الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

37/11/26

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- تتمة التنبيه الخامس ، التنبيه السادس ( المقدمات التي تمسك بها الشيخ النائيني لإثبات فكرة الترتب ) - مبحث الضد.

إن قلت:- إنّ المكلف حينما يأخذ الغَرفة الأولى يكون قادراً على غسل الوجه فقط ولا يكون قادراً على غسل اليد اليمنى واليسرى ، وحيث إنّ الوضوء ارتباطي ، يعني مطلوبية غسل الوجه مرتبطة بغسل اليدين والمفروض أنّه لا قدرة على غسل اليدين الآن - حينما أخذت الغرفة الأولى - بل أنا قادر على غسل الوجه فقط فلا أكون مأموراً بغسل الوجه ، لأنّ الأمر بغسل الوجه مشروط بأن تتمكن من غسل الوجه وغسل كلتا اليدين والمفروض أنك لا تتمكن من غسل كلتا اليدين ، فلا أمر حينئذٍ بغسل الوجه؛ إذ لا قدرة على غسل بقيّة الأعضاء ، وهذا الاشكال ينشأ من ترابطية واجبات الوضوء فإنها واجبات ترابطية.

قلت:- يكفي في مطلوبية الوضوء وصحته أن تكون القدرة حاصلة عند كلّ جزٍ جزء ولا يلزم أن تكون القدرة على المجموع ثابتة من البداية ، كما لو فرض أنّ هناك شخص كان فاقداً للماء ولكن يوجد عند صديقه ماء فيقول صاحب الماء لصديقه أنا أعطيك الأن ماءً بمقدار غسل الوجه فإن أتممت غسل الوجه فسوف أعطيك لليد اليمنى وإذا أتممتها فسوف أعطيك لليسرى وهو أعلم أنه صادق فهل يجب الوضوء عليه أو لا ؟ نعم يجب الوضوء بلا إشكال ، ولا يوجد فقيه يحتمل أنه لا يجب وأنّ القدرة لازمة على المجموع من البداية ، بل تكفي القدرة عند كلّ عضوٍ عضو ، فعلى هذا الأساس يقع الوضوء صحيحاً بفكرة الأمر الترتّبي.

إذن تصحيح الوضوء في هذه الحالة بالأمر الترتّبي شيء وجيه ، ولا يخفى أنه من الأفكار الجميلة والرائعة جداً.

وبذلك اتضح النظر فيما أفاده السيد الحكيم(قده) من إمكان التصحيح بالملاك حيث يرد عليه:- إنّ الملاك لا كاشف عنه إلا الأمر ، وحيث لا أمر فمن أين إحراز الملاك ؟ إنه يصعب ذلك.

كما اتضحت المناقشة فيما أفاده الشيخ النائيني(قده):- فإنه ذكر أنّ الأمر الترتّبي لا يجري لعدم وجود ملاك ، ولماذا لا يوجد ملاك ؟ لأنه ليس قادراً بلحاظ كامل الوضوء ، فلا قدرة عنده حتى يكون مأموراً به؛ إذ المفروض أنه اغترف غرفة واحدة في البداية فهو ليس قادراً على الوضوء ، إنّه قد اتضح النظر في ذلك وأنه لا يلزم أن تكون القدرة ثابتة من البداية بلحاظ المجموع بل يكفي ثبوت القدرة عند كلّ جزءٍ جزء في صحّة الأمر بالصلاة الوضوئية من البداية.

كما أنه اتضح النظر فيما ذكره السيد اليزدي(قده):- فإنّه منع من الصحّة في جميع الصور ما عدى صورة تفريغ الإناء المغصوب في الإناء المباح ، ووجه النظر في كلامه:- هو أنه إذا كان يوجد ماء في إناءٍ آخر فيمكن الحكم بالصحة بلا حاجة إلى أمرٍ ترتّبي ، فلماذا تكون هذه الصورة باطلة ؟!!

وهكذا بالنسبة إلى صورتنا الأخيرة فإنه يمكن التصحيح بفكرة الأمر الترتّبي.

ولكن ليس من البعيد أنّ السيد اليزدي(قده) من الذاهبين إلى استحالة فكرة الترتّب ، لأنّ في تلك الفترة الزمنية كانت أفكار الشيخ الأنصاري هي الموجودة وهو كان يذهب إلى الاستحالة ، ونتمكن أن نقول:- إنه يفهم من بعض الفروع المذكورة في العروة الوثقى أنّ السيد اليزدي(قده) يقول باستحالة فكرة الترتّب ومن جملة الفروع هذا الفرع فإنه لم يحكم بالصحّة ، فلو كان من القائلين بإمكان فكرة الترتّب لكان من المناسب أن يحكم بالصحّة ويثير هذه المسالة.

ونذكر شيئاً آخر:- وهو أنّ كل حديثنا هذا هو فيما إذا كانت الآنية التي فيها الماء مغصوبة ، والكلام نفسه يجري فيما إذا كانت من الذهب الفضة ، فإنه إذا كانت كذلك وبنينا على أنّ مطلق استعمال أواني الذهب والفضة لا مجرّد الأكل والشرب حرام يصير حال أواني الذهب والفضة التي فيها الماء حال الإناء المغصوب الموجود فيه الماء ، فكما أمكن التصحيح بفكرة الترتّب في الأواني الغصبية يمكن التصحيح بفكرة الترتّب في آنية الذهب والفضّة.

التنبيه السادس:- الاشارة إلى المقدّمات الخمس التي تمسك بها الشيخ النائيني(قده) لإثبات إمكان فكرة الترتب.

إذا رجعنا إلى أجود التقريرات[1] لاحظنا أنّ الشيخ النائيني(قده) يستدل على إمكان فكرة الترتّب بمقدّمات خمس لا بأس بالاطلاع عليها.

وقبل أن نبيّن هذه المقدّمات الخمس ألفت النظر إلى قضية:- وهي أنّ الشيخ النائيني(قده) تكلّم كثيراً في هذه المقدّمات بحيث ربما يصعب على المراجع تحصيل المطلب ، ولذلك التعرّض لهذه المقدّمات صار له وجاهة من باب أنه حتى يعرف ماذا يقصد.

وهناك ظاهرة أخرى موجودة عنده(قده):- وهي أنه لا يذكر المقوّمات والأسس التي تقوم عليها فكرة الترتّب فقط ، بل في المقدّمات يدفع بعض الاشكالات التي ترد على فكرة الترتّب من هنا وهناك أو بعض التوهّمات ، وهذه طريقة أراها متعبة وليست صحيحة ، بل ينبغي أن تذكر في المقدّمات ما تبتني عليه الفكرة ومقوماتها فقط لا أن تذكر الاشكالات التي قد ترد عليها ، وإنما تذكر الاشكالات بعد ذلك ، فأنت حينما تريد أن تثبت إمكان أصل الفكرة فاقتصر على المقدّمات التي يتوقّف عليها الإمكان وإذا كانت هناك إشكالات فاذكرها بعد أن اتضحت الفكرة ، وهذا ينبغي أن نلتفت إليه في حواراتنا وكتاباتنا.

وهناك قضية ثالثة مرتبطة بالمقدّمات التي ذكرها:- وهذه ظاهرة عامة عند الشيخ النائيني(قده) بل هي ظاهره عامّة عند أعلامنا حيث يذكر المقدمات أوّلاً ثم بعد ذلك يذكر ذا المقدمة ، وهذه الطريقة متعبة جداً لأن الشخص حينما يريد أن يسمع هذه المقدّمات لا يعرف ربطها بذي المقدّمة ووجه الحاجة إليها فإنه بَعدُ لم يعرف ذا المقدّمة ، بل ينبغي تبيّن الفكرة التي عندك ثم بعد بيانها تقول ( وهذه الفكرة تحتاج إلى هذه المقدّمات ) حتى نعرف الربط.

فإذن هذه قضايا ثلاث مهمّة ترتبط بكلام الشيخ النائيني(قده) بشكلٍ عام ، بل هذه الظاهرة موجودة في كلام علمائنا بشكل عام ، يعني حينما تريد أن تقرأ في الكفاية أيضاً ترى هذه الظاهرة موجودة ، وكذلك بعض المحشّين على الكفاية ، بل ينبغي أن تعكس ، فصحيحٌ أنه فنّياً ربما يكون بيان المقدّمات ثم تبين ذا المقدمة هو الصحيح ولكن لأجل أن يفهم الطرف فينبغي أن تبيّن الفكرة ثم تقول ( وهذه الفكرة تحتاج إلى هذه المقدّمات وأنا سوف أثبت هذه المقدمات ).

أما المقدمات التي افادها الشيخ النائيني فهي:-

المقدّمة الأولى:- ذكر فيها دفع إشكال ، وحاصل ما أفاده:- هو أنّ محذور طلب الجمع بين الضدّين متى يلزم ؟ هل يلزم بسبب فعلية الحكمين معاً أو يلزم بسبب إطلاق الحكمين ؟ فإذا كان منشأ طلب الجمع بين الضدّين هو إطلاق الخطابين والحكمين فحينئذٍ بتقييد أحدهما ، يعني تقييد المهم بعصيان الأهم سوف ترتفع المشكلة ولا يلزم محذور طلب الجمع بين الضدّين مادام المنشأ لطلب الجمع بين الضدّين اطلاق الحكمين فنقيّد واحداً منهما فيرتفع هذا المحذور ، أما إذا كان المنشأ لطلب الجمع بين الضدّين هو فعلية الحكمين معاً فيبقى حينئذٍ المحذور على حاله فإنّ المكلف إذا عصى الأمر بالازالة - يعني عصى الأهم - صار الأمر بالمهم فعلياً في حقّه لتحقّق شرطه والأمر بالأهم مفروضٌ أنه فعلي أيضاً ، فاجتمع الحكمان الفعليان ، فيلزم طلب الجمع بين الضدّين ، ويصير الحق آنذاك مع الشيخ الأنصاري والآخوند من أنه يلزم محذور طلب الجمع بين الضدّين ، هذا إذا كان المنشأ هو فعلية كلا الحكمين ، أما إذا قلنا إنَّ المنشأ هو إطلاق الحكمين فمع تقييد أحدهما لا يلزم من ذلك طلب الجمع بين الضدّين.

ومن الواضح أنّ الصحيح هو أنّ منشأ المشكلة هو إطلاق الحكمين - فإنّ هذه تتمة يحتاجها هو(قده) - فإذا كان المنشأ هو إطلاق الحكمين فبتقييد أحدهما لا تلزم حينئذٍ مشكلة طلب الجمع بين الضدّين.

هذا ما ذكره في المقدّمة الأولى التي ذكرها ، ومن الواضح أنّ بعض المقدّمات - وهذا ما سوف نذكره - يمكن الاستغناء عنها فجعل هذه مقدّمة لا داعي إليه.

المقدمة الثانية:- إنّ الحكم المشروط لا ينقلب إلى كونه مطلقاً بتحقّق الشرط ، فعند تحقّق الشرط - أي شرط الحكم المشروط - يبقى الحكم مشروطاً لا أنه ينقلب ويصبح مطلقاً ، فالأمر بالصلاة مشروط بترك الازالة ، فإذا ترك المكلّف الازالة وتحقق شرط الأمر بالصلاة لم يصر الأمر بالصلاة مطلقاً بل يبقى مشروطاً.

ولماذا يؤكد(قده) على ذلك ؟ لأنه إذا صار مطلقاً والمفروض أنّ الأمر بالازالة أيضاً مطلق من البداية فاجتمع حكمان مطلقان على المكلف فيلزم المحذور وهو اجتماع الحكمين المطلقين بطلب الضدّين ، لذلك يحاول(قده) أن يثبت هذه القضية ، ومن المناسب أن لا يبين هذه القضية من الآن بل يبيّنها بعد ذلك ، فهو لذلك يحاول أن يثبت أنّ الحكم المشروط يبقى على كونه مشروطاً حتى بعد تحقق شرطه.


[1] اجود التقريرات، الخوئي، ج1، ص286 – 300.