الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

37/11/17

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- المورد الرابع (هل يجري الترتب في الأحكام الضمنية ) ، التنبيه الثالث - مبحث الضد.

المورد الرابع:- هل يجري الترتّب في الأحكام الضمنية ؟

توضيح ذلك:- إنّ الأحكام تارةً تكون نفسيّة استقلالية وأخرى تكون ضمنيّة ، مثال الاستقلاليّة الأمر بالإزالة والأمر بالصلاة ( أزل فإن عصيت فصلِّ ) ، فأمر أزِل أمرٌ نفسي استقلالي وكذلك صلِّ حينما اجتمعا في حقّ المكلف وقع تزاحم فتأتي فكرة الترتّب وهذا واضح.

ومثال الثاني هو أن يكون لدى المكلّف ماء بمقدار قليل يسع إما الوضوء أو تطهير البدن فالضوء واجب ضمني فإنّ الواجب النفسي هو الصلاة مع الوضوء وطهارة البدن أيضاً واجب ضمني فإنّ الواجب هو الصلاة مع طهارة البدن فهنا هل يصرف الكلّف الماء في الوضوء أو يصرفه في تطهير بدنه ؟ وواضح أنّ الأهم مثلاً هو الوضوء ، ففي مثل هذه الحالة هل يمكن أن نطبّق فكرة الترتّب فيقال إنّ الواجب على المكلف هو الوضوء فإنه إن كان الماء قليلاً فتوضأ فإن عصيت فطهّر بدنك ، فالأمر بتطهير البدن الذي هو واجب ضمني وليس نفسياً صار مشروطاً بعصيان الأمر بالوضوء ، ففكرة الترتّب هل يمكن تطبيقها هنا أو لا ؟

ويوجد مثالٌ آخر لذلك وهو الجهر والاخفات ، فإنّ الواجب على الرجل هو الجهر ولكن إذا عصى فهل يمكن أن نطبّق فكرة الترتّب فنقول ( فإن عصيت فأخفت ) ؟ وكلامنا الآن في الامكان وليس في الوقوع ، يعني هل يمكن تطبيق فكرة الترتّب في التكاليف الضمنية - يعني في باب الأجزاء والشرائط - ؟

في هذا المجال ذكر السيد الخوئي(قده)[1] :- أنه لا يمكن ذلك ، والوجه فيه:- هو أنه بعد أن تعذّر أحد الجزأين إما الوضوء أو تطهير البدن فالأمر النفسي بالصلاة سوف يسقط ولا يبقى ، ومادام لا يبقى فكيف تأتي فكرة الترتّب !! نعم علمنا من الخارج من باب الضرورة أو من غير ذلك أنّ الصلاة لها خصوصية فلا يسقط أمرها ولذلك عُرِفَ في الأوساط الحوزوية أنّ الصلاة لا تسقط بحال - ولا توجد عندنا رواية بهذا الشكل - ، فإذن الأمر بالصلاة يكون باقياً جزماً ولكن بعد بقائه هل يكون باقياً بهذا الشكل أو بذاك الشكل ؟ وقصدي بهذا الشكل يعني صلِّ مع صرف الماء في الوضوء ويوجد احتمال ثاني وهو صلّ بصرف الماء في تطهير البدن ، فحتماً يوجد أحد الأمرين ، أما كليهما فليس بموجودٍ ، وكلّ واحدٍ يقول أنا الموجود فيحصل تعارض فإنه يوجد علمٌ بعدم ثبوتهما معاً ، يعني التكليف بالصلاة مع الوضوء والتكليف بالصلاة مع تطهير البدن كلاهما ليسا موجودان فإنّ هذا لا يمكن لأنّه لا يصحّ إلا واحد بل أحدهما موجودٌ فيحصل تكاذب وحينئذٍ يصير هذا تعارض فلا تزاحم فإنّ التزاحم يكون في مورد وجود أمرين كما في الصلاة والازالة فيوجد أمرٌ بالصلاة وأمرٌ بالإزالة والمكلف تضيق قدرته عن الامتثال ، إما هنا فالمفروض أنّ ذلك الأمر قد سقط وحتماً وجد واحد ، فعلى هذا الأساس يحصل علم إجمالي بوجود أحد التكليفين فيحصل تعارض فالترتّب لا معنى له أصلاً لأنّ الترتّب هو في مورد وجود أمرين وتضيق القدرة عن امتثالهما فيقيّد المهم بعصيان الأهم ، أما إذا كان أمراً واحداً فتقييده بعصيان لأهم لا معنى لأنه أمرٌ واحد وليس أمران ، فيوجد تعارضٌ وليس تزاحماً.

وفي مقام التعليق نقول:- هذا جيّدٌ في الجملة ، ولكن ما أفاده أقرب إلى المحذور الاثباتي دون المحذور الثبوتي ، وكان من المناسب أن يبيّن المحذور الثبوتي لأنه دائماً إذا كان يوجد محذور ثبوتي فهو أولى بالبيبان ، نعم يضمّ إليه المحذور الثبوتي أما أنّنا يبيّن المحذور الاثباتي دون الثبوتي فهذا ليس صحيحاً مادام المحذور الثبوتي موجوداً ، بل قد نقول إنَّ المحذور الاثباتي في بعض الأحيان يمكن التغلّب عليه كما في مثال الجهر والاخفات ، فإنه في مثال الجهر والاخفات نعلم بأنّ الأمر متوجهٌ حتماً للصلاة بقيد الجهر ولا يوجد تردّد من هذه الناحية وفكرة التعارض التي ذكرها اليد الخوئي(قده) لا تأتي هنا بل هي خاصّة بمثال الماء الذي يكفي إما للوضوء فقط أو لتطهير البدن فقط وما هو على شاكلة هذا المثال ولا يأتي ما أفاده في مثال الجهر والاخفاء فإنه حتماً الأمر متوجه في حقّ الرجل إلى الجهر ولا يوجد تعارضٌ من هذه الناحية ، لكن رغم هذا لا يمكن تطبيق فكرة الترتّب لا لما أفاده من سقوط الأمر الأوّل حتماً وما يتولّد هو مشكوكٌ فيحصل تعارضٌ فإنّ كلّ هذا الكلام لا يأتي لأنّ الأمر الأوّل المتعلق بالجهر بَعدُ باقٍ في حقّ المكلف غاية الأمر المكلف أراد أن يعصيه ، وهذا لا يكون موجباً لسقوطه فالأمر يكون باقياً فحينئذٍ لا يتولّد علمٌ إجمالي بثبوت أحد تكليفين فيحصل تعارضٌ بينهما كما هو أفاد.

فإذن من المناسب إضافة المحذور الثبوتي وذلك بأن يقال:- إذا أردنا تطبيق فكرة الترتّب فهل نطبقها في حالة فرض كون الأمر واحداً يعني في داخل الأمر الواحد من دون ضمّ أمر ثانٍ - بل في الأمرٍ الواحد نطبق فكرة الترتّب - أو المقصود بضمّ أمرٍ آخر ؟ فإن كان المقصود الأوّل - يعني أمرٌ واحد هو يكون في ضمنه فكرة الترتّب - فهذا شيء غير ممكن في حدّ نفسه لأنّ ذلك الأمر الواحد إما أن يدلّ على وجوب الصلاة مع الوضوء أو يدلّ على الصلاة مع تطهير البدن أما أنه يدلّ على كليهما فلا يدلّ إلا بافتراض أمرٍ ضمني آخر.

إذن الأمر الضمني الواحد لا يدلّ إلا على تكليفٍ واحدٍ فكيف نطبّق فكرة الترتّب في التكليف الواحد فإنّ هذا شيء غير ممكن ؟!! فأمرٌ بالصلاة بلا وضوء يدلّ على أنه تجب الصلاة مع الوضوء - إذا افترضنا أمراً ضمنياً واحداً - ولا يدلّ على وجوب الصلاة مع تطهير البدن ، ففكرة الترتّب لا تأتي لأنها تأتي إذا فرضنا وجود أمرين وهنا لا يوجد أمرٌ واحد والأمر الواحد لا يدلّ إلا على تكليف واحد ولا يدلّ على التكليف الثاني حتى يحصل الترتّب.

وأما على الثاني - يعني نفترض ضمّ أمرٍ ثانٍ - فجوابه:- إنّ ضمّ الأمر الثاني فرع تغيّر الأمر الأوّل ، يعني بعبارة أخرى لا يتولّد أمرٌ بصرف الماء في تطهير البدن إلا أن نفترض أنّ الأمر بالصلاة النفسي لابد أنه يتغيّر من كونه متعلّقاً بالصلاة الوضوئية إلى كونه متعلقاً بالصلاة مع التطهير ، فإذن يلزم أن يحصل تبدّل في ألأمر النفسي لا أنّ الأمر النفسي الأوّل يكون كافياً لتحقيق فكرة الترتّب فإنّ الأمر النفسي الأوّل لا يمكن أن يدل على الصلاة مع تطهير البدن إلا مع تغيّر نفس الأمر والمفروض أنّ الأمر الموجود عندنا بالصلاة هو أمرٌ بواحدٍ منهما إما بالوضوء فقط أو بالصلاة مع تطهير البدن ولا يوجد أمرٌ بكليهما ، فإذن فكرة الترتّب لا يمكن تطبيقها إلا بفرض أمرٍ نفسيٍ آخر والمفروض أن لدينا أمراً نفسياً واحداً.

إن قلت:- هذا كلّه وجيه إذا افترضنا أنّ الترتّب نريد أن نطبقه بين نفس التكاليف الضمنية فيأتي هذا الكلام وهو أنّ التكليف الضمني الواحد لا يدل إلا على واحد إما أن يدلّ على وجوب الوضوء أو يدل على وجوب التطهير ولا يدل على كليهما حتى يمكن تطبيق فكرة الترتّب ، لكن لنقل إنّ الترتّب يحصل بين التكاليف النفسية يعني بين صلِّ مع الوضوء الذي هو أمرٌ نفسي وصلِّ مع طهارة البدن ، فبين التكاليف النفسية يمكن فرض ذلك ، فإذا لم يمكن بين التكاليف الضمنية يمكن فرضه بين التكاليف النفسيّة.

قلت:- المفروض أنه لا يوجد عندنا إلا تكليف نفسيّ واحد ولا يوجد عندنا تكليفان نفسيان حتى نطبق فكرة الترتّب. ونتمكن أنّ نلخص المطلب في عبارةٍ واحدة فنقول:- إنّ فكرة الترتّب تحتاج إلى وجود أمرين غايته نقيّد أحد الأمرين بعصيان الآخر ، وفي باب التكاليف الضمنية لا يوجد إلا أمر نفسي واحد وتكليف ضمني واحد أيضاً ولا يوجد تكليفان نفسيان أو تكليفان ضمنيان وإنما الموجود هو التكليف النفسي وهو واحدٌ ، فإذن كيف يمكن تطبيق فكرة الترتب؟!!

إذن يستحيل ولا يمكن تطبيق فكرة الترتّب لكون الأمر واحداً وفكرة الترتّب تحتاج إلى وجود أمرين.


[1] محاضرات في الأصول، الخوئي، ج3، ص101.