الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
37/12/02
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- التنبيه السادس ( المقدمات التي تمسك بها الشيخ النائيني لإثبات فكرة الترتب ) - مبحث الضد.
وأما المقدّمة التي ذكرها(قده) قال:- إنّ عموم الحكم لجميع الحالات أو تقييده ببعض الحالات هذا العموم والتقييد مرّة يحصلان بالإطلاق والتقييد ، وأخرى يحصلان بنتيجة الاطلاق والتقييد ، وثالثة يحصلان بذات الخطاب.
أما الأوّل:- فمثل ما لو ردت أن تعمّم الحكم بوجوب العتق للرقبة المؤمنة والكافرة ، فتريد أن تقول له ( إذا افطرت عمداً فيجب عليك عتق رقبة ) ، فإذا أردت أن تعمّم العتق إلى المؤمنة والكافرة فالطريق هو الاطلاق ، فبالإطلاق يثبت التعميم ، وأما إذا أردته مختصّ بالمؤمنة فتقول ( اعتق رقبة مؤمنة ) ، إنّ الوصول إلى التعميم أو التخصيص يتمّ من خلال الاطلاق أو التقييد ، وهذا واضح.
وأما الثاني:- يعني التعميم والتحصيص الذي لا يمكن بالإطلاق والتقييد مثل مطلبية الصلاة مقيّدة بقصد الامتثال إذا أراد المولى ذلك ، فهل يمكن للمولى أن يتوصّل إلى ذلك بالتقييد ؟ كلا لا يمكنه ذلك . وإذا اراد الصلاة أعمّ من كونها بقصد الامتثال أو لا بقصد الامتثال فهل يستطيع أن يصل إلى هذا بالإطلاق ؟ كلا لا يمكن أن يصل إلى هذا بالإطلاق ، فلا التعميم يمكن أن يصل إليه بالإطلاق ولا التضييق يمكن أن يصل إلية بالتقييد ، فالمقصود أنه لا يمكن أن نصل إلى التخصيص بقصد الامتثال من خلال التقييد ، يعني لا يمكن للمولى أن يقول ائت بالصلاة بقصد امتثال الأمر ، ولماذا ؟ قال صاحب الكفاية إنّ هذا يلزم الدور لأجل أنك حينما تطلب شيئاً لابدّ وأن يكون ذلك الشيء موجوداً قبل الأمر حتى يتعلّق به الأمر ، أما إذا لم يمكن أن يوجد بقطع النظر عن الأمر بل هو موقوفٌ على الأمر فسوف يلزم الدور ، مثلاً اعتق رقبة مؤمنة فالتقييد بالمؤمنة ليس فيه محذور لأنه يمكن أن توجد رقبة مؤمنة قبل أن يتعلّق الوجوب بها فنقول هذه رقبة مؤمنة ثم يتعلّق الأمر بها فأقول لك اعتقها ، فوجود المتعلّق وهو الرقبة المؤمنة ليس موقوفاً على الأمر ، فهنا يمكن أن نصل إلى التخصيص من طريق التقييد لكن تعال إلى صلِّ بقصد الامتثال فهل يمكن أن تتصوّر صلاةٍ بقصد امتثال الأمر بقطع النظر عن الأمر ؟ كلا ، فإنه إذا لم يكن الأمر موجوداً فتقصد امتثال ماذا إذن ؟! إنه لا يمكن ، فإنّ قصد امتثال الأمر فرع وجود الأمر ، والمفروض أن الأمر لا يمكن أن يتعلّق إلا بالصلاة بقصد الامتثال ، فصار كلّ واحدٍ يتوقّف على الآخر ، فيلزم الدور ، فالأمر يتوقف على وجود صلاة بقصد الامتثال والصلاة بقصد امتثال الأمر فرع وجود أمرٍ حتى يمكن قصد امتثاله ، فصار كلّ واحدٍ - يعني الأمر ومتعلّق الأمر - موقوفاً على الآخر ، فالأمر موقوف على وجود متعلّقه في المرحلة السابقة حتى يتعلّق به الأمر ، والمتعلّق هنا في مقامنا حيث إنّه أُخذ فيه قصده امتثال الأمر هو موقوف على الأمر فصار كلّ واحدٍ موقوفاً على الآخر ، فلا يمكن للمولى أنّ يتوصل إلى التخصيص بقصد الامتثال من خلال التقييد كما لا يمكن أن يتوصّل إلى التعميم من خلال الاطلاق فإنّ الاطلاق يمكن حيث أمكن التقييد ، فإذا لم يمكن التقييد لم يمكن الاطلاق ، فإن التقابل بينهما تقابل العدم والمكلة ، فإذا لم يكن التقييد لم يكن الاطلاق ، فالمولى ماذا يصنع إذن ؟ يبقى المولى إذا أراد تخصيص الصلاة بقصد الامتثال ماذا يفعل ؟ وإذا أراد أن يعمّمها لحالة قصد الامتثال ولحالة غير قصد الامتثال ماذا يفعل ؟ إنه يتوصّل إلى ذلك بفكرة متمّم الجعل ، وذلك بأن يفترض أنّ المولى أوّلاً يصدر أمراً مهملاً من حيث التقييد بقصد الامتثال أو عدمه ثم يأتي بأمرٍ ثانٍ - أي يأتي بأمرين - يقول فيه صلِّ بقصد امتثال الأمر الأوّل ، فتحصل نتيجة التقييد لا نفس التقييد لأنّ التقييد لم يحصل بالأمر الأوّل فوصلنا إلى النتيجة ، أو يقول صلِّّ سواء قصدت امتثال الأمر الأوّل أم لم تقصد امتثال الأمر الأوّل ، فوصل إلى نتيجة الاطلاق ، فيتوصل إلى نتيجة الاطلاق والتقييد من خلال الأمر الثاني من خلال متمّم الجعل.
ويوجد مصطلح يطلق على القسم الأوّل ، ويوجد مصطلح ثاني يطلق على القسم الثاني ، ففي القسم الأوّل الذي يمكن فيه الاطلاق والتقييد في نفس الأمر جاء الشيخ النائيني(قده) بمصطلح - في فوائد الأصول أو أجود التقريرات - وهو الانقسامات الأوّلية حيث قال نتوصّل إلى التعميم والتخصيص تارةً بنفس الاطلاق والتقييد وذلك في الانقسامات الأوّلية ، وقد لا يمكن ذلك إلا من خلال أمرٍ آخر - وهو متمّم الجعل - وذلك في الانقسامات الثانوية ، فالثاني وهو التقييد بقصد الامتثال يصطلح عليه بالانقسامات الثانوية ، ولماذا سمّاها ثانوية ؟ لأنّ مرتبتها تأتي ثانياً ، فبعد وجود الأمر يأتي هذا القسم ، فلابدّ وأن تفترض وجود امر أوّلاً ثم تأتي وتقول الصلاة بقصد الأمر فهذا التقسيم إلى صلاة بقصد الامتثال أو لا بقصد الامتثال فرع وجود الأمر فهو تقسيم ثانوي.
ثم بيّن القسم الثالث وهو الذي لا يمكن فيه التعميم والتخصيص لا بنفس الإطلاق والتقييد ولا بنتيجة الاطلاق والتقييد بل بذات الخطاب ، مثل أزل ، فأزل مطلوبة حالة الازالة وحالة عدم الازالة ، فأنت إذا لم تزل فيقول لك أزِل وهي محفوظة ، وهكذا ربما يكون موجوداً في حالة الازالة ، ففي حالة الازالة وعدم الازالة يكون موجوداً ، فهو يكون موجوداً مطلقاً ، وهذا كيف يتوصّل إليه ؟ إنه لا يتمكن أن يتوصّل إليه بالإطلاق والتقييد ولا بنتيجتهما ، ولماذا ؟ لأنه لا يمكن للمولى أن يقول أزل إذا كانت الازالة موجودة ، فإنه إذا كانت الازالة موجودة يصير طلب تحصيل الحاصل ، وإذا لم تكن موجودة يصير طلب تحصيل الضّدين الوجود والعدم ، فالإزالة إذا كانت معدومة كيف تصير موجودة ؟! فالمعدوم كيف يصير موجوداً ؟! فيصير طلب الضدّين ، فلا يمكن ثبوت الاطلاق والتقييد بتقييد الخطاب أو إطلاقه وإلا يلزم محذور طلب الضدّين أو يلزم طلب تحصيل الحاصل ، وهذا المحذور كما يأتي بنفس الاطلاق والتقييد يأتي بنتيجة الاطلاق والتقييد أيضاً . إذن أمر أزل يقتضي إيجاد الازالة بنفسه بذاته لا بضمّ الاطلاق ولا بنتيجة الاطلاق ، وهكذا لا بالتقييد ولا بنتيجة التقييد ، بل كلّه بذاته.
ومن خلال هذا يتضح أنّ أمر أزل بذاته بنفسه بعينه يقتضي إيجاد الازالة ، فإذا اقتضى إيجاد الازالة فهذا شيء لا يأباه صلِّ ، لأنّ صلِّ يقول إذا لم تكن الازالة موجودة فأتِ بالصلاة أما إذا اشتغلت بالصلاة فنِعمَ ما فعل ، فإّن الأمر بالصلاة لا يدعو إلى موضوع نفسه.
إذن الشيخ النائيني(قده) من خلال هذه المقدّمة أثبت لنا أنّ أمر أزل يقتضي إيجاد الازالة عند عدم وجود الازالة في الخارج ن فهو بذاته بنفسه بعينة يقتضي ذلك ، فإذا اقتضى ذلك فحينئذٍ نأتي ونقول هذا شيءٌ لا يأباه صلِّ ، بل تحصل بينهما ملائمة.
وتعليقنا على هذه المقدّمة قد بيّناه سابقاً حيث نقول:- إنّ هذه المقدّمة الطويلة ذات الاصطلاحات لا نحتاج إليها ، بل يمكن الاستغناء عنها بتمامها ، فيكفي أن تقول من البداية إنّ فكرة الترتّب تحتاج إلى هذه المقدمة وتذكر العبارة الأساسية التي ذكرناها ، أما تلك المصطلحات وغير ذلك فكلّه شيء زائد.
المقدمة الخامسة:- وهي لم يذكر فيها شيئاً سوى بعض الأمور الزائدة من هنا هناك - فإنه قد ثبت إمكان الترتّب فلا داعي إلى المقدّمة الخامسة - . نعم ذكر شيئاً إضافياً وهو أنه عرفنا في المقدّمة الرابعة أنّ أمر أزل يقول شيئاً لا يأباه صلِّ ، وهنا يريد أن يقول بالعكس ، يعني ( وصلِّ يقول شيئاً لا يأباه أزل ) ، لأنّ أمر صلِّ يقول لك إذا لم تشتغل بالازالة فصلِّ أما أنّي لا أقول لك لا تشتغل بالإزلة بل لو أردت أن تشتغل بالازالة فلا مشكلة ولكن إذا لم تشتغل بالازالة فلا تنام مثلاً بل اشتغل بالصلاة.
إذن لا يوجد بينهما تنافٍ ، فهذا يقول مطلباً لا يأباه ذاك وذاك يقول مطلباً لا يأباه هذا ، فنِعمَ الصلح ، وبذلك ثبت إمكان فكرة الترتّب.