الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
37/08/20
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- التنبيه الاول ( مبحث الترتب ) - مبحث الضد.
الحالة الثانية:- ما إذا بنينا على أنّ صحة العبادة يكفي فيها ثبوت الملاك ولا تتوقف على الأمر - خلافاً لما ينسب إلى بعض وربما ينسب هذا إلى صاحب الجواهر(قده) من أنّ صحة العبادة تتوقف على الأمر فإذا قلنا أن صحة العبادة تتوقّف على الأمر فهناك حاجة إلى فكرة الترتّب حيث من خلالها سوف نحصل على أمر بالصلاة فتقع الصلاة صحيحة بواسطتها - كما هو الصحيح فالصحيح هو أن صحّة العبادة لا تتوقف على الأمر بل يكفي ثبوت الملاك والدليل على ذلك هو أنّ صحّة العبادة تحتاج إلى شيئين ملاك - أي محبوبية - وإلى مقربيّة ، والمحبوبية موجودةٌ؛ إذ قد فرضنا أنّ الملاك موجود والمقرّبية موجودة لأنه يمكن للمكلف أن يتقرّب من خلال قصد الملاك والمحبوبيّة ولذلك أنت تتقرّب إلى والدك أو أمّك لأنها تحبّ قطعة قماش مثلاً ، فهي لم تقل لي جئني بقطعة قماشٍ ولكني أظنّ أو أتيقن أنها تحبّ ذلك فأشتري لها قطعة قماش جّيدة وأعطيها لها فهنا يحصل تقرّبٌ إلى الأم بلا إشكال رغم أنها لم تأمرني ، فالمقرّبية يكفي في تحققها أن يكون الشيء ذا ملاكٍ - يعني يكون محبوباً - ومقربيّة ويكفي في المقربيّة قصد المحبوبية ، فعلى هذا الأساس لا نحتاج إلى أمر.
فإذا قلنا بأنَّ صحة العبادة متوقّفة على الأمر فالحاجة إلى فكرة الترتّب واضحة ، أما إذا قلنا بأنَّ صحّة العبادة لا تتوقف على الأمر فربما يقال لا نحتاج إلى فكرة الترتّب لأنه إذا كنّا لا نحتاج إلى أمرٍ وكان الملاك كافياً في صحّة العبادة فحينئذٍ نأتي بالصلاة المزاحمة بالإزالة لأجل محبوبيتها فإنّ المزاحمة بالإزالة تزيل الوجوب أو بالأحرى الأمر بالصلاة لأنه لا يمكن أن يجتمع الأمر بالصلاة والأمر بالإزالة ، فالأمر بالإزالة يزيل الوجوب عن الصلاة ولكنه لا يزيل محبوبيتها فالمحبوبية تكون باقية وإذا كانت باقية فيمكن قصد التقرّب من خلال المحبوبيّة ، فإذن لا نحتاج إلى الأمر الترتّبي.
إذن فكرة الأمر الترتّبي نحتاج إليها فيما إذا بنينا على أنّ صحة العبادة تتوقف على قصد الأمر ، إما إذا قلنا يكفي قصد الملاك في صحّة العبادة فلا فائدة في فكرة الترتّب لإمكان تصحيحها بقصد الملاك ، هكذا ربما يخطر إلى الذهن.
والجواب ما تقدّمت الاشارة إليه:- من أنه لو كان الملاك موجوداً حقاً فنسلّم أنه لا تظهر ثمرة لفكرة الترتّب ، لكن من أين تثبت أنّ الملاك باقٍ على حاله فإنّ الكاشف عن الملاك هو الأمر وحيث إنّ الأمر بالصلاة قد سقط جزماً للأمر بالإزالة فلا كاشف عن ثبوت الملاك في الصلاة ، إلا أن تقول كما قال صاحب الكفاية(قده) أنّه حتماً سقط الأمر لا لأجل عدم الملاك بل لأجل وجود المانع لا لعدم المقتضي ، ولكن أجبنا فيما سبق وقلنا هو أيضاً أجاب نفسه بنفسه حيث قال إنّ انتفاء أحد المتنافيين كما يمكن أن يكون لوجود المانع لا لعدم المقتضي كذلك يمكن أن يكون لعدم تحقّق المقتضي ، فالأمر بالصلاة حين المزاحمة بالإزالة يمكن أن يكون قد زال هذا الأمر بالصلاة لأجل أنها الآن ليس فيها مصلحة فإنّ المصالح لا يعرفها إلا علام الغيوب ، فلا نتمكن أن نجزم بأنّ الملاك والمصلحة موجودٌ حتماً ومن قال بأنّه موجودٌ حتماً فقد جازف ، فعلى هذا الأساس لا نجزم ببقاء الملاك عند سقوط الأمر بالصلاة ، فحتى بناءً على كفاية الملاك في صحّة العبادة نحتاج إذن إلى فكرة الأمر الترتّبي إذ من دون فكرة الأمر الترتّبي لا كاشف عن ثبوت الملاك ، فالحاجة إلى الأمر الترتّبي ثابتة حتى بناءً على كفاية الملاك في صحّة العبادة.
الحالة الثالثة:- إنّ فكرة الترتّب لا نحتاج إليها فيما إذا بنينا على أنّ القدرة لا تعتبر في متعلّق التكليف ، وهذا شيء ظريف ولطيف ، يعني مثل السيد الخوئي والسيد الخميني ذهبا إلى أنّ القدرة ليست شرطاً في متعلق التكليف ، ونحن نقول:- إنّ لازم ذلك أنكما لا تحتاجان إلى فكرة الترتّب لأنّ فكرة الترتّب نحتاج إليها لتصحيح الصلاة عند الأمر بالإزالة والحال أنه بناءً على ما تذهبان إليه يمكن تصحيح الصلاة بأمر ( أقيموا الصلاة ) الموجود فإنّه لا يسقط رغم وجود الأمر بالإزالة ، فالمكلف يقصد امتثال الأمر بالصلاة لأنه بَعدُ موجودٌ وليس بساقطٍ لأنّ غاية ما يلزم من ثبوته مع ثبوت الأمر بالإزالة هو التكليف بالجمع بين الضدّين وعلى رأي العلمين التكليف بالمجمع بين الضدّين كتكليفٍ هو جائزٌ لأنه لا تشترط القدرة في معلّقه ، وهذا لازمٌ يسجّل عليهما ، واستبعد أنهما يلتزمان بذلك .
وبهذا اتضح أنّه في حالتين لا تظهر الثمرة لفكرة الترتّب وهما الحالتان الأخيرتان ، وفي موردٍ ثالثٍ لا يمكن الترتّب لا أنه لا تظهر ثمرة وهي الحالة الأولى ، ولذلك أعطينا العنوان لهذا التنبيه الأوّل بأن هناك حالات إمّا لا يمكن فيها تطبيق فكرة الترتّب ونشير بها إلى الحالة الأولى وهي بناءً على أنّ الأمر بالإزالة يقتضي النهي عن الصلاة فلا يمكن تطبيق فكرة الترتّب لما أشرنا إليه لأنه يلزم أنّ الصلاة مأمور بها وغير مأمور بها.
فإذن إمّا أنه لا يمكن تطبيق فكرة الترتب أو لا تظهر ثمرة وهذا مثل الحالة الثانية والثالثة فإنه قلنا لا تظهر ثمرة وإن كانت الحالة الثانية قد رفضناها ولكن الحالة الثالثة وجيهة وتامّة فإنه بناءً على أنّ القدرة ليست شرطاً في متعلّق التكليف فلا نحتاج إذن إلى فكرة الترتّب.
التنبيه الثاني:- ثمرة فكرة الترتّب.
ثمرة الترتّب على ما هو المعروف - وهذا ما قد ذكرناه سابقاً - تظهر في صحّة الضدّ العبادي مثل الصلاة إذا زوحمت بالإزالة ، فالأمر بالضدّ العبادي سوف يسقط لأجل الأمر بالواجب وهو الازالة ، فيسقط الأمر بالصلاة إذ لا يمكن توجيه تكليفين في عرضٍ واحدٍ وفي وقتٍ واحد ، فإذا سقط آنذاك فلو أتى المكلف بالصلاة فكيف نصحّح الصلاة والمفروض أنه إذا سقط الأمر لا كاشف عن الملاك ، فالثمرة هنا تظهر ، ففكرة الترتّب تقول أنا أوجد لكم أمراً بالصلاة مترتّباً على عدم امتثال الأمر بالإزالة ، فبناءً على قبول فكرة الترتّب يمكن تصحيح الصلاة ، وبناءً على رفض فكرة الترتّب كما رفضها العلمان الأنصاري والخراساني - في الكفاية وفي الرسائل - فحينئذٍ تقع الصلاة فاسدةً . هذه ثمرة معروفة لفكرة الترتّب.
ولكن الأجدر في صياغة الثمرة أن يقال:- إنه بناءً على إمكان فكرة الترتّب سوف تقع مزاحمة بين التكليفين بين أمر أزل وأمر صلِّ لا معارضة ، بينما بناءً على عدم إمكان فكرة الترتّب تقع معارضة بينهما ، وإذا وقت مزاحمة ففي مثل هذه الحالة يقدّم الأهم وهو الأمر بالإزالة لأنه أمرٌ فوري ويبقى الأمر بالمهم حيث يوجد به أمرٌ ترتّبي بناءً على فكرة الترتّب فيقع صحيحاً من خلال الأمر الترتبي ، وأما إذا قلنا بالمعارضة فلا يمكن تصحيح الصلاة آنذاك بالأمر الترتّبي.
إذن الثمرة هي وقوع التزاحم بناءً على الإمكان ولازم التزاحم وقوع الضدّ العبادي صحيحاً بالأمر الترتّبي ، بينما بناءً على عدم إمكان الترتّب تقع معارضة ولازم المعارضة عدم صحّة الضدّ العبادي - أي الصلاة - إذ لازم المعارضة سقوط أحد التكليفين وهو الأمر بالصلاة فتبقى الصلاة بلا أمر فتقع باطلة ، أما كيف بناءً على إمكان الترتّب يقع آنذاك مزاحمة لا معارضة ؟ الوجه في ذلك أنّ المعارضة تعني أنّ التكليفين لا يمكن تشريعهما في عالم التشريع واجتماعهما في عالم الجعل والتشريع فلا يمكن أصل صدورهما من المولى فإذا بنينا على إمكان فكرة الترتّب فصدور الأمرين حينئذٍ سوف يكون شيئاً ممكناً لعدم المنافاة بينهما في عالم التشريع فيمكن للمولى أن يقول أزل مطلقاً وإن لم تشتغل بالإزالة فعليك الصلاة.
فإذا بنينا على إمكان هذا فصدور التكليفين في عالم التشريع يكون شيئاً ممكناً ، وإذا كان ممكناً فحينئذٍ لا تقع معارضة لأنّ المعارضة معناها عدم إمكان صدو التكليفين في عالم التشريع وهنا أمكن فلا تصير معارضة ، نعم تتحقق مزاحمة بينهما في عالم الخارج فإنه لا يمكن الاتيان بهما معاً فبناءً على إمكان فكرة الترتّب تقع مزاحمة لا معارضة وإذا كانت مزاحمة فتقع الصلاة صحيحة بالأمر الترتّبي الذي فرضنا إمكانه ، وأمّا بناءً على عدم إمكان فكرة الترتّب فسوف تقع المعارضة ، ولماذا ؟ لأنه بناءً على رأي الشيخ الأعظم والخراساني لا يمكن للمولى أن يقول أزل فإن لم تشتغل فصلِّ فإنّ هذا تكليف بالجمع بين الضدّين ، فإذا كان الأمر كذلك - أي يكون تكليفاً بالجمع بين الضدّين - فصدور مثل هذا التشريع من قبل المولى في عالم التشريع يصير غير ممكناً وبذلك تتحقّق المعارضة حينئذٍ , إذا صارت معارضة فلازم المعارضة ثبوت واحدٍ وسقوط الآخر ، وحيث إنّ الأمر بالإزالة هو الثابت بالإجماع لأنّ الصلاة لها امتداد فإذا سقط الأمر بالصلاة تقع الصلاة حينئذٍ باطلة لعدم ثبوت الأمر بها بسبب المعارضة.
إذن الخلاصة:- المناسب في صياغة الثمرة أن يقال كما أشرنا يعني بناءً على إمكان الترتّب لا معارضة بين التكليفين بل يمكن صدورهما من المولى فتقع الصلاة صحيحة بالأمر الترتّبي , وبناءً على عدم الامكان تصير معارضةً ولازم المعارضة سقوط أحد الأمرين ، وحيث إنّ الساقط هو الأمر بالصلاة للإجماع فتقع الصلاة آنذاك باطلة.
بل ربما تصعّد اللهجة ويقال:- دعونا عن مسألة صحّة الصلاة وفسادها ، فحتى لو قلنا بأنّ الصلاة صحيحة على كلا التقديرين ولو بالملاك مثلاً فرغم ذلك تبقى الثمرة سالمة ، فالثمرة هي أنه بناءً على إمكان الترتّب يصير بين الدليلين مزاحمة - أي بين دليل أزل ودليل صلّ - ، بينما بناءً على عدم إمكان الترتّب تقع معارضة ولابدّ وأن يكون أحدهما ثابتاً دون الآخر وكفى بهذا المقدار أن يكون ثمرةً ولا يلزم أن تكون الثمرة هي صحّة الصلاة أو فسادها.
اللهم إلا أن يقول قائل:- إنّ هذه ثمرة علميّة وليست عمليّة والثمرة العلميّة لا تكفي أن تكون ثمرةً للمسألة الأصولية فإنّ المسألة الأصولية تحتاج إلى أن تترتّب عليها ثمرة عمليّة ، ففي عمل المكلّف يلزم أن تظهر الثمرة ، أمّا مجرّد أنّها ثمرة نظرية وليست عمليّة فهذه لا تكفي لصيرورة المسألة أصولية.
وعلى أيّ حال هذا ما يمكن أن يقال في تصوير الثمرة.