا يتحقّق إلا بتحقق أحدهما مشروطاً بترك الآخر فعند تحققهما معاً لا يتحقّق الملاك.