الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

37/11/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- المورد الخامس ( هل يصح تطبيق فكرة الترتب في مورد اجتماع الأمر والنهي أو لا ؟ )، التنبيه الثالث - مبحث الضد.

المورد السادس:- هل يصحّ تطبيق فكرة الترتّب في مورد اجتماع الأمر والنهي أو لا ؟

فمثلاً الصلاة في الدار المغصوبة مورد لاجتماع الأمر والنهي فهي صلاة فتكون واجبة وهي بنفسها غصبٌ فتكون محرّمة اجتمع فيها الأمر والنهي والوجوب والحرمة ، فهل يمكن تطبيق فكرة الترتّب بهذا المعنى لو قدّمنا جانب النهي فيصحّ أن نقول للمكّلف ( لا تغصب ولكن إن عصيت وغصبت فلا تجلس ولا تنام ولا تركض ولا تأكل ولا تشرب وإنما اشتغل بالصلاة فإن عصيت فلا أقل دع عصيانك يصير ضمن الصلاة لا ضمن الأمور الأخرى من أكلٍ وشربٍ وما شاكل ذلك ) فهل هذا ممكن أو لا ؟

أجاب الشيخ النائيني(قده)[1] بالنفي فقال:- كلا لا يمكن ذلك ، ووجه ذلك:- هو أنّ عصيان النهي عن الغصب إما أن يتحقق بالصلاة أو يتحقق بسائر الأضداد كالأكل والشرب ولا يمكن للغصب أن يتحقق من دون أن يكون ضمن واحدٍ من الأضداد الوجودية ، فإذن واحدٌ من الأضداد الوجودية موجود إما أن يصير الغصب وعصيان النهي عن الغصب بسبب الصلاة أو يصير بسبب الأضداد الأخرى كالأكل والشرب ، فعلى الأوّل يلزم محذور طلب تحصيل الحاصل لأنه على الأوّل إن عصيت النهي عن الغصب وذلك بأن صليت فآمرك بالصلاة إنه طلب تحصيل الحاصل لأنه مشغولٌ بالصلاة لأنّ عصيان النهي عن الغصب صار بالصلاة فمادام مشتغلاً بالصلاة فلو قلت له صلّ فهذا طلب تحصيل الحاصل وهو لا يمكن ، وأما إذا تحقق بسائر الأضداد كالأكل والشرب مثلاً فيلزم آنذاك طلب الجمع بين الضدّين وذلك باعتبار أنه إذا عصى المكلّف النهي عن الغصب وذلك بأن أخذ يأكل ويشرب فيقال له حينما هو مشغول بالأكل والشرب ( حينما تأكل صلِّ ) وهذا غير ممكن فالصلاة والأكل ضدّان وهما لا يجتمعان فإذا كنت أنا مشغولاً بالأكل لا تستطيع أن تقول لي صلِّ اثناء اشتغالك بالأكل فإنه طلب الجمع بين الضدّين ، يعني طلب فعل الضدّ وهو الصلاة على تقدير الاشتغال بالضدّ الآخر وهو الأكل والشرب ، إنه مستحيلٌ ولا يمكن.

مضافاً إلى قضية أخرى:- وهي أنه ركيكٌ أن يقال ( إذا اشتغلت بهذا الضدّ فيطلب منك ذلك الضدّ ) فإنّ هذا لا معنى له بقطع النظر عن مسألة الاستحالة ، إذ أحد الضدّين لا ربط له بالضدّ الآخر ، يعني أنَّ الصلاة لا ربط لها بالأكل والشرب فلا معنى لأن يطلب المولى الصلاة على تقدير الاشتغال بالأكل والشرب ، إنّ هذا ركيكاً ولا معنى له بقطع النظر عن مسألة الاستحالة.

ثم التفت الشيخ النائيني إلى نفسه وأخذ يعترض عليها بقوله:- إن قلت إنّ نفس هذا الكلام الذي ذكرته يأتي في موارد الترتّب المقبولة لدى الجميع ، ويوجد مورد للترتّب مقبولٌ بين الجميع وهو الصلاة مع الازالة فالإزالة أهم فيمكن للمولى أن يقول ( أزل فإن عصيت فاشتغل بالصلاة ) ، هذا هو المورد المتيقن والمثال المتيقن لفكرة الترتّب وحتى الشيخ النائيني(قده) يقبله أيضاً ، ولكن نفس هذا الذي ذكره يأتي في هذا المثال حيث يقال إنه حينما يقال للمكلّف ( إذا عصيت الأمر الازالة فصلِّ ) فنسأل كيف يصير الأمر بالإزالة ؟ إنه إما أن يشتغل بالصلاة أو بسائر الأضداد كأن يأكل أو يشرب ، فإن كان مشغولاً بالصلاة فلا معنى لأن يقال له صلِّ لأنه طلب تحصيل الحاصل ، وإن كان مشغولاً بسائر الأضداد كأن كان يأكل ويشرب فلا معنى لأن تقول له صلِّ فإنّ هذا طلب الجمع بين الضدّين ، مضافاً إلى أنه لا معنى ولا مناسبة على تقدير الأكل والشرب أريد منك الصلاة إذ لا ربط لأحدهما بالثاني ، فإذن نفس ما ذكرته في مثال الغصب والصلاة يأتي نفسه في مثال الصلاة والازالة ؟!

قلت:- إنه في مثال الصلاة والغصب نتمكن أن نقول إنّ المكلف إذا عصى النهي عن الغصب وصلّى فالصلاة بتعبيرٍ آخر هي عين الغصب ، فنستطيع أن نقول الصلاة بنفسها هي الغصب والغصب هو الصلاة فهذا مصداق لذاك وليس ملازماً ، ولذلك يصحّ عرفاً أن تقول الغصب هو الصلاة فنحمل الغصبيّة على نفس الصلاة ، فالصلاة ليست ملازم لمخالفة النهي عن الغصب وإنما هي عين الغصب ، فاذا كانت عين الغصب يأتي ما ذكرناه من أنه إذا صارت مخالفة النهي بالصلاة فلا معنى آنذاك لطلب الصلاة على تقدير فعل الصلاة لأنّ هذا طلب تحصيل الحاصل ، وهذا بخلافه في مثال الصلاة والازالة فإنّ من عصى الأمر بالإزالة فعصيانه للأمر بالإزالة ليس نفس الصلاة ولذلك لا تستطيع أن تقول عصيان الصلاة وتركها هو الصلاة والصلاة هي عصيان الازالة ، كلا فإنّ حمل هو هو لا يصحّ أما هنا فيصح حمل هو هو ، فإذا لم تكن هنا عينية - يعني في مثال الصلاة والازالة الذي هو مورد الترتّب - وإنما هو مقارنة خارجية اتفاقية فتأتي فكرة الترتّب إذ عصيان الأمر بالإزالة لا يتحقّق بالصلاة وإنما الصلاة أمرٌ مقارن ، فعلى هذا الأساس لا مشكلة في البين ويمكن تطبيق فكرة الترتّب لأنّ عصيان الأمر بالإزالة لا يتحقّق بنفس الصلاة وليس مصداقه الصلاة حتى يلزم طلب تحصيل الحاصل ، وهذا بخلافه في الصلاة مع النهي عن الغصب فهناك مخالفة النهي عن الغصب يتحقّق بنفس الصلاة بحيث تكون الصلاة هي مصداقٌ لمخالفة النهي عن الغصب ، فهي نفسها الغصب ويصحّ حمل هو هو ، وإذا صح حمل هو هو فلا يمكن أن نقول له ( على تقدير عصيان النهي عن الغصب - يعني فعل الصلاة - فصلِّ ) فإنّ هذا طلب تحصيل الحاصل.

ويرد عليه:-

أوّلاً:- لا نسلّم أنّ الغصب يتحقّق بنفس الصلاة ، أو بالأحرى مخالفة النهي عن الغصب يتحقّق بنفس الصلاة بحيث تكون الصلاة هي مصداق الغصب وعين الغصب فإنّ الغصب لا يتحقّق بالصلاة بل بالكون والتواجد في المغصوب ولكن هذا الكون لا يمكن أن يتحقّق من دون مقارنٍ ، فحتماً أنت إما أن تصلّي أو تمشي أو غير ذلك ، فكلّ هذه الأمور حتى الصلاة مقارنة للكون في المغصوب وليست هي عين الكون في المغصوب وهذا من الواضحات.

وعلى هذا الأساس ردّت شبهة الكعبي حيث قال:- لا يوجد مباح في الدنيا فهو إما واجب أو حرام ، لأجل أنّ ترك الحرام في الحقيقة بما أنه لازمٌ وواجبٌ فيتحقّق ضمن المباح ، فالمباح يصير واجباً لأجل أنّ ملازم الواجب واجب ، لأنه أنت مثلاً تنام فأنت حينما تترك الحرام فتنام فهذا النوم ملازمٌ لترك الحرام مثل شرب الخمر فصار واجباً لأنّ ملازم الواجب واجب.

وكان الجواب هناك:-

أوّلاً:- مَن قال إنّ حكم الملازم يلزم أن يتفق مع حكم ملازمه ؟!!

ثانياً:- إنّ هذان بينهما مقارنة اتفاقية وليس علّة ومعلولية ، فملازمٌ بمعنى علّة ومعلول لا يوجد بل هذا مقارنٌ اتفاقي ، فترك الحرام اتفاقاً يتحقّق بالنوم أو بالأكل وهذا مقارن اتفاقي لا أنه لازمٌ أو ملازمٌ بمعنى علّة ومعلول.

مضافاً إلى ذلك هل أنّ ترك الحرام واجب ؟ كلا ، بل ترك الحرام ليس بواجب وإنما هو تركٌ للحرام ، فإذا تركت الحرام لم تفعل واجباً بل تركت الحرام ، فعلى هذا الأساس ترك الحرام لا نقول هو واجبٌ وإذا عبّرنا وقلنا هو واجب فهذا من باب المسامحة - وهذا غير مهم -.

والذي أريده هو هذا المقدار:- وهو أنّ ترك الحرام ليس عين النوم والأكل ، بل ولا هو لازمٌ بنحو العلّة المعلول وإنما هو مقارنٌ اتفاقي ، والحكم لا يسري من الشيء إلى مقارنه الاتفاقي وإنما يسري إلى علّته أو معلوله وهذا من الواضحات ، فكيف يقول الشيخ النائيني(قده) هنا إنّ مخالفة النهي عن الغصب أو الغصب يتحقّق بنفس الصلاة ؟!! كلا بل هي مقارن اتفاقي.

ثانياً:- هذا يتمّ بناءً على امتناع اجتماع الأمر والنهي ولا يتم بناءً على الجواز ، إذ بناءً على الامتناع يكون عندنا شيء واحد وبناءً على الجواز يكون عندنا شيآن في عالم الخارج ، لأنّ القائل بالجواز لماذا يقول بالجواز ؟ إنه يقول به لأجل أنّ وجود هذا غير وجود ذاك ، وهل هذا صحيح أو باطل فهذا ليس مهماً لي فهو باطلٌ إذ لا يوجد شيآن في الخارج هما صلاة وغصب ، لكن القائل بالجواز يقول يوجد اثنان في الخارج ، أما القائل بالامتناع فيقول يوجد شيء واحد في الخارج ، فبناءً على الامتناع يكون عندنا شيء واحد فتأتي مقالة الشيخ النائيني(قده) من أنه في الحقيقة لا يوجد عندنا صلاة وغصب في الخارج بل الغصب عين الصلاة والصلاة عين الغصب ، أما على القول بجواز الاجتماع فالصلاة غير الغصب وجوداً فإذن سوف لا تصير عينيّة إذ العينيّة فرع الاتّحاد ، فما ذكره الشيخ النائيني(قده) إنما يتمّ بناءً على القول بالامتناع إذ على القول بالامتناع يكون الموجود خارجاً هو شيء واحد فتتحقّق المصداقية فلا يوجد شيآن غصب وصلاة بل شيئاً واحداً فيأتي ما ذكره من أنّ الغصب عين الصلاة والصلاة عين الغصب ، أما بناءً على الجواز فيوجد عندنا شيآن فإذا كان يوجد شيآن فلا توجد عينيّة حتى يأتي ما ذكره.


[1] أجود التقريرات، النائيني، ج1، ص320، 326.