الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

37/06/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- المقدمات المفوّتة - الواجب المعلق والواجب المنجّز- تقسيمات الواجب - مقدمة الواجب.

هذا ويمكن أن يقال:- إنّ حديث رفع القلم وإن كان يرفع القلم عن الصبي قبل بلوغه ولكنه في نفس الوقت يدلّ بالمنطوق - أو بالمفهوم - على أنه لم يرتفع عنه القلم بعد بلوغه ، فإذا بلغ فالقلم موجودٌ ، ومن جملة أفراد القلم هو قلم الصلام ، فبمجرد أن يبلغ فسوف يوضع عليه قلم الصلاة ، فإنه قال:- ( رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم ) ، يعني إذا بلغ فقد وضع عليه قلم كلّ التكاليف وأحدها الصلاة ، وإذا كان قلم الصلاة عليه موضوعاً بمجرد البلوغ فيكون هذا الحديث دالاً بالالتزام على أنه يجب التعلّم قبل البلوغ؛ إذ المفروض أنه تجب الصلاة عليه بمجرّد بالبلوغ ، وحيث كان أداء الصلاة موقوفاً على العلم فعلى هذا الأساس يكون التعلّم واجباً بنفس دلالة هذا الحديث ، يعني من نفس هذا الحديث نستطيع أن نستفيد الوجوب الشرعي للتعلّم قبل البلوغ ، فقبل البلوغ كلّ التكاليف مرتفعة إلا واحد وهو التعلّم لأنه يتوقف عليه امتثال التكاليف عند البلوغ.

ونؤكد ونقول:- إمّا أن نقول إن الحديث يدلّ على وجوبٍ شرعي للتعلّم ، أو نقول:- على الأقل هو لا يدل على نفي وجوب التعلّم كما داعاه السيد الخوئي(قده) حيث قال إنّ الحديث يدل على عدم الوجوب شرعاً للتعلّم قبل البلوغ ، ونحن في المقابل نقول:- إنّ الحديث مادام قد دلّ على وجوب الصلاة بمجرّد البلوغ فهو يدلّ على وجوب التعلّم قبل البلوغ والوجوب وجوب شرعي ، أو نخفف اللهجة ونقول:- على الأقل هو لا يدلّ على نفي وجوب التعلّم وإلا يلزم من ذلك التناقض أو شبه التناقض ، إذ كيف يقول تجب الصلاة بمجرد البلوغ وفي نفس الوقت يقول لا يجب التعلّم قبل البلوغ الذي يتوقف عليه فعل الصلاة عند البلوغ ؟!! فهذا اشبه بالمتناقضين والمتنافيين فلا يحتمل صدوره من قبل الشرع.

إن قلت:- لماذا لا تعكس وذلك بأن نقول:- إنّ الحديث يدلّ على أنّ كلّ تكليفٍ هو مرفوع قبل البلوغ ، ومن تلك التكاليف وجوب التعلّم ، ولازم ذلك عدم وجوب الصلاة عند بالبلوغ.

قلت:- إنّ وجوب الصلاة لا يحتمل أحدٌ ارتفاعه عن البالغ ، فكلّ بالغٍ تجب عليه الصلاة بمجرّد بلوغه وهذا من المسلّمات التي لا تقبل التخصيص ، نعم لو كان يقبل التخصيص فما ذكرته يكون مقبولاً ، ولكن هذا ينبغي أن يكون من المسلّمات ، فثبوت وجوب الصلاة بمجرّد البلوغ لمن يمكنه أداء الصلاة من المسلّمات أنه واجب ، فإذا كان من المسلّمات فلا يمكن أن نورد هذا الاشكال والنقض ، فيلزم من وجوب الصلاة بمجرد البلوغ أن يكون التعلّم واجباً قبل البلوغ إما بوجوب شرعيٍّ أو بوجوبٍ عقليٍّ ويكون هذا تخصيص في عموم الحديث الدال على أن لا يثبت القلم على الصبي قبل بلوغه إلا بمسألة التعلّم قبل البلوغ فإنه في هذه الحالة يجب التعلّم.

هذا كلّه بالنسبة إلى مسألة وجوب التعلّم وبذلك ننهي كلامنا عن مبحث الواجب المعلّق والمنجز.

الواجب النفس والغيري[1]

المعروف كما جاء في الكفاية أيضاً أنّ الواجب الغيري هو ما وجب لأجل واجبٍ آخر ، بخلاف الواجب النفسي فإنه لم يجب لواجبٍ آخر ، هكذا عرّفوه.

وقد أشكل عليه:- بأنه بناءً على هذا كلّ الواجبات النفسية سوف تصير غيرية ن لأن كلّ واجب نفسيٍ حتماً هو وجب لأجل ملاكٍ وإلا يلزم العبث والعبث قبيح والقبيح لا يصدر من الحكيم ، فإذا كان ناشئاً من ملاكٍ ومصلحةٍ فتلك المصلحة هل هي واجبة أو لا ؟ إنها واجبة حتماً ، إذ لو لم تكن واجبة كيف يصير غير الواجب علة لتحقق الواجب - كوجوب الصلاة ووجوب الصوم وغيرهما - ، وهل غير الواجب يولّد الواجب ؟!! إنّ هذا غير ممكن ، وإنما الواجب يولد واجباً وهذه من القضايا البديهية ، فإذن الملاك يلزم أن يكون واجباً ، فإذا صار واجباً فحينئذٍ سوف ينطبق على الصلاة والصوم وغيرهما من الواجبات النفسية تعريف الواجب الغيري ، يعني يصدق عليها أنها وجبت لغيرها - أي لواجبٍ آخر - ، فالصلاة وجبت لواجبٍ آخر وهو الملاك والصوم وجب لواجبٍ آخر ، فكل الواجبات النفسية سوف تصير غيريّة ولا يبقى واجباً نفسياً إلا وهو داخل تحت الواجب الغيري إلا واجباً واحداً وهو معرفة الله عزّ وجلّ فإنها مطلوبة بالذّات لا أنها مطلوبة لأجل ملاكٍ آخر ، بل معرفة الله بما هي معرفة بنفسها حسنة ومحبوبة وواجبة ، وإذا أردت أن تشكك حتى في هذا وتقول إنه حتى معرفة الله عزّ وجلّ هي وجبت لنكتةٍ أخرى فحتى المعرفة سوف تصير واجباً غيرياً ، وسوف يتسع الاشكال أكثر ولا يبقى لنا واجب نفسي في التشريع الإسلامي ، وهل تلتزم بهذا ؟ إنه لا يمكن الالتزام به.

هذا إشكال وجه على تعريف الواجب الغيري والنفسي ، وقد أجيب عنه ببعض الأجوبة.

والجواب الصحيح أن يقال:- نحن نسلّم أنّ الصلاة وجبت لأجل ملاكٍ ، وهكذا الصوم ، وألا يلزم اللغوية ، ولكن من قال انّ الملاك واجب علينا ؟!! إنه ليس بواجبٍ علينا ، وإنما الله عزّ وجلّ أوجب علينا الصلاة فقط أما الملاك فهذه قضية ترتبط به تعالى وبالتشريع لا أنه أشغل ذمتنا بذلك ، ولذلك لو صلّيت وانتهيت من الصلاة ثم شككت هل أنّ صلاتي حققت الملاك أو لا فهنا تلزمني الاعادة مرّة ثانية ، وإذا اكملت الثانية ثم شككت بأنه هل حقت الملاك أو لا فعلي أن أعيدها مرة ثالثة ..... ، وهكذا علي أن أعيد كلما شككت في تحقق الملاك ، ولكن نقول إنّ الله عزّ وجلّ لا يريد منّا الملاك ، بل كلّفنا بهذه الأفعال أمّا ما وراءها فهذه ترتبط بالتشريع وبالله عزّ وجلّ ولم يشغل ذمتنا بها ولم تجب علينا ، فيصدق حينئذٍ على الصلاة أنها وجبت لا لأجل واجبٍ آخر ، وهكذا الصوم ، نعم نسلّم أنّ الصلاة وجبت لأجل ملاكٍ إلا أنّ الملاك لا يجب علينا تحصيله ، وإنما هو لازم في منظور المولى ولأجله شرّع وجوب الصلاة ولكن لم يشغل ذمّتنا به ، وعليه فلا يرد الاشكال المذكور.

نعم من فسّر الوجوب بالإرادة وليس بإشغال الذمّة واعتبار الفعل في الذمّة قد يقع في ضيق ، أما نحن الذين قلنا بأنّ الوجوب هو قضيّة إشغال ذمةٍ واعتبارٍ وجعلٍ في الذمة فالمولى يجعل شيئاً ويشغل به الذمة فنقول هو لم يجعل وجوب الملاك ولم يشغل ذمّتنا به فلا يصدق على الملاك أنّه واجب ، أما الشيخ العراقي(قده) الذي لا يوجد عنده اشغال ذمّة واعتبار فهو قد يقع في ضيقٍ من هذه الناحية ، فإذن التعريف لا مشكلة فيه.

مقتضى الأصل عند الشك في النفسية والغيرية:-

والمقصود إنّ الواجب إذا عرفنا أنه نفسي فلا إشكال ، وإذا عرفنا أنه غيري فلا إشكال أيضاً ، أما إذا تردّد أمره بين النفسيّة والغيريّة من قبيل ما لو فرض أنّ المولى أمر بكنس المكان وقال ( اكنسه كل يوم ) والعامل شك بأنّ هذا هل وجب لواجبٍ آخر وهو لأجل الدرس مثلاً وفي يوم كذا لا يوجد درس لمناسبةٍ كالتعطيل ، فإذا كان واجباً غيرياً فلا يجب حينئذٍ الكنس في هذا اليوم أمّا إذا كان واجباً نفسياً باعتبار أن هذا مكان شريف ولابد وأن يكون نظيفاً في كلّ يوم فيلزم كنسه وإن لم يكن هناك درس ، فهنا ماذا يقتضي الأصل ؟

والكلام تارةً يقع في مقتضى الأصل اللفظي ، وأخرى في مقتضى الأصل العملي ، والمقصود من الأصل اللفظي ما يقتضيه الظهور ، فظاهر الكلام ماذا يقتضي فهل يقتضي النفسية أو الغيرية ؟ فإن تعيّن عندنا شيء فبها ، وإذا لم يتعيّن عندنا شيء فحينئذٍ نذهب إلى مقتضى الأصل العملي.

 


[1] وهو التقسيم الثالث للواجب.