الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
37/11/23
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- التنبيه الخامس ( بعض الفروع الفقهية التي قد تخرّج على أساس فكرة الترتّب ) - مبحث الضد.
التنبيه الخامس:- بعض الفروع الفقهية التي قد تُخرَّج على أساس فكرة الترتّب:-
هناك بعض الفروع الفقهية وقع الكلام في أنه هل تبتني على فكرة الترتب أو لا ، وفي هذا المجال نذكر فرعين:-
الفرع الأوّل:- ذكر الفقهاء أنّ الجاهل لا يكون معذوراً إلا في موردين أحدهما الجهر بدل الإخفات والاخفات بدل الجهر وهذا المورد متفقٌ عليه ، والمورد الثاني هو التمام بدل القصر دون العكس فهنا المعروف أيضاً أنّ الجاهل معذور في هذين الموردين ، وقد ذكر الشيخ الأعظم(قده) في الرسائل[1] أنّ ظاهر الفقهاء من كون الجاهل معذوراً في هذين الموردين هو المعذورية من حيث الحكم الوضعي دون الحكم التكليفي ، يعني من يحث الحكم الوضعي هو معذور فلا يجب عليه الاعادة ولا القضاء ، أما من حيث الحكم التكليفي - أي العقوبة - فظاهرهم أنه يستحق العقوبة فالشخص الذي جهر بدل الاخفات أو بالعكس يعاقب ، وهكذا بالنسبة إلى التمام بدل القصر ، فإذن ظاهرهم أنّ المعذورية المقصودة هي المعذورية بمعنى أنه لا تجب الاعادة ولا القضاء وأما من حيث العقوبة فهي ثابتة.
فإذا عرفت هذا فسوف يتولّد إشكالٌ وحاصله:- هو أنّ الشخص الذي يأتي بالتمام بدل القصر مثلاً إذا كان مستحقاً للعقوبة - كما قال الشيخ الأعظم(قده) أنّ ظاهرهم ذلك - فهذا يعني أنّ المكلّف هو مأمور بالقصر لأنه يعاقب على أنه لماذا تركت القصر فمعنى ذلك أنه مأمور بالقصر وإلا لم يعاقب على ترك القصر ، فمن استحقاق العقوبة على الواجب المتروك - وهو القصر - نستنتج أنه هناك أمر متوجه إلى المكلّف بالقصر فإذا ثبت أنه يوجد أمر بالقصر فحينئذٍ نأتي ونقول هل يوجد هنا أمرٌ بالتمام أو لا ؟ فإن قلت لا يوجد أمرٌ بالتمام فكيف يجزي التمام بدل القصر إذا لم يكن مأموراً به ؟!! ، وإذا فرض أنه كان هناك أمرٌ بالتمام يلزم تعلّق الأمر بالضدّين بالقصر والتمام معاً في حق المكلّف والحال أنه لا يمكن أن يوجّه إليه الأمر بالاثنين فإنّ المطلوب منه واحدٌ ولا يحتمل أنّ الاثنين مطوبان منه معاً . هذا إشكالٌ أوضحه الشيخ الأعظم(قده) فكيف الجواب عنه ؟
وفي هذا المجال نقل عن الشيخ كاشف الغطاء:- أنه حلّ هذا الاشكال بفكرة الترتّب[2] حيث قال:- إنّ المكلّف ابتداءً هو مأمور بالقصر فإن عصيت فصّل تماماً ، فهو مأمور بالتمام على تقدير عصيان القصر ، فإذن بهذا يثبت إجزاء التمام لأنه يوجد أمرٌ ترتّبي ويعاقب المكلّف على القصر لأنّه ابتداءً مأمورٌ بالقصر.
إذن هذا الاشكال وهذا الحكم الفقهي خُرِّجَ على أساس فكرة الترتّب.
وأنا لا احتاج الآن إلى أن أذكر ما هو رأي الشيخ الأنصاري(قده) في هذا الموضوع ، فهو قال إنّ فكرة الترتب باطلة ووافقه على هذا تلميذه صاحب الكفاية(قده) حيث قال إنه إذا عصى المكلّف الأهم الذي هو في موردنا القصر فحينئذٍ سوف يتوجّه إليه أمران بالضدّين يعني طلب الجمع بين الضدّين شيء مستحيل لا يمكن أن يصدر من المولى الحكيم ، إن قلت:- إنّ هذا حصل باختيار المكلّف فالمكلف هو الذي صار سبباً لتوجّه الأمر بالضدّين ، قلت:- افترض أنه عصى ولكن عصيانه لا يسوّغ توجه الطلب المستحيل إليه ، وهذا من قبيل أن تقول لشخصٍ ( لا تلق نفسك من شاهق فإنه لو ألقيتها من شاهق يجب عليك أن تطير إلى السماء حتى لا تقع على الأرض ) وهو القى بنفسه من شاهق فهل المولى أو الأب يقول لابنه ( يا بني لا تقع إلى الأرض بل طر إلى السماء ) فإنّ هذا مستحيل حتى إذا كان السبب باختيار المكلّف فإنّ توجيه المستحيل مستحيل حتى إذا كان باختيار المكلّف . فالشيخ الأنصاري وافقه تلميذه الخراساني حيث ذهبا إلى استحالة فكرة الترتّب لأنه يلزم من ذلك طلب الجمع بين الضدّين والذي يريد أن يثبت إمكان الترتب فلابد وأن يحلّ هذه المشكلة ، أما مشكلة تعدّد العقوبة التي ذكرناها أو غير ذلك فليس مهمّاًً ، بل لابد من أن تثبت أنه لا يلزم طلب الجمع بين الضدّين ، وهذا ما بيّناه فيما سبق وبيّنا كيفية دفع ذلك ولا نكرّر.
عود إلى صلب الموضوع:- وحاصل موضوعنا هو أنه هناك إشكال في مسألة القصر والتمام وهكذا في الجهر والاخفات وحاصله قد بيّناه وهو أنّ ظاهر الأعلام أن هذا المكلف حينما يترك القصر وهو جاهل ويصلي تماماً فهو ليس معذوراً من حيث الحكم التكليفي وإنما هو معذور من حيث الحكم الوضعي ، فإذن لا لم يكن معذوراً من حيث الحكم التكليفي يعني توجد عقوبة ، وإذا كانت العقوبة موجودة يعني يوجد أمرٌ بالقصر ، وإذا كان يوجد أمر بالقصر نسأل ونقول هل يوجد أمر بالتمام أو لا ؟ فإن كان لا يوجد أمر بالتمام فكيف يجزي التمام !! وإذا كان يوجد أمرٌ به فيلزم طلب الجمع بين الضدّين !! ، هذه مشكلة أجاب عنها كاشف الغطاء فخرَّج هذا الحكم الفقهي على أساس فكرة الترتّب.
والآن نقول:- هل يمكن تطبيق فكرة الترتّب في هذين الموردين أو لا ؟
وفي هذا المجال أجاب الشيخ النائيني(قده):- بأنه لا يمكن تطبيق فكرة الترتّب ، وذلك اشكالات ثلاثة:-
الاشكال الأوّل[3] :- إنّ شرط تطبيق فكرة الترتّب أن يكون المورد من الضدّين اللذين لهما ثالث ، أما إذا لم يكن لهما ثالث فلا يمكن تطبيق فكرة الترتّب لأنه يلزم آنذاك طلب تحصيل الحاصل . ومثال الذي لهما ضدّ ثالث الصلاة والازالة ( أزِل فإن عصيت فصلِّ ) وهذا معقولٌ لأنه يوجد ضدٌّ ثالث وهو أن يعصي المكلف الازالة ويقعد أو ينام أو يأكل وهذا ضدٌّ ثالث ، فالمولى يقول ( إذا عصيت الأمر بالإزالة اذهب وصلّ لا أنه لا تنشغل بالضدّ الثالث ) وهذا معقولٌ ، أما إذا فرض أنهما ضدّان لا ثالث لهما فالأمر الترتّبي لا يمكن ، مثل الحركة والسكون فأقول للشخص ( اسكن في مكانك فإن عصيت فتحرّك ) فهو إذا عصى السكون فحتماً سوف يتحرّك فالأمر بالحركة يكون طلباً لتحصيل الحاصل.
إذن شرط تطبيق فكرة الترتّب أن يكون المورد من الضدّين اللذين لهما ثالث ، والشيخ النائيني(قده) قال في موردنا أنهما من الضدّين اللذين لا ثالث لهما لأنّه في الجهر والاخفات مثلاً إذا لم يجهر الشخص فحتماً سوف يخفت وإذا لم يخفت فحتماً سوف يجهر فالأمر بالثاني بعد عصيان الأوّل يكون أمراً بتحصيل الحاصل ، وهكذا القصر والتمام فإذا أرد أن يعصي القصر فحتماً سوف يأتي بالتمام فطلب التمام يكون طلباً لتحصيل الحاصل.
ويردّه:- نحن نسلّم أنه في مورد الضدّين اللذين لا ثالث لهما لا يمكن تطبق فكرة الترتّب ، ولكن نقول:- من قال إنّ الموردين هما من الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، بل لهما ثالث فالجهر والاخفات لهما ثالث وهو أن يسكت المكلف ولا يقرأ ، فإذن يمكن تصوّر الضدّ الثالث ، وعلى هذا الأساس يكون طلب الضدّ الآخر شيئاً وجيهاً.
وهكذا بالنسبة إلى القصر والتمام ، فيمكن أن يترك القصر ويترك التمام وينام مثلاً ، فإذن هو من الضدّين اللذين لهما ثالث وليسا من الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، فإذن لا إشكال من هذه الناحية.
الاشكال الثاني:- إنّ شرط تطبيق فكرة الترتب أن لا يكون التضادّ بين الشيئين تضاداً دائمياً وإنما يكون تضاداً اتفاقياً ، فإذا كان التضادّ اتفاقياً فلا بأس حينئذٍ بتطبيق فكرة الترتّب ، من قبيل الصلاة والازالة فإنّ التضادّ بينهما اتفاقي وليس دائمياً إذ من الممكن أن تكون الازالة قابلة للاجتماع مع الصلاة كما إذا كانت النجاسة خفيفة بحيث لا تستلزم الفعل الكثير والمكلف يمكنه أن يزيلها في أثناء الصلاة فالتضادّ بين الصلاة وبين الازالة ليس دائمياً وإنما هو حاصل في بعض الأحيان فيمكن تطبيق فكرة الترتّب ، وهذا بخلافه في مثل الجهر والاخفات أو القصر والتمام فإنّ التضاد بينهما دائمياً وليس اتفاقياً فلا يمكن تطبيق فكرة الترتّب.
وفيه:- إنّ اشتراط أن يكون التضادّ اتفاقياً لا وجه له ، يعني لا فرق بين أن يكون التضادّ دائمياً أو يكون اتفاقياً؛ إذ مادام يوجد لهما ضدّ ثالث والمفروض أنه يوجد ضدّ ثالث فإذا لا يوجد لهما ضدّ ثالث فحينئذٍ لا يمكن تطبيق فكرة الترتّب لاختلال الشرط الأول ، كلا بل المفروض أنّه يوجد ضدٌّ ثالث ، فإذا كان لهما ضدّ ثالث فسواء كان التضاد بينهما دائمياً أم كان اتفاقياً فبالتالي يمكن تطبيق فكرة الترتّب ولا موجب لاشتراط أن يكون التضاد بينهما اتفاقياً ، فليكن دائمياً ، مثل الجهر والاخفات افترض أنّ التضاد بينهما دائمياً وهذا صحيح ولكن لماذا لا يمكن تطبيق فكرة الترتّب ؟! بل يمكن تطبيقها مادام هناك ضدٌّ ثالث فيقال له ( اجهر فإن عصيت فلا تترك القراءة رأساً بل اخفت ) ، وهذا شيءٌ معقول ، فإذن أصل هذا الاشتراط لا وجه له .
هذا مضافاً إلى أنه نقول:- إنّ التضاد هو دائمي في جميع الموارد حتى بين الصلاة وبين الازالة ، يعني متى ما افترضنا أنّ الازالة هي ضدٌّ للصلاة فإذن هي لا تجتمع مع الصلاة ، ومتى تكون ضدّاً ؟ إنها تكون ضدّاً إذا كانت الازالة تستدعي فعلاً كثيراً فآنذاك تكون ضدّاً والتضاد بين ذهين الضدّين دائمياً ، أما إذا لم تستدعِ فعلاً كثيراً فهي أصلاً ليست بضدٍّ ، نظير الشيء الآخر مثل تحريك اليد فلا معنى لأن تقول إنّ التضاد دائمي وليس بدائمي بل أصلاً لا توجد ضدّية.
والخلاصة:- نحن نناقشه من حيث الكبرى ومن حيث الصغرى ، أما من حيث الكبرى فلا نسلّم ما أفاده من أنّ فكرة الترتّب تختصّ بموارد التضاد الاتفاقي دون الدائمي ، ونحن نقول له:- كلا بل إنه حتى في التضاد الدائمي مادام يوجد ضدٌّ ثالثٌ فلا بأس بتطبيق فكرة الترتّب ، ونخالفه في الصغرى وهي أنه في مثال الازالة والصلاة التضاد بينهما تفاقي ، ونحن نقول:- كلا بل التضاد بينهما دائمي ، فمتى ما افترضننا أنّ الازالة هي ضدٌّ فالتضاد بينهما دائمي ، نعم قد تكون أصلاً هي ليست بضدّ ولكن هذه قضية ثانية فتصير مثل حركة اليد ، أما متى ما كانت ضدّاً فالتضاد بينهما وبين الصلاة يكون دائمياً.