الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

37/11/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- التنبيه الخامس ( بعض الفروع الفقهية التي قد تخرّج على أساس فكرة الترتّب ) - مبحث الضد.

الاشكال الثالث:- أن يقال إنّ العصيان في محلّ كلامنا لا يمكن تصوره لأنّ الشخص قد فرضناه جاهلاً - افترض أنه جاهلاً قاصراً - ، ومادام هو لا يدري وهو قاصر فالعصيان لا يصدق عليه ، ولا معنى لأن يقال له ( فإن عصيت فصلّ تماماً ) فإنّ العصيان لا يتصوّر في حقه ، فإذن لا يمكن تطبيق فكرة الترتّب لأنّها إنما تتم بتقييد المهم بعصيان الأهم وهنا لا يمكن عصيان الأهم لأنّ المفروض أنّ المكلف جاهلٌ والجاهل لا يتحقق في حقه عصيان.

وجوابه واضح:- فإنّ مفردة ومصطلح العصيان ليس شيئاً أساسياً في فكرة الترتّب وإنما ذكر من باب المثالية ويمكن إبداله بعدم الاشتغال فيقال ( صلِّ قصراً فإن لم تشتغل بالقصر فصلِّ تماماً ) ، فكلمة ( عصيان ) ليس لها دور أساسي في هذا المجال.

إذن ما أفاده الشيخ النائيني(قده) من الاشكالات الثلاثة شيء قابل للمناقشة كما اتضح.

ورب قائل يقول:- أنا سوف أشكل بإشكالٍ آخر - ولعله أحسن الاشكالات - وذلك بأن يقال:- إن فكرة الترتّب إنما يصحّ تطبيقها فيما إذا كان لدينا أمران مطلقان وحيث لا يمكن الجمع بينهما لعدم قدرة المكلّف فيقيّد حينئذٍ المهم بعصيان الأهم لأنّ هذا أولى من طرح أحدهما رأساً فإنّ طرح المهم رأساً ليس له وجه وإنما نبقيه ثابتاً فإنّ الضرورات مقدّرة بقدرها ولكن مشروطاً بعصيان الأهم فيلزم وجود أمرين مطلقين باليد ، وحينئذٍ نأتي ونقيّد المهم بعصيان الأهم ، أما إذا لم يوجد أمران مطلقان باليد ، ومقصودي من باليد يعني هما موجودان في الروايات والروايات تدلّ عليهما مثلاً مسألة الصلاة وإزالة النجاسة فكلاهما يوجد أمرٌ مطلق بهما ، فالروايات دلّت على أنه يجب إزالة النجاسة وكذلك الكتاب الكريم دلّ على وجوب الصلاة عند دخول وقتها ، وكلاهما مطلقٌ من وجود الآخر وعدمه ، فهنا يمكن تطبيق فكرة الترتّب ، أما إذا لم يوجد عندك أمران مطلقان فلا يمكن تطبيق فكرة الترتّب.

ولذلك إذا قام المكلف أوّل الصبح وكان الوقت ضيقاً - وهذه فائدة جانبية - فلابدّ وأن يتيمّم لأجل الصلاة ولكن في بعض المرّات يكون التيم أصعب علينا من الوضوء فيتوضأ فهل هذا الوضوء صحيح أو باطل ؟

إنه قد يصحّحه شخصٌ بالأمر النفسي وهذا طريقٌ جيد ، ولكن هل يمكن أن نصحّحه بالأمر الترتّبي ؟ يعني أن الشرع يقول له هكذا ( تيمم فإن عصيت فتوضأ ) ؟ فلنصحّح الوضوء بهذا الأمر الترتّبي ، فهل هذا الاقتراح صحيح أو باطل ؟

إنه باطلٌ ن وجوابه اتضح من خلال ما ذكرته ، وهو أنك حينما تطبّق فكرة الترتّب لابدّ وأن يكون عندك أمران والمفروض أنه في ضيق الوقت لا يوجد عندك أمر بالصلاة الوضوئية بل من الأوّل الدليل دلّ على أنّ الأمر بالوضوء هو في حال السعة أما في الضيق فلابدّ وان تتيم ، فإذن لا يوجد عندنا أمران مطلقان حتى نقيّد أحدهما بالآخر ، ففكرة الترتّب لا يمكن تطبيقها هنا ، إنما يمكن تطبيقها فيما إذا كان عندنا أمران مطلقان.

وإذا عرفنا هذا نأتي إلى محلّ كلامنا فنقول:- إنّ صلاة القصر والتمام ليس فيهما أمران مطلقان بل إما أني مأمور بالقصر أو مأمور بالتمام ولا يوجد أمران مطلقان حتى نطبّق فكرة الترتّب . إنه قد يخطر إلى الذهن هذا الاشكال.

 

والجواب:- إن مشكلتنا ليست اثباتية وإنما هي ثبوتية ، وما ذكرناه من الحاجة إلى وجود أمرين مطلقين يتمّ بلحاظ عالم الاثبات ، يعني إذا أنت أردت أن تصحّح الصلاة الوضوئية في ضيق الوقت فإنك تحتاج آنذاك إلى وجود أمرين مطلقين حتى تصحّح الصلاة أما إذا لم يكن هناك أمران مطلقان فلا تستطيع تصحيح الصلاة الوضوئية وهذا صحيح ولكنه في عالم الاثبات ، ومرّةً نفترض أنّ الصلاة هي صحيحة حتماً ولكن ما هو وجه صحّتها كما هو الحال في محلّ الكلام فإنه في محلّ الكلام الصلاة صحيحة حتماً لأنّ الروايات دلّت على أنه إذا كان جاهلاً وصلّى التمام بدل القصر فصلاته صحيحة ولا حاجة إلى الاعادة ، فالصلاة صحيحة جزماً ولكن الكلام في التخريج الفنّي لهذه الصحّة الثابتة.

وقد يقول قائل:- ما الفائدة من هذا ؟ لأنّ الصحة إذا كانت ثابتة فما الفائدة من التخريج الفنّي بعد ثبوت النتيجة وهي الصحّة ؟

والجواب:- إنه لعلّ قائلاً يقول:- إذا لم يمكن التخريج الفنّي فالنتيجة أيضاً نرفضها - فما يدلّ على المستحيل نرفضه - ، فإذا كانت الصحّة لا يمكن تخريجها فربما يقول الفقيه إنّ الصحّة أنا أنكرها أيضاً لأنه لا يمكن تخريجها ، فلذلك بعدما ثبتت الصحّة نحتاج إلى وجهٍ لتخريج هذه الصحّة ، فإذا أمكن ذلك فحينئذٍ نأخذ بالرواية.

فإذن مشكلتنا هي مشكلة ثبوتية ، يعني ثبوتاً كيف يمكن تخريج صحّة الصلاة لا أنه الآن نحن نريد أن نصحّحها ، فلو كنّا نريد أن نصحح الصلاة كما قلنا في من يستيقظ والوقت ضيّق ونريد أن نصحّح صلاته الوضوئية فهنا يحتاج إلى أمرين مطلقين ، أما إذا كانت الصحة قد ثبتت بالدليل ونحن نحتاج فقط إلى تخريج فنّي لها فهنا لا نحتاج إلى أمرين مطلقين.

وإذا اتضح هذا المطلب يمكن أن نجيب بجوابين لتوجيه الحكم بالصحّة ثبوتاً:-

الجواب الأوّل:- أن نقول:- إنه من المحتمل أنّ الله عزّ وجلّ قد أمر بأمرين ويكفينا الاحتمال في هذا المقام أمرٌ بالصلاة التيمّمية وأمرٌ بالصلاة الوضوئية على تقدير عدم الاشتغال بالصلاة التيممية ، وهذا الاحتمال موجودٌ وممكنٌ ، فإذا صار ممكناً وجيهاً فالنتيجة الثابتة في الروايات - وهي الصحّة - يمكن أن نأخذ بها لأنه يوجد لها طريق محتمل لا أنه يستحيل وجود طريقٍ لها ، فنقول من الممكن أنّ الله تعالى حكم بالصحّة لأجل وجود أمربن ترتبيّين واقعاً . وهو جوابٌ لطيف.

الجواب الثاني:- أن نقول:- إنّ الحكم بالصحّة لعلّه من باب اكتفاء المولى بما أتى به المكلّف من دون حاجةٍ إلى الاعادة ، أما لماذا اكتفى به ؟ إنه لمصلحةٍ فاكتفى بهذا الذي أتى به المكلّف والذي هو ليس مأموراً به ، فاكتفى به عن المأمور به من باب وجود مصلحةٍ ، فإنه يحتمل وجود مصلحة كمصلحة التسهيل على العباد أو نكتةٍ أخرى من النكات يعرفها الله تعالى ، فيجزي غير المأمور به عن المأمور به لمصلحةٍ ، ولا تعبّر وتقول ( من باب التنازل عن حقّه ) فإنّ هذا التعبير خطأ لأنّ المصالح في الحقيقة هي لا تعود إلى الله تعالى حتى يتنازل عنها ، بل الذي يتنازل هو أنا لأنه يدخل في كيسي شيء حينما أنت تفعل شيئاً ويخرج من كيسي شيء إذا لم تفعل ذلك فهنا التنازل صحيح ، فإذا لم تعطني أموالي فقد أتنازل ، أما لو فرض اني لا يدخل في كيسي شيء ولا يخرج منه شيء بل المصالح كلّها ترجع إلى العبد فالتعبير بالتنازل ليس بصحيح ، فلا تقل من باب التنازل عن حقّه وإنما قل اكتفى بغير المأمور به عن المأمور به لمصلحةٍ يعرفها هو عزّ وجلّ فإنه لا بأس بذلك ، من قبيل أن يأتي إليَّ شخصٌ الآن يعتقد اشتباهاً أنه توجد عندي تعزية اليوم لكنها تكون في يوم الغد فأنا اكتفي بمجيئه وأقول له جزاك الله خيراً لا تأتي مرّةً أخرى فهنا صحيحٌ أن نعبّر أنّ هذا تنازلاً ، فأنا أتنازل من باب أنه فعل هذا ولو اشتباهاً ، فهنا أيضاً الجاهل فعل التمام اشتباها فلعلّ الله تعالى لمصلحةٍ يعلمها هو اكتفى بغير المأمور به عن المأمور به من دون حاجة إلى فكرة الترتّب.

إذن يمكن أن يكون الحكم بالصحّة من باب فكرة الترتّب - بعد فرض أننا نبني على إمكان فكرة الترتّب خلافاً للشيخ الأنصاري - ، أو من باب أنّ الله تعالى اكتفى بغير المأمور به عن المأمور به لمصلحةٍ هو يعلمها.

هذا كلّه بالنسبة إلى هذا الفرع ، ونحن قلنا في البداية أننا نتعرض في التنبيه الخامس إلى فرعين قد يخرّجان على أساس فكرة الترتّب الفرع الأوّل هو صلاة القصر والتمام وقد اتضح أن تخريجها على أساس فكرة الترتّب شيءٌ ممكن ، أما أنه حتمي فلا وذلك لوجود طريقٍ آخر وهو ما أشرنا إليه وهو اكتفاء المولى بغير المأمور به عن المأمور به لمصلحةٍ هو يعلمها.

الفرع الثاني:- التوضؤ بالمغصوب.

توضيح ذلك:- إنّ التوضؤ بالمغصوب له عدّة حالات:-

الحالة الأولى:- أن يكون الوضوء بالماء المغصوب ، فنفس الماء يكون مغصوباً ، كما إذا فرضنا وجود إناءٍ ليس بمغصوبٍ ولكن الماء الموجود فيه مغصوب وأنا أريد التوضؤ بهذا الماء المغصوب ، والسؤال هل هذا الوضوء صحيح أو باطل ؟ وإذا كان باطلاً فهل يمكن تصحيحه بقضية الترتّب ؟

الجواب:- إنّه مادام الماء مغصوباً فنفس وضوئك سواء كان بالارتماس أو بالأخذ منه غرفة غرفة يكون باطلاً ولا يمكن تصحيحه بفكرة الترتّب ، والوجه في ذلك:- هو أن فكرة الترتّب تنفع فيما إذا كان الشيء ليس مأموراً به ، فمن خلال الأمر الترتّبي نوجِد له أمراً ، أما الشيء الذي يكون حراماً بحيث يستحيل أن يتعلّق به الأمر لأنه حرام ففكرة الترتّب لا معنى لمجيئها واقتراحها ، وهنا نفس غمس اليد في الماء هو تصرّفٌ في المغصوب فهو حرام ، وهكذا إذا أخذت منه غرفة غرفة ، فهذا الماء هو حرامٌ فوضوئك حرام ولا يمكن أن يجدي الترتّب لأنّ فكرة الترتّب تنفع فيما إذا فرض أن المورد كان ليس فيه أمرٌ كالصلاة الوضوئية عند ضيق الوقت حيث لا يوجد فيها أمر فنحاول بالترتّب أن نوجد فيها أمراً ، أو كالصلاة عند المزاحمة بالازالة فقد يقال لا أمر فيها فنحاول أن نوجِد فيها أمراً من خلال الترتّب ، أما إذا كان الشيء بنفسه حراماً فالأمر الترتّبي لا يعقل ولا معنى له أبداً.