الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

37/08/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- التنبيه الثاني ، النبيه الثالث ( مبحث الترتب ) - مبحث الضد.

وقبل أن ندخل في التنبيه الثالث توجد حالة ترتبط بالتنبيه الأوّل:- حيث قلنا في التنبيه الأوّل توجد حالات إما لا يمكن فيها جريان الترتّب أو لا ثمرة فيها وقد ذكرنا ثلاث حالات ، وتوجد حالة أخرى يلزم أن تلحق بالتنبيه الأوّل وهي حالة رابعة وهي:-

الحالة الرابعة:- إذا فرض أنّ المورد كان من النقيضين فإنّ فكرة الترتّب لا تجري في مثل ذلك ، فمثلاً لا يمكن أن تقول لشخصٍ أفعل الصلاة وصم وخمّس فإن عصيت فلا تصلّ أو فلا تخمّس ، وإذا نعكس المثال فيكون أحسن يعني في البداية يكون نهي فنقول له لا تفعل الشيء الفلاني فإن عصيت فافعل ذلك الشيء الفلاني ، إنّ هذا الأمر الثاني الذي هو مترتّب على عصيان التكليف الأوّل لا يمكن لأنّ عصيان الأول يصير بالفعل ، فأنا قلت له مثلاً لا تأكل كثيراً فإن عصيت فأكل كثيراً فعصيان التكليف الأوّل يصير بالفعل بأن يأكل كثيراً فلا معنى حينئذٍ لأمره بعد ذلك بالأكل الكثير لأنه أمرٌ بتحصيل الحاصل.

إذن فكرة الترتّب كما لا يمكن أن تجري في الحالة الأولى من الحالات التي ذكرناها في التنبيه الأول - وهي بناءً على اقتضاء الشيء عن النهي عن ضدّه - كذلك لا يمكن أن تجري في النقيضين؛ إذ عند النهي عن أحد النقيضين بأن قلت لا تأكل فلا يمكن أن آمره بعد ذلك وأقول له فإن عصيت فكُل فإنه إذا عصى فالعصان متحقّق بالأكل فلا معنى لأمره بعد ذلك بالأكل وما هو إلا طلبٌ لتحصيل ما هو حاصل.

والأمر كذلك في الضدّين اللذين لا ثالث لهما كالحركة السكون فلا يمكن أن تقول للشخص تحرّك فإن عصيت فاسكن فإنّ هذا غير ممكن باعتبار أن عصيان ذلك التكليف إنما يكون هو بالسكون فلا معنى لأمره بالسكون بعد ذلك وما هو إلا طلب تحصيل الحاصل ، فعلى هذا الأساس لا يمكن تطبيق فكرة الترتّب في مورد النقيضين ، وهكذا لا يمكن في مورد الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، والنكتة هي أنّ عصيان التكليف الأوّل إنما يكون بفعل النقيض أو الضدّ الذي لا ثالث له فالأمر به حينئذٍ يكون أمراً وطلباً لتحصيل ما هو حاصل وهو غير ممكن.

التنبيه الثالث[1] :- ذِكر بعض الحالات التي وقع الكلام في إمكان الترتّب فيها وعدمه.

الحالة الأولى:- ما إذا فرض أنّ التضادّ بين الشيئين كان تضاداً دائمياً فهنا لا يمكن تطبيق فكرة الترتّب عند الشيخ النائيني(قده) كما ذكر ذلك أجود التقريرات[2] ، من قبيل القراءة الاخفاتية والقراءة الجهرية فإنّ التضادّ بينهما دائمي يعني لا يمكن في أيّ حالةٍ وفي أيّ زمانٍ بل على طول الخطّ لا يمكن أن يجتمعا فبينهما تضادّ إما قراءة اخفاتية أو قراءة جهرية ، في مقابل أن يكون التضادّ ليس دائمياً مثلاً الازالة والصلاة فإنّ الازالة والصلاة ليس التضادّ بينهما دائمياً فربما في بعض الأحيان يمكن الصلاة مع الازالة ، كما إذا فرض أنّ الازالة تحتاج إلى شيءٍ يسيرٍ فلا تستلزم فعلاً كثيراً يؤثّر على الصلاة فيمكن للمكلف أن يصلّي ويزيل فالتضادّ بينهما ليس دائمياً ، بخلافه في الجهر والاخفات بالقراءة فإنّ التضادّ دائمي فلا يمكن مع تحقّق أحدهما تحقّق الآخر ، والشيخ النائيني(قده) قال إذا كان التضادّ دائمياً فالترتّب لا يمكن ، وذلك لأنه سوف تتحقّق آنذاك معارضة بين الدليلين يعني دليل ادّ الصلاة مع الصلاة مع القراءة الاخفاتية ودليل إن عصيت فأدّ الصلاة مع القراءة الجهرية ، فإذن بينهما تعارضٌ فلا يمكن تطبيق فكرة الترتّب لأنه بنظر العرف تتحقّق معارضة بين الدليلين وتختصّ فكرة الترتّب بالضدّين اللذين لا يكون التضادّ بينهما دائمياً كالإزالة والصلاة.

وأنا أذكر توضيحاً:- وهو أنّ الشيخ النائيني(قده) علّل عدم الامكان بالتعارض بين الدليلين ولم يعلّل بأنه يلزم الأمر بتحصيل الحاصل كما في باب الضدّين اللذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون فإنه لا يمكن الترتّب لأنه أمرٌ بتحصيل الحاصل ، فهو لم يعلّل بتلك النكتة بل علّل بنكتة لزوم المعارضة بين الدليلين ، ولماذا ؟

والجواب:- إنّ النكتة في ذلك هو أنه لا يلزم محذور الأمر بتحصيل الحاصل؛ إذ المكلف يمكن أن يعصي القراءة الجهرية بأن لا يقرأ أصلاً ويبقى ساكتاً ، فلا يلزم محذور الأمر بتحصيل الحاصل لوجود شقٍّ ثالثٍ في البين بأن يترك القراءة رأساً ، فليست القراءة الجهرية والقراءة الاخفاتية من قبيل الضدّين اللذين لا ثالث لهما بل هناك ثالث وذلك بترك القراءة رأساً ، ولعله علّل بالتعارض دون هذا لهذه النكتة.

وعلى أيّ حال هو علّل بأنه يلزم التعارض بين الدليلين.

ويردّه:- نحن إذا قبلنا فكرة الأمر الترتّبي وأنّه لا يلزم من فكرة الترتّب طلب الجمع بين الضدّين والتكليف بغير المقدور فلا فرق بين أن يكون التضادّ في بعض الأوقات أو يكون تضاداً دائمياً ، فحتى لو فرض أنّ التضادّ كان دائمياً فمادام الأمر الترتّبي يرفع محذور طلب الجمع بين الضدّين فهنا أيضاً كذلك يأتي ويرتفع التعارض بين الدليلين ، فالمولى يمكن أن يقول صلّ مع الجهر في قراءتك فإن عصيت فأخفت لا أنك تسكت رأساً ولا تقرأ ، وبالتالي لا يلزم محذور طلب الجمع بين الضدّين ، وبالتالي لا يتحقّق تعارض بين الدليلين ، فإذا قبلنا أنّ فكرة الترتّب ترفع محذور طلب الجمع بين الضدّين فتطبيقها يرفع حتى في الضدّين اللذين يكون التضادّ بينهما دائمياً ، وإذا فرضنا أنها لا تنفع فهي لا تنفع وسواء كان التضادّ دائمياً أو كان ليس بدائمياً.

إذن أخذ هذا الاشتراط بعين الاعتبار من قبل الشيخ النائيني(قده) شيءٌ مرفوض . هذا كلّه بالنسبة إلى الحالة الأولى من الحالات التي وقع فيها الكلام وقد اتضح أنها مرفوضة وما ذكره الشيخ النائيني(قده) مرفوض.

الحالة الثانية:- ذكر الشيخ النائيني(قده) أيضاً في أجود التقريرات[3] أنّ هناك حالة ثانية لا يمكن أن يجري فيها الترتّب وهي ما إذا فرض أنّ أحد التكليفين كان مشروطاً بالقدرة الشرعية والآخر كان مشروطاً بالقدرة العقلية.

وما الفرق بين القدرة الشرعية والقدرة العقلية ؟

وجوابه واضح:- وهو أنه يقصد هنا أنه متى ما كانت القدرة مأخوذة في لسان الدليل ﴿ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ﴾ فهذه القدرة مأخوذةٌ في لسان الدليل ونسمّيها بالقدرة الشرعية وهي مصطلح ، يعني أنَّ الشرع أخذها في موضوع الحكم فهي قدرة شرعية إذ الشارع قد أخذها ، بينما القدرة العقلية لم يأخذها الشارع في لسان الدليل وإنما العقل يكون حاكماً بها من دون أن يأخذها الشرع بلسان الدليل ككل التكاليف فإنّ كلّ تكليفٍ هو مشروط بالقدرة - أما على غير رأي السيد الخوئي والسيد الخميني فالتكليف ليس مشروطاً بالقدرة وإنما المشروط هو الامتثال والتنجّز لكن على الراي المشهور هو أنّ كلّ تكليفٍ مشروط بالقدرة العقلية ولكن القدرة ليست مأخوذة في لسان الدليل فيعبر عنها بالقدرة العقلية أما تلك المأخوذة في لسان الدليل فهي قدرة شرعية - ، فالشيخ النائيني(قده) يقول إذا كان أحد الدليلين قد أخذت فيه القدرة الشرعية بينما التكليف الثاني لم تؤخذ فيه القدرة الشرعية بل أخذت القدرة العقلية فالترتّب ليس بممكن ، ومثّل لذلك بالتيمم والوضوء حيث ورد في سورة المائدة:- ﴿ يا أيها الذين آمنوا إّذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ...... وإن كنتم مرضى أو على سفرٍ أو جاء أحدٌ منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيبا ﴾ ، والشيخ النائيني(قده) يقول الوضوء مشروطٌ بالقدرة الشرعية بينما التيمم مشروط بالقدرة العقلية.

ومن أين لك هذا ؟ قال:- حينما قالت الآية الكريمة ﴿ فلم تجدوا ماءً فتيمموا ﴾ فالوجدان هنا بمعنى القدرة وليس بمعنى وجود الماء لأنه مثّل بالمرض وغير ذلك فالمقصود من الوجدان هنا القدرة ، يعني فلم تقدروا على استعمال الماء فتيمموا ، ومفهومه سوف يصير ( إذا قدرتم فالحكم هو الوضوء ) ، فإذن القدرة مأخوذة في وجوب الوضوء ولكن بواسطة المفهوم لا بواسطة المنطوق ، بينما التيمم لم تؤخذ فيه القدرة ، فإذا لم تكن مأخوذةً في وجوب التيمّم بل عدم القدرة مأخوذة في التيمم فالقدرة ليست مأخوذة في التيمم ، إنما القدرة مأخوذة في وجوب الوضوء . ومن أين عرفنا أنّ القدرة مأخوذة في وجوب الوضوء ؟ أنا قلت:- بالمفهوم ، ولكن الشيخ النائيني(قده) جاء بقاعدةٍ ثانية حيث قال:- لأجل أن التفصيل قاطعٌ للشركة.

وما هو ربط هذه القاعدة بمقامنا ؟

هو يقول:- إن الآية فصّلت بين التيمم وبين الوضوء وقالت التيمم يجب حينما لم تقدروا على استعمال الماء ولازم تفصيلها بينهما أنّ الموضوع هناك يصير ليس عدم القدرة إذ لو كان الموضوع هو عدم القدرة فلماذا فصّلت الآية الكريمة فإنّ التفصيل يكون بلا وجه ، فهي فصّلت بين الوضوء وبين التيمّم فإذا كان الموضوع لهما واحداً وهو عدم القدرة فالتفصيل لا معنى له ، فذكر التفصيل يقطع احتمال الشركة يعني الاشتراك في الموضوع وفي الحكم.

ونحن ذكرنا هذه القاعدة في المقدّمات الأصولية في مقدّمة هذه الدورة الأصولية وقلنا إنّ مستند قاعدة ( التفصيل قاطعٌ للشركة ) هو العرف ، فإنّ العرف يفهم من ( إذا جاء هذا فافعل كذا وإذا جاء ذاك فلابد وأن يكون الحكم شيء آخر ) وإلا لو كان نفسه فنقول له ( إذن لماذا تفصّل بل قل إذا جاء أحدهما أو كلاهما فافعل كذا فلماذا تفصّل ؟ ) ، فالتفصيل فيه دلالة عرفيّة على أنّ الموضوع والحكم مختلف . فهو(قده) تمسّك بهذه القضية حث قال إنَّ نفس التفصيل يقطع احتمال الاشتراك بينهما في الموضوع وفي الحكم ، فالموضوع مختلف ، فموضوع التيمم عدم القدرة ، وموضوع الوضوء هو القدرة ، فإذا صار وجوب الوضوء قد أخذ فيه القدرة فالملاك حينئذٍ سوف يكون خاصّاً بحالة القدرة أمّا حالة عدم القدرة فلا مثبت للملاك فإنّ الآية الكريمة خصّصت الوجوب بحالة القدرة على استعمال الماء فالملاك يختصّ بجالة القدرة ، فعلى هذا الأساس إذا أراد المكلّف أن يعصي في مورد الوضوء ويتيمّم فتيمّمه لا يمكن تصحيحه بالأمر الترتّبي لأنّ تيمّمه في حالة القدرة لا ملاك فيه ، وبالعكس فرضنا أنّه في مورد التيمّم أراد أن يتوضأ فالشيخ النائيني(قده) يقول لا يمكن تصحيحه حتى بالترتّب لأنه لا يوجد ملاك فإنّ الملاك يختصّ بحالة القدرة وأنت الآن لست بقادرٍ على الوضوء فلا يوجد ملاكٌ فالأمر ترتبي ليس بممكنٍ فإنّ الأمر فرع الملاك وحيث لا ملاك فلا أمر ترتّبي.


[1] وفرق هذا التنبيه عن الأوّل هو أنه في التنبيه الأول قلنا نذكر حالات لا يمكن أو لا فائدة فيها، أمّا هنا فنريد أن نذكر حالات وقع فيها خلاف في أنه يمكن أو لا يمكن، وكان من المناسب أن نذكر هذا التنبيه بعد التنبيه الأوّل لأنهما من وادٍ واحدٍ.
[2] أجود التقريرات، الخوئي، ج1، ص310.
[3] اجود التقريرات، الخوئي، ج1، ص309.